محمد عبدالمنعم الشاذلي *
لم يكن يوم 31 كانون الأول/ ديسمبر من عام 1991 هو آخر يوم في السنة فحسب، بل كان يوم النهاية لمرحلة ولتجربة، فهو اليوم الذي أعلن فيه نهاية الاتحاد السوفييتي.
استقبل الغرب الرأسمالي وعلى رأسه الولايات المتحدة الحدث بفرحة المنتصر وأعلنوا نهاية الاشتراكية، وبعد أن جرع الغرب من كأس النصر حتى الثمالة صور له خياله المريض أن التاريخ ذاته قد انتهى وأعلنوا تحرر الإنسان من ضوابط وكوابح المجتمع، وأن الرابح هو الشخص؛ العنصر الحاسم للتقدم والرخاء. واستمروا في هذا النهج حتى وصلوا إلى المطالبة بتحرر الفرد حتى من ضوابط الأسرة بل إلى درجة هدم الأسرة ذاتها التي هي الخلية الأساسية للمجتمع السوي، فلم يعد مكونها الأساسي أماً وأباً، رجلاً وامرأة منذ خلق الله آدم وحواء، بل يمكن الاستعاضة عن ذلك برجل ورجل أو امرأة وامرأة، لم يعد القوامة والوصاية على الأولاد للأم والأب فيحددون طريق البنت وطريق الولد، بل يؤجل تحديد الجنس إلى البلوغ فيختار كل منهما جنسه ودينه ومذهبه دون تدخل من الأهل.
صاحبَ فرحة ونشوة الانتصار الغربي حملة إعلامية ودعائية وسياسية للنيل من تجربة الاتحاد السوفييتي خاصة سجله في مجال حقوق الإنسان فأسهبت في تغطية المحاكمات التي نالت فلول أنصار تروتسكي في عام 1936، والتي نكلَ فيها ستالين بخصومه السياسيين، ثم حملة التطهير في صفوف قيادة الجيش التي استكمل بها ستالين التخلص من خصومه في عام 1938. كما أسهبت الدعاية في وصف مصير المعتقلين في سجون الجولاج، في سيبيريا كما أسهبت الآلة الدعائية الغربية أيضاً في وصف معاناة الشعب الروس أثناء القحط والمجاعة التي أصابت الاتحاد السوفييتي في الفترة من 1931 إلى 1933.
وفي إطار الحملة الممنهجة لتشويه التجربة الاشتراكية ألقت الآلة الإعلامية الغربية الضوء على تجربة الصين الشعبية وقيادة ماو تسي تونج فركزت على معاناة الشعب الصيني خلال تجربة ماو التي أسماها «الوثبة الكبيرة للأمام» The great leap forward التي استمرت من عام 1952 إلى عام 1958، وتقدِّر أجهزة الدعاية الغربية أن ما بين 30 و 45 مليون صيني وصينية هلكوا خلال هذه الفترة بسبب العمل القسري في ظروف في غاية القسوة، ونتيجة للمجاعات والقتل للمعارضين. وأتبع ماو تجربة الوثبة الكبيرة بتجربة أخرى استمرت من عام 1966 لمدة عشر سنوات حتى وفاته في عام 1976، وهي الثورة الثقافية التي تقدر الآلة الإعلامية الغربية ضحاياها بين نصف مليون ومليوني ضحية، فضلاً عن الدمار والتشويه الذي أصاب التراث الحضاري.
- • •
لا يمكن لمراجع منصف للتاريخ أن ينكر التجاوزات الهائلة التي تمت في الاتحاد السوفييتي وفي صين ماو تسي تونج ولكن هنا يثور سؤال: هل يدين التطبيق وما صاحبه من أخطاء، النظرية والفكرة التي قامت على العدالة الاجتماعية ومنع الظلم والاستغلال؟
لست هنا بصدد الدفاع عن التجربة السوفييتية أو التجربة الصينية أو إدانتهما ولكن لمحاولة تقييم فيها شيء من الإنصاف بعيداً عن الغوغائية السياسية والإعلامية. ماذا لو تصورنا أن الثورة الروسية لم تقع في عام 1917؟ عندما قامت الثورة كانت نسبة الأمية في روسيا تفوق الـ 90%، وكانت الخرافات والجهل والدجل باسم الدين شائعة شيوعاً كبيراً، وكان الراهب الماجن الدجال راسبوتين عنواناً له وكان الظلم في أبشع صوره شائعاً في الأقنان وعبيد الأرض. وإذا كان الجيش عنواناً لقوة وزخم الدولة فكانت هزيمة روسيا أمام اليابان في حرب عام 1905 عنواناً لذلك، فالعبد المُهان لا يدافع عن بلده. ويمكن مقارنة أداء الجندي الروسي في معركة Tannenburg في الحرب العالمية الأولى حيث هزم الجيش الروسي هزيمة مهينة وبين الصمود الأسطوري للجندي السوفييتي في معركة ستالينجراد في الحرب العالمية الثانية. لقد بدأ الاتحاد السوفييتي مشواره من تحت الصفر عقب الحرب العالمية الأولى والحرب الأهلية التي حارب فيها ضد فلول نظام القيصر مدعوماً بجيوش من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا واليابان، وراح ضحاياها في هذه الفترة أكثر من خمسة ملايين قتيل.
ومن بداية تحت الصفر انطلق الاتحاد السوفيتي للعالم وقدم كوكبة من أفضل العلماء والباحثين في شتى المجالات؛ الفيزياء والكيمياء والطب فضلاً عن مجموعة من أفضل الأدباء والفنانين والموسيقيين، وحافظ على فرقة البولشوي العريقة، وكانت جامعاته ومراكز أبحاثه قبلة للدارسين من شباب العالم الثالث، وأتاحت لهم العلم مما أسهم في تشكيل كوادر العالم الثالث العلمية والفنية. وفي مجال الرياضة كان الاتحاد السوفييتي يتنافس على القمة في عدد من الميداليات في كل دورة أوليمبية. هذه النخبة التي تربت في المجتمع الذي بنته الاشتراكية السوفييتية تميزت بالوطنية والولاء ولم تهرول نحو من يلوّح لها بالأصفر الرنان.
وبقدر تأثير تجربة الاتحاد السوفييتي على الشعب الروسي، كان لها أيضاً تأثيرها على الساحة الدولية. ولنا أن نتساءل هل كانت المستعمرات في أفريقيا وآسيا ستحقق الاستقلال وتنتصر على القوى الإمبريالية دون الدعم السوفييتي؟ ولعلنا في مصر نذكر موقف الاتحاد السوفييتي معنا أثناء العدوان الثلاثي ثم وقوفه مرة أخرى مع مصر بعد النكسة ودعمه العسكري أثناء إعادة بناء القوات المسلحة وحرب الاستنزاف.
- • •
كان سقوط الاتحاد السوفييتي نتيجة لأخطاء لا يمكن إنكارها منها غزو أفغانستان الذي فرض عليه أعباء اقتصادية فضلاً عن ردود فعل دولية غاضبة نقلت الحنق على الولايات المتحدة بسبب حرب فيتنام إلى غضب من الاتحاد السوفييتي بسبب أفغانستان، وقد انزلقت القيادة السوفييتية وراء لعبة الرئيس الأمريكي، رونالد ريجان، الذي طرح مبادرة الدفاع الاستراتيجي- عرفت بحرب النجوم- التي استنزفت أكثر الاقتصاد السوفييتي في محاولته مجاراة تمدد الحرب إلى أجواز الفضاء. ولعل من العوامل الهامة في قدرة الولايات المتحدة على الإنفاق العسكري هو تسويقها لتقناها العسكرية في المجال المدني وهو أمر عجز الاتحاد السوفييتي عن مجاراته. ومن العوامل الهامة أيضاً التي أسهمت في سقوط الاتحاد السوفييتي ثورة الاتصالات والإعلام عقب الحرب العالمية الثانية التي جعلت المواطن السوفييتي يتابع الرفاه الذي يتمتع به المواطن في العالم الغربي مقابل الحياة المتقشفة التي يحياها.
كانت هناك محاولات للإصلاح والاعتراف بالقصور، لعل أهمها شعار Eskorenie الذي أطلقه جورباتشوف والذي يشير إلى البعد الإنساني وضرورة رفع العناء عن المواطن وكسب رضائه فضلاً عن مبادرة Glasnost أي الشفافية لكشف السلبيات. لعل المبادرات تأخرت ولعل وصول بوريس يلتسن الذي رغم تحفظي على نظريات المؤامرة أكاد أجزم أنه كان عميلاً يسعى لهدم الدولة وأدى إلى الانهيار الأخير.
لست داعياً لإعادة تجربة ستالين وماو تسي تونج بكل سلبياتها وفظائعها لكن أرى أن الانحراف في التطبيق لا يجهض سمو فكرة الاشتراكية، ولعلي أسوق هنا كلمة الأديب والمفكر الأيرلندي Conor Cruise O’Brien «كما أن فظائع محاكم التفتيش لم تنل من سمو الديانة المسيحية، فإن فظائع ممارسات ستالين لم تنل من سمو فكرة الاشتراكية»، وللآلة الإعلامية والسياسية الرأسمالية الغربية أسوق لهم مقولة السيد المسيح «من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر». وأسوق فظائع الولايات المتحدة ضد السكان الأصليين والمكون الأسود من الشعب وما تعرض له الشعب الصيني الذين جُلبوا لمد خط السكة الحديد عبر القارة وهيروشيما ونجازاكي وفيتنام وأفغانستان والعراق.
نحن نحتاج إلى بُعد اشتراكي في حياتنا ليكون ملاذاً من توحش الرأسمالية التي تحولت إلى استهلاكية تنظر إلى الفرد ليس كإنسان ولكن كمستهلك يضغط حتى آخر قطرة من دمه لتمويل الجشع الرأسمالي الذي لا يشبع. نحتاج أن نعيد الأولوية للإنتاج قبل الاستهلاك وليحمينا من سطوة الإعلان الذي بات يسيطر على الإعلام والذي بات بدوره يهيمن على فكرنا وحياتنا.
* باحث وعضو المجمع العلمي المصري
المصدر: الشروق