مهدي غلاب *
يصور لنا المحدث ومهندس الأبعاد الفنية التوسكاني بيارو ديلاّ فرانشيسكا الملامح الرسولية والحالة القيمية لمصير الإنسانية في جدارية سردية مضيئة على منوال الأعمال المعروفة في الفترة الدينيّة، يظهر فيها البياض طاغيا كلون متفائل يفتح آفاق المسيرة ويطبع الغياهب البعيدة بالأمل والحياة، مع تأطير علوي بخلفيات قوطية لأقواس محدبة بزركشة ذات تأثير شرقي، تذكرنا بالمكان وبالمراجع المشرقية للرسل والخلق والبعث، وإعادة الخلق بعنوان «موت آدم».
استغرق إنجاز العمل أربع سنوات، وتعود بداياته إلى منتصف القرن الخامس عشر (1452). رسمت بحجم عملاق تجاوز السبعة أمتار عرضا، وقارب الأربعة أمتار ارتفاعاً (390X747). الجدارية المعروضة في وضع هش ومتآكل داخل كاتدرائية سان فرانسيسكو بأريزو شمال إيطاليا تعكس بدلالاتها، التي تتموقع بين الحياة والموت وضعيّة حساب صعبة للنبي الأول آدم، تتأرجح بين خلود فان وفناء خالد، العنصران تحركهما الخطيئة حتى لا يكاد ينتهي فصل إلا ليبدأ آخر في جدلية تكوين خلقية دينية قلقة موجعة ومكتنزة بالأحداث الدرامية الحساسة والمصيرية. فبعدما ارتكب النبي آدم المعمر في الأرض أكثر من تسعة قرون -بمشيئة الله – خطيئته ونزل إلى الأرض وجد ابنه شيث عليه السّلام خيرة أبنائه المؤمنين ووصيّته في الأرض، ليتدخل له مع الملاك جبريل حول إمكانية إعادته إلى الجنة وتحقيق الغفران بالوصول إلى شجرة الحياة، كما يظهر في عمق اللوحة، لاستعادة سمة الخلود للبشرية جمعاء، كما ورد في فصول الخلق السبعة المذكورة في سفر التكوين، بداية من خلق آدم من ضلع حواء ليأوي بعد ذلك إليها وتأوي إليه، كما هو مذكور كذلك في المرجع القرآني، مرورا بغواية الثعبان الذي أنزلت عليه اللعنة بعدما زرع أجنة الموت في مصير الإنسان، وصولا إلى معصية حواء لأوامر الخالق والأكل من شجرة الخير والشر، الذي أدى بهما أي آدم وحواء إلى اكتشاف سوأتهما (العري) والاختباء لإخفاء عورتيهما بورقة التين. هذه الخطيئة أدت بهما إلى السقوط والنزول للأرض. فكان عقاب الارتزاق والسعي في الأرض (العمل في الحقل) بالنسبة للرجل، والرعاية الأسرية (الإنجاب والتربية مع تبعات أوجاع الولادة) بالنسبة للمرأة.
هذا المحور الديني ظل حاضرا بقوة في الأعمال التشكيليّة العالميّة حتى بعد العصر الوسيط، في أعمال عديد الرواد والمجددين في فترة روما الباباوية وفلورنسا وجمهورية البندقية، وإمارة إربينو أمثال ألبرتي، ماساتشيو، ماسولينو، تيسيان، فيروناس، ميريسي وكل من العباقرة الثلاثة مايكل أنجلو، ليوناردو دافنشي ورافائيل، بحيث عرفت النهضة العليا (الكواتروتشنتو) بالخصوص تقدما في المبحث العلمي الرياضي (المنظور، الحجم، المحور، القريب، البعيد، الأشكال، الإيهام، الأفق، الدقة، التوازن، الجودة، التناسق) وتمسكا متباينا في المبحث الروحي (الخلق، المهد، البشارة، العشاء الأخير، حفل قانا، الهروب، الصلب، التجلي، القيامة) ما انفك يبدي خضوعا مبهما للمرجع الديني التوراتي والإنجيلي، امتدت سيطرته لمئات السنين، بحيث تزامن فجور مادونات بوتيتشلي مع خلق سيموني ومعجزات سنزيو مع تباشير لي بيروجين.
هذا الثقل الإيماني في عصور تميزت بأوج انتشار وازدهار العلوم يعود في الغالب إلى عمق الصدمة التي سببها التحول من السكينة إلى الانفعال ومن النشوة إلى الملنخوليا من جهة ولعظمة شأن الفصول الخلقية اللاهوتية، ومدى تأثيرها في يوميات الوسط المترف والمعدم على حد السواء. وما موت آدم إلا أحد هذه الفصول العظمى لمأساة الإنسانية.
مقدرات التحوّل من الخلود إلى الفناء:
إن احتواء الجدارية على ثلاثة مشاهد منفصلة على الأقل يجعلنا نحسم في المنحى السردي للأحداث التي تميزت بغياب الرمزية وتحرك الشخوص الرئيسية في علاقتها ببعضها، طبقا لتقدم مسيرة الخلق، في ارتباط وثيق بالمرجع السماوي وبعدد من الفصول الرسولية المذكورة في سفر التكوين التي تُعنى بمصير آدم ومن ورائه أبناؤه الخمسة وقرينته حواء ومحيطه وكل البشرية. فالنبي شيث حاضر في كل المشاهد من المشهد الأول على اليمين، الذي يبدو فيه نوح عاريا وشاحبا في وضعية جلوس تنبئ بوهن ونهاية محتملة يقف حوله من اليمين واليسار ثلاثة من أبنائه، بينما تتموقع حواء في وسط المشهد كمعنية بمصير الخلق بعد سقوط زوجها آدم. في النصف الأيسر من الجدارية يظهر النبي آدم ملقى على الأرض يحتضر كعجوز عاش ما يقرب من تسعة قرون ونصف القرن (939 عاما مع اختلافات بسيطة في المراجع) حسب المصادر التوراتية الأولى التي تربط الشأن اليهودي بالشأن المسيحي، يحيط به عدد كبير من الشخصيات منهم من يرفع يديه إلى السماء منتحبا (حواء على الأرجح) ومنهم من دخل في لحظة خشوع وتأمل للبعد المأساوي في مصير الخلق (شيت مع عدد من الحضور) ومنهم من تحدق عيناه في عيني الآخر في لحظة تساؤل وحيرة محتملة جراء فاجعة الفناء التي تنبئ بمصير جديد يتوجب فيه على الإنسان الاختيار بين الخير والشر وتقبل تبعات الأنسنة التي ترتبط بالموت والحساب والجزاء والعقاب وإعادة البعث مجددا.
في وسط العمل تتمركز شجرة الحياة واقفة بفروعها حاملة لأزهارها، ورغم الفراغ الناتج عن آثار الزمن والصيانة فإن موقع الشجرة جاء ليحيلنا إلى معطيين:
– الأول: اعتبارية البعد الجوهري للشجرة بحضورها الطاغي الذي يضاهي حضور الشخصيات الرئيسية، ناهيك عن أهمية دورها في تحديد قرار المصير الإنساني (الخلود والفناء).
– ثانياً: اعتبارية الحجم المهم الذي جعل الشجرة تغطي أجزاء كبيرة من الجدارية، ما يحيلنا إلى بعدين متزامنين هما الزماني اللامتناهي الذي يحيل إلى الخلود، والمكاني الرئيسي الذي يحيل إلى جوهرية المصير بين نهاية عالم الخلود بخروج آدم وحواء من الجنة وبداية عالم الفناء بالتأبين وقبول الموت، الذي يؤدي إلى معطى جديد أقرب للحياة البشرية منه إلى الحياة الإلهية، لاسيما أنها رسمت بين مشهدين هما السقوط (على اليمين) والبعث (على اليسار) بينما تظهر الخلفية مرة أخرى شخصية شع واقفا مع الملك جبريل يُناقش مصير احتمال عودة أبيه نوح إلى الجنة لاسترداد مفهوم الخلود.
تبقى مرجعية التناول الإيقونوغرافي للمشهد الغربي المقدس، مرتبطة أساسا بحضور الشخصية الجوهرية التي تحيلنا إلى المرجع السماوي المحدد، مع توافر عدد من الأشكال والرموز التي تربط بين الأحداث والحيثيات.
وتوجه المنحى العام للعمل الفني داخل الفضاء البصري، رغم أن شخصية آدم الأسطورية تتجاوز الدين والتاريخ، وترتبط بالمعاني الإنسانية، إلا أن القراءة البصرية الغربية التي جسدها الرسام وضبطها السياق الجمالي المفروض لا ترتبط بالفضاء الكوني العتيق، بل تدور في دائرة المشهد الإنجيلي ليتحول آدم الإله، إلى المسيح الرب يختزل معاناة البشر، ويتعهد بتخليص كل من أكل من لحمه وشرب من دمه (الكتاب المقدس) وتتحول حواء إلى مريم العذراء. في حين يتضح أنه من السهل تقبل أن يكون النبي شيث بذقن المبشرين وبرداء الحكماء حاملا لمشعل الرسالة المقبلة للحياة الزائلة على الأرض، متصلا بالأبعاد الإنسانية التي زرعها فيه آدم ومنفتحا على فضاءات الحوار بين الثقافات، لاسيما وأن العنصر المشرقي حاضر فيه بالصورة والفعل والرسالة الخالدة، كما أن دوره في بناء الكعبة الشريفة في الجزيرة العربية يعود إلى العصور الإبراهيمية.
وكما يقول المؤرخ دانيال أراس في هذا السياق: «إن الظهور المأساوي للإله في المشاهد التشكيلية يعني أنه سيختفي في وجوه الأطفال».
* كاتب تونسي
المصدر: القدس العربي