برهان غليون *
أولاً، مفاجآت الحرب الفلسطينية الإسرائيلية:
بالرغم من أنّ معركة غزّة أعادت إلى الواجهة القضية الفلسطينية التي اعتقد الأميركيون والأوروبيون ومعظم الحكومات العربية أيضاً أنها انتهت وأسدل عليها الستار، فإن الصراع الحقيقي في المشرق والشرق الأوسط عموماً كان خلال العقود القليلة الماضية على منطقة الخليج العربي، وما تمثله من احتياطي كبير للطاقة الأحفورية وفوائض مالية استثنائية وأسواق استهلاكية عسكرية ومدنية، تشكّل السيطرة عليها ورقة استراتيجية رئيسة في يد الدول الكبرى المتنافسة على إعادة تشكيل النظام الدولي، بعد ما ظهر من إفلاس النظام الأحادي القطبية منذ بداية القرن الراهن.
ومن أجل الاحتفاظ بالسيطرة على هذا الكنز والاستفادة من كل ما يدرّ على الحائزين عليه من عوائد وريوع مادية واستراتيجية، خاضت الولايات المتحدة وشركاؤها من الدول الصناعية الأوروبية معارك وحروباً باردة وناريّة منذ أكثر من سبعة عقود، ضد الاتحاد السوفييتي السابق، وضد الدول الإقليمية التي بدأت تعتقد في التسعينيات أن بإمكانها المشاركة، ولو جزئياً، في هذا الكنز، واليوم ضد محاولات الصين وروسيا التغلغل في الإقليم وتكوين تحالفات تزيد من فرصها في زحزحة الدول الصناعية الغربية عن مواقعها الراسخة. وفي هذا السبيل، كبّدت مصر ثلاث هزائم عسكرية لتحييدها وإجبارها على الانسحاب من المنافسة وتوقيع اتفاقية مهينة تخلّت فيها عن سيادتها في سيناء التي فقدتها في حرب 1967، وقضي على العراق ودمّرت سورية وليبيا وزعزعت أركان الدول الصغيرة التي برزت فيها حركات مقاومة فلسطينية أو لبنانية. وفي جميع هذه الحروب، لعبت إسرائيل دور القاعدة المتقدّمة والعصا الغليظة لهذا التحالف، وكان لها قصب السبق في خوض هذه الحروب وربحها لصالح الغرب وبتأييده ودعمه الكاملين بالسلاح العسكري والدبلوماسي والسياسي، بما في ذلك تحييد القانون الدولي وتقويض عمل الأمم المتحدة للحفاظ على ما تبقّى من هذا النظام وما يرتبط به من وهم القيادة العالمية.
في هذا السياق، وقع هجوم 7 أكتوبر وقوع الصاعقة على وضع إقليمي كان الجميع يعتقد فيه أن سلام الأقوياء بدل الشجعان قد فرض نفسه، وزالت جميع العوائق أمام بسط “السلام” الأميركي والإسرائيلي وزوال المخاطر التي تفاقمت في العقود الماضية، فجاء “طوفان الأقصى” ليحطّم الآمال ويزعزع التوازنات التي كانت تُبنى لبنة لبنة منذ عقود. لم تأت المفاجأة من الجرأة الاستثنائية التي ميّزت هجوم المقاتلين الفلسطينيين واختراقهم حاجز الموت، ولكنها جاءت أكثر من الانهيار السريع وغير المسبوق لجيش الاحتلال وأجهزته الأمنية. أما المفاجأة الثالثة في هذه الحرب، والتي جعلت مآلاتها مستحيلة الحسم على جميع الأطراف، فهي من دون شك التخطيط المسبق لميدان المعركة والمقاومة طويلة النفس التي أبدتها الفصائل الفلسطينية، بالإضافة إلى صمود شعب غزّة والضفة الغربية البطولي والفدائي بالفعل، وكذلك من مقاومة العرب الوقوع في فخّ إدانة الفصائل الفلسطينية ومسايرة السياسة الأميركية.
هذه المفاجآت الثلاث هي التي جعلت من عملية عسكرية أو غارة فدائية محدودة الهدف، ترمي، على الأغلب، إلى تحرير بعض الرهائن والمعتقلين الفلسطينيين في سجون الاحتلال والاحتجاج على اعتداءات الإسرائيليين المتكرّرة على المسجد الأقصى ووقف عجلة التطبيع العربي الإسرائيلي، إلى حرب طاحنة يرى فيها الأميركيون والغربيون عامة تهديداً خطيراً لخطوطهم الدفاعية ونفوذهم الكبير في المشرق، وتستدعي، بالتالي، مواجهة شاملة لحماية مصالحهم واستثماراتهم الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية الكبيرة والتاريخية التي اعتقدوا أنها تتعرّض لتهديد خطير فيها، وفي المناسبة ذاتها فرصة لتلقين درسٍ قاسٍ ليس للفلسطينيين فحسب، وإنما أيضاً لجميع القوى الدولية والإقليمية التي تحاول منافستهم وتغيير موازين القوى لصالحها في المنطقة. كان الهدف الأكبر من الحرب الإسرائيلية الغربية في غزّة إعادة تثبيت نظام الشرق الأوسط الأميركي الأطلسي ومنع الدول العربية من الاعتقاد بانهيار الردع الإسرائيلي، واستعادة حريتها في إقامة علاقات دولية متنوعة، وبالتالي، إجبارها على الاصطفاف القوي وراءها والعمل حسب الأجندة الأميركية، ثم أخيراً حل المسألة الفلسطينية بما يتوافق مع مصالح إسرائيل وأهدافها التوسعية الاستيطانية والانتهاء منها مرّة واحدة وإلى الأبد.
لذلك، لم يأت الرد على سبيل التأديب والعقاب للفصائل “المتمرّدة”، وإنما من أجل إعادة تشكيل المنطقة التي بدأت تتحلّل شيئاً فشيئاً من ارتهانها للسياسة الأميركية وترسيخ أقدام إسرائيل في الشرق الأوسط، بوصفها قلعة الدفاع المتقدّمة عن المصالح الغربية وإزالة غزّة التي لا تزال شوكة في جسم الكيان الدخيل من الوجود، تمهيداً لخنق الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية، و”إقناع” الدول العربية، التي لا تزال متردّدة، بقبول التطبيع المجاني مع إسرائيل. لذلك لم تتأخّر العواصم الغربية ووسائل إعلامها، منذ اللحظة الأولى، عن تحويل “حقّ دفاع إسرائيل عن نفسها” إلى شعار مقدّس يخفي وراءه أغراض الحرب الحقيقية ويُجبر الجميع، بما فيهم العواصم العربية، على السير في خطى الحرب الأميركية وتحمل قسطهم فيها من “التضحيات”، وهو الموافقة على ترحيل الفلسطينيين من غزّة والضفة إلى سيناء والأردن، كما ناقشه وزير الخارجية الأميركي في أول زيارة له إلى القاهرة في بداية الحرب.
ثانياً: بين أميركا وإسرائيل
عقّد رفض الدول العربية هذا المشروع المسألة على الأميركيين الذين تبنّوا خطة نتنياهو كاملة، ورفضوا حتى الحديث عن هدنة أو حماية المدنيين، كما تبنّوا أهداف الحرب الإسرائيلية في القضاء على “حماس” ودفع الفلسطينيين إلى النزوح الجماعي من غزّة. ومرة ثانية، أحبطت المقاومة الفلسطينية القوية والمديدة أوهام الأميركيين والإسرائيليين في حسم الحرب على شروطهم وبتحقيق أهدافهم ووضعهم أمام اختيارات صعبة وشبه مستحيلة: الاستمرار في حرب الإبادة الجماعية مع تحمّل تكاليفها السياسية والأخلاقية الباهظة التي كان أفضل تجسيد لها دفع ملف إسرائيل إلى محكمة العدل الدولية، أو وقف الحرب من دون تحقيق أهدافها الرئيسية، وتحمّل عواقب ما سوف يتحوّل إلى هزيمة استراتيجية لواشنطن وتل أبيب وحلفائهما معاً. هكذا دخلت الحرب في نفقٍ لا يعرف مُشعلوها كيف ينهونها ولا كيف يستمرّون فيها. وهذا ما تشير إليه الخلافات أو ما يبدو كأنه خلافات أميركية إسرائيلية، والذي يتجلّى في مواقف الرئيس بايدن ووزير خارجيته التي لم تدعُ إلى وقف الحرب، بالرغم من الإدانات العالمية، ولكن فقط إلى التخفيف من وتيرة القتل بالجملة للمدنيين، والتراجع عن تهجير السكّان إلى سيناء، مع الوعد بالبحث في مسألة دولة فلسطينية بصيغة محسّنة لواقع غزّة المحاصرة وفي مستقبلٍ غير منظور.
وعلى الرغم من هذه التصريحات المهدئة على مستوى الفعل، لم ينقص الدعم الأميركي المالي والعسكري والتقني للحرب الإسرائيلية ولكنه ازداد. ولم يحذف خطر الترحيل الجماعي لسكان غزّة من قائمة الأولويات، بل أصبح تحقيقه أكثر من أي حقبة سابقة ضرورة لتجنيب إسرائيل الاعتراف بالهزيمة وانهيار بنيانها الهش وتفجّر تناقضاتها الداخلية. وبصرف النظر عن النفي الأميركي، لم يزُل خطر هذا التهجير أبداً، ولن يكون من المفاجئ لأحد أن تضع إسرائيل العالم أمام الأمر الواقع وتتحمّل الإدانة اللفظية من واشنطن، ما دامت ضامنة وقوف الإدارة الأميركية وراءها وحمايتها من أي عقاب، مهما كان نوع الجرائم التي ترتكبها. وفي التحليل النهائي، واشنطن أحرص من إسرائيل على عدم خسارة الحرب. وهي ليست معنية كثيراً بتهمة خرق القانون الدولي أو حتى الاتهام بدعم حرب الإبادة لأنها تعتقد أنها هي التي تصنع القانون، وتفرضه على الآخرين. فهي، تماماً كما تعتقد إسرائيل وتفعل، دولة فوق القانون. ولا أعتقد أن واشنطن تخلت عن مشروع ترحيل الفلسطينيين إلى سيناء. أما الدولة الفلسطينية فهي الجزرة التي يستخدمها الأميركيون إلى جانب العصا الإسرائيلية الغليظة لجرّ العرب إلى القيام بالتنازلات المطلوبة، ومنها التطبيع مع إسرائيل ودمجها في المنطقة من دون تنازلاتٍ تذكر. ربما كان هناك خلاف مع نتنياهو الذي يتحدث انطلاقاً من أجندة شخصية في أكثر الأحيان، ويستخدم لذلك لغة استفزازية تجاه العرب وحتى الرأي العام الدولي. لكن هذا لا يلغي أنه يخوض الحرب مع واشنطن وتحت رايتها وبأسلحتها وللأهداف ذاتها.
لن توقف الولايات المتحدة، أي المؤسسة الحاكمة بصرف النظر عن تغير الإدارات السياسية، الحرب في الشرق الأوسط، وهو إحدى الساحات المهمّة في الصراع على الهيمنة الدولية، بما يعنيه ذلك من وضع مسافة بينها وبين إسرائيل ووقف الدعم الشامل واللامشروط لمشاريع الأخيرة الاستيطانية والعدوانية. إنها تراهن بالعكس على استخدام نفوذها وقوتها وسطوتها العسكرية والسياسية والمالية الراهنة من أجل إتمام دمج الدول العربية بإسرائيل بوصفها مركز هيمنة إقليمية غربية مستدامة وضمان تمديد سيطرتها على المنطقة إلى أبعد مدى ممكن. وفي هذه الحالة، تستطيع أن تحقق حلم رؤسائها منذ تولي الرئيس أوباما الحكم في بداية القرن في الانسحاب من الشرق الأوسط مع ضمان استمرار نفوذها فيه.
هذا هو المشروع الذي تسعى إليه واشنطن. لذلك لا أعتقد أن الوقت حان في نظرها لوقف الاستثمار في إسرائيل عسكرياً ومالياً وسياسياً وأخلاقياً أيضاً أو للعمل على بسط السلام في الشرق الأوسط. ولا تكفي ضربة قوية وموجعة لإسرائيل كي ترضخ واشنطن لمبدأ التعامل مع دول الخليج كشريك، وتتخلى عن التعامل معها كفريسة سائغة. معركة إنهاء النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط لا تزال في بدايتها، وبالتالي، فإن الرهان الأميركي والأطلسي على إسرائيل لن يضعف، على الرغم من كل ما حصل، بل سوف يزيد. ولن تتخلّى عنها وعما تمثله من شوكة عميقة في خاصرة جميع الشعوب العربية، إلا عندما تجبر بالقوة على ذلك أو تصبح تكاليف حروبها فيها أكبر بكثير مما تستطيع أن تتحمّله أو تفيده من التشبث بها.
ثالثاً: الدور العربي الغائب الحاضر
لا يعني هذا أن إسرائيل سوف تنجح في مشروعها. وعلى الأغلب أنها سوف تخوض فيه حرباً خاسرة. لكن هذا لا يقدّم أي عزاء لا للعرب ولا للفلسطينيين، فبغياب فاعل قوي محلي وطني قادر على توحيد الشعب، في فلسطين وسورية والعراق ولبنان، لن يستطيع أن يقطف ثمار النكسة العسكرية والسياسية والأخلاقية التي شهدها الغرب ومعه إسرائيل. إنما سيصبح مسرحاً للقوى الإقليمية والدولية التي تتمتع بمبادرة أكبر وتسعى إلى ملء الفراغ. وفي هذه الحالة، لا ينبغي أن نتوقّع السير إلى حالة من السلام والاستقرار، وإنما نحو تحوّل المنطقة إلى ساحة لاستعراض القوة، ونجد أنفسنا ضحية هذه الحروب الممتدّة المباشرة أو بالوكالة على امتداد المشرق العربي. ولن تجد دول الخليج المستهدفة الأولى من هذه الحروب من يشدّ من أزرها أو يدعم جهودها للاحتفاظ بأمنها واستقرارها لا إسرائيل ولا الولايات المتحدة ولا الدول الغربية التي سيكون همّها مواجهة خصومها على هذه الأرض ذاتها.
يطرح هذا، في نظري، من جديد اليوم، بعد موت النسخة القديمة الرومانسية للقومية، التفكير في إعادة بناء ساحة العمل العربي، وتوحيد المقاومات المتعددة الأشكال للتدخلات الأجنبية التي سوف تشهد نمواً كبيراً في المستقبل، والعمل على بناء تفاهمات عربية جديدة، بهدف توسيع هامش مبادرة الشعوب العربية واستقلالها في مواجهة تحدّي أن تتحوّل بلدانها إلى مسرح لصراع القوى الأجنبية الغربية والشرقية والإقليمية معاً. يحتاج هذا لنقاش كيف نعيد العلاقة أيضاً بين عرب الخليج وعرب جوار الخليج المدان بجريرة ثروته وموقعه بالتحييد، والذين يتحمّلون عبء إخضاعه والهيمنة عليه لصالح الدول التي لا تزال تفكر بروح استعمارية، وترفض أن تتعامل مع العرب من خارج تصوّرها لهم كآبار نفط وعشائر وفصائل إرهابية ومخرّبين، حتى عندما يتعلق الأمر بمن يعيشون على الأرض الأوروبية والغربية ويتمثلون قيم مجتمعاتها وثقافتها.
دول الخليج العربي هي اليوم الأقدر والأجدر بأخذ هذه المبادرة ولمّ شمل الشعوب العربية إذا عرفت كيف تستفيد من حالة الإنهاك العسكري والمعنوي للمعسكر الغربي الإسرائيلي القابع عليها كالكابوس، وتتجرّأ على تأكيد استقلال إرادتها وتعزيز روح الاستقلال عند نخبها ومواطنيها، وتوسيع هامش مبادرتها وثقتها بنفسها. وهو ما يجعل منها قوة فاعلة، لا بد من أن تظهر نتائجها الإيجابية في المستقبل على عموم المنطقة بعودة الاستقرار والحدّ من صراع الدول الإقليمية عليها.
باختصار، لم تكن حرب فلسطين في الأساس، وليست اليوم، حرباً فلسطينية إسرائيلية، إنها حرب أميركية غربية موضوعها الإبقاء على المنطقة تحت سيطرتها، وبشكل خاص على منطقة الخليج، ليس في مواجهة العرب الذين جرى القضاء عليهم واحدهم بعد الآخر، وإنما اليوم أمام طموح قوى إقليمية ودولية عديدة صاعدة وراغبة في المشاركة في الغنيمة أو انتزاعها، إيرانيين وأتراكاً وروسا وصينيين وهنوداً. وليست إسرائيل سوى حصان طروادة الذي صنعته وجهزته، ليس من أجل سواد عيون الشعب اليهودي، وإنما لتجنيد “ضحايا النازية” في الصراع الكبير والقتال من ورائهم. وهذا ما يتجلّى بشكل أوضح في خطاب الرئيس السابق دونالد ترامب وخياراته الشرق أوسطية، والذي سيعود، على الأغلب، إلى الساحة، وهو لا يخفي أن المقصود من دمج إسرائيل في العالم العربي ليس تحقيق الانسجام بين مصالح الطرفين وإنما العكس: إلحاق الدول العربية بإسرائيل للعمل تحت إمرتها وتنفيذ أجندتها وجعلها تدور في مدارها وتحت رقابة أجهزتها الأمنية ومخابراتها في سبيل إدامة النفوذ الأميركي والغربي أطول ما يمكن أمام تزايد ضغط القوى المنافسة الإقليمية والدولية.
* كاتب أكاديمي وباحث سوري
المصدر: العربي الجديد