نعيمة عبد الجواد *
التأريخ السردي لواقع حقبة ما، يعد ضربا من المقاومة الثابتة الخطى، التي تتخذ من الأدب مطية كي تعبر حدود الزمان والمكان، وتتحد مع وجدان جمهور القراء عبر العصور. ومن أقسى أشكال التأريخ والمقاومة هو وجود الأديب ذاته جزءا من الأحداث؛ ليعبر نتاجه الأدبي والفكري عن وعي تام بالأحداث، وتكمن المفارقة في وجوب التعبير عما يجيش في صدره، والتأريخ لما تشهده الحقبة من وقائع عبر اتباع شكل أدبي جاذب؛ حتى يصبح السرد، مقنعا وكذلك عامل جذب لمواصلة القراءة والتماهي مع شخوص وأحداث السردية.
ومن الكتاب الذين برعوا في هذا اللون من التأريخ وأدب المقاومة، الكاتب الفلسطيني إميل حبيبي (1921-1996) الذي تميزت مسيرة حياته الشخصية بالعديد من المفارقات، التي استطاع أن يدونها في أعماله الأدبية. ولد «إميل حبيبي» في حيفا، وعمل هناك صحافيا وناشطا سياسيا مناصرا وعضوا في الحزب الشيوعي الفلسطيني. وقد شهد نكبة عام 1948 التي نجم عنها احتلال الأراضي الفلسطينية، لكنه لم يتراجع وتمسك بمسكنه في حيفا وبعدها في الناصرة، والأكثر من هذا شغل مقعدا من خلال حزبه في الكنيست الإسرائيلي، أضف إلى كل هذا، أنه نال تكريما من السلطة الفلسطينية وإسرائيل على حد سواء. ولم تنته مسيرته عند تلك المفارقات والوقائع الغريبة، بل أوصى عند موته أن يُكتب على شاهدة قبره «باقٍ في حيفا»، ليؤكد أن مسيرة مقاومته سوف تسمر حتى بعد موته، وهذا ما حدث بالفعل من خلال أعماله الروائية التي تعبر عن واقع الشعب الفلسطيني حتى يومنا هذا.
ومن أهم إنجازات إميل حبيبي، تجديد الشكل السردي للرواية العربية، واستطاع إنجاز هذا من خلال اطلاعه على الآداب الغربية، وكذلك الغوص في بحور التراث العربي السردي الأصيل. ومن هذا المنطلق، تم تغليف أعماله الأدبية بقشرة خارجية من السخرية، تخفي وراءها فلسفة تعكس مفارقات الواقع الأليم.
وتعد رواية «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل» (1974) واحدة من أهم إنجازاته الأدبية، القائمة على تجديد القالب السردي للرواية العربية، ولهذا استحقت عن جدارة أن يتم إدراجها في قائمة أفضل مئة رواية عربية. وقد أثر اتصاله بالآداب الغربية على سبكه للشكل الروائي؛ فظهر تأثير فولتير (1694-1778) في رائعته الهجائية «كانديد» Candide (1957) على الشكل والمضمون، كما اعترف به إميل حبيبي، وإن كان الأقرب إلى رواية «شفايك» The Good Soldier Švejk (1921-1923) للكاتب التشيكي ياروسلاف هاشيك (1883-1923) التي على ما يبدو سيطرت على لاوعي حبيبي؛ فقد انتقل للعيش في (تشيكوسلوفاكيا) لفترة من الزمان، وكانت الرواية تتمتع بشهرة واسعة جعلت منها إحدى مفردات الحياة اليومية. وأسلوب الرواية عند حبيبي لا يكتفي بالتأثر بهذين الكاتبين فقط، بل ينطلق في سماوات التأثر بأسلوب فرانتز كافكا الساخر، وغيره من الكتاب الحداثيين وما بعد الحداثيين، خاصة العبثيين منهم؛ مع مزجه بالتراث العربي من السيرة والمقامات والأمثال والحكايات.
ويتجلى التجريب في شخصية بطل الرواية «سعيد أبي النحس المتشائل»، وهو مجرد أحمق يجاهد في أن يظل حيا تحت سطوة الاحتلال الإسرائيلي. ولقب بطل الرواية عبثي التركيب وساخر المعنى؛ فقد استطاع إميل حبيبي أن يسبك لفظا جديدا، وهو «المتشائل» الذي هو في الأساس دمج ما بين كلمتي «متفائل» و«متشائم»، على الطريقة الغربية، لتوضيح أن بطل الرواية اختار العيش على هامش الحياة، فإذا حدث مكروه للمتشائل يحمد الله على عدم حدوث مكروه أكبر منه، أو كما ورد على لسانه: «خذني أنا مثلا، فإنني لا أميز التشاؤم عن التفاؤل. فأسأل نفسي: من أنا؟ أمتشائم أنا أم متفائل؟ أقوم في الصباح من نومي فأحمد الله على أنه لم يقبضني في المنام. فإذا أصابني مكروه في يومي أحمدهُ على أن الأكّرَه منه لم يقع، فأيهما أنا: أمتشائم أنا أم متفائل». أضف إلى ذلك أن اسمه أيضا يؤكد ذاك التضاد؛ فهو «سعيد» وكذلك «أبي النحس»، ما يجعل نهجه في الحياة ولقبه يتوافق مع اختياره لحياة ظاهرها القنوط والاستكانة، يتوجها اختفاؤه مع رجل قادم من الفضاء، ويعلم القارئ حكايته من خلال مجموعة من الرسائل كتبها «المتشائل» إلى نفسه قبل اختفائه، ويحكي فيها ما حدث له طوال حياته.
تقع الرواية في ثلاثة أجزاء يعطي حبيبي لكل منها اسم كتاب، ويقسم كل كتاب إلى مشاهد، كالمسرحيات، ويستخدم الكاتب رسائل منفصلة ومرقمة عددها 44 رسالة، كل واحدة تحكي حكاية منفصلة على غرار حكايات «ألف ليلة وليلة». ومع إسناد كل رسالة منهم إلى نفسه في بداية الرواية، كما يؤكد «أبلغ عني أعجب ما وقع لإنسان»، فإنه يماهي أسلوب بديع الزمان الهمذاني في مقاماته. ويعتمد زمن الحكي على فن البناء الزمني الدائري الذي قوامه تكنيك «الفلاش باك»، أو الاسترجاع الزمني، ويتناغم معه الاعتماد على البناء الزمني الدائري؛ ما يوضح أن بطل الرواية حبيس دوامات لا قرار لها، وتتواتر بين المرجعيات الواقعية والغريبة بأسلوب فنتازي.
ولم يتوقف التجريب لدى إميل حبيبي عند هذا الحد، بل إنه قفز إلى شكل العرض نفسه الذي اعتمد على وجود هوامش لإسناد بعض الوقائع التي يسردها إلى مصادرها، كما لو كانت الرواية بحثا علميا لا يقوم على التخيل. وفي ما يبدو أنه اعتمد ذاك الأسلوب الغريب على السرد الروائي من أجل توثيق وتسجيل المآسي التي وقعت على الشعب الفلسطيني بعد الاحتلال الغاشم؛ حتى يعطي شرعية لروايته، ويحفر تلك الوقائع في ذهن القارئ حتى لا يمحيها الزمان. أضف إلى هذا، فإن إميل حبيبي يوثق أيضا الموروث الفكري للشعب الفلسطيني؛ ليوضح أن الاحتلال لم يصب أمة لا أساس لها، أو غير منفتحة على التراث والحركات التنويرية. وعلى هذا، ظهرت المقاومة وعدم الارتكان للقنوط على كل الصعد بأسلوب ساخر يماهي أسلوب الجاحظ، في تندره واختيار كلماته، بأسلوب محبب لدى القارئ العربي. لكن المفاجأة كانت ترجمة هذا العمل إلى 15 لغة، دفعت كل قارئ بلسان غير عربي يتمنى لو كان في مقدوره فهم العربية، حتى يستمتع أكثر بالقراءة العميقة للرواية، وهذا أيضا من ضروب المقاومة.
وفي إطار الأحداث الغريبة التي يشهدها العالم بأكمله، والتي كانت نقطة انطلاقها الساخرة قيام وحدة مقاومة بالدفاع عن شعب بأكمله، كانت النتيجة أن أصبح الشعب الفلسطيني على شفير الإبادة، في حين لا يزال الاحتلال الغاشم يتمسك بقناع الضحية. وعلى الصعيد الآخر يجد العالم في الشعب المطرود من أرضه ويشكو التشرد والجوع والمرض، سبيلا للعزة والكرامة، على الرغم من أن الكرامة تستلزم على الأقل وجود سقف يحميها، حتى لو كان رواية «فانتازية» الأسلوب.
* كاتبة مصرية
المصدر: القدس العربي