الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

فلسطين واللغة العربية

د- عبد الناصر سكرية

يقول المستشرق الفرنسي أرنست رينان: “اللغة العربية بدأت فجأة على غاية الكمال، وهذا أغرب ما وقع في تاريخ البشر، فليس للغة العربية طفولة ولا شيخوخة .“

لعل هذا سر أسرارها وسفر تكوينها. وما الاختيار الإلهي لها لتكون لغة القرآن الكريم إلا تعظيم لها وارتفاع بها عن مجالات تخضعها لمتاهات الزمن أو تقلبات السياسة والتخاصم والتجاذب. إذ تتمتع بتلك الحصانة الربانية التي ربطتها بالعقيدة الدينية والإيمان الديني. فصارت لغة الحياة والإيمان والشعائر لمئات ملايين البشر على امتداد الكرة الأرضية. فلم تكن يوماً لغة التخاطب بين أبنائها العرب فقط؛ بل كانت وستبقى لغة هويتهم الحضارية والتاريخية؛ لغة شخصيتهم الاعتبارية والموضوعية ولغة مستقبلهم القائم على مصيرهم الواحد وقيمهم الثقافية والأخلاقية .

ولما كانت كذلك فقد تعرضت لمحاولات كثيرة لإضعافها أو تخريبها أو تهميشها أو إفقاد أبنائها أية ثقة بها ليتعالوا عليها مترفعين عن استخدامها ليس فقط كلغة للعلم والثقافة وإنما أيضا كلغة للتواصل اليومي بين أبنائها.

إن وقائع التاريخ تبين أن اللغة العربية تعرضت- ولا تزال- لحرب مدروسة تقف وراءها قوى عالمية ذات أهداف خبيثة تبيت رغبة جامحة في القضاء عليها وإسقاطها من حياة أبنائها تمهيدا للاستيلاء عليهم فكريا وثقافيا وبالتالي سلوكيا وأخلاقيا. تدرك تلك القوى الخبيثة الحاقدة أن تخلي شعب عن لغته لصالح لغات أخرى هو المدخل الواسع لغزو ثقافي فكري اجتماعي يحمل معه مفاهيم وقيما سلوكية مخالفة لقيمها هي وما تحمله في مضمونها وتراثها من مفاهيم وقيم اجتماعية وأخلاقية. ولهذا فقد ارتبطت الحرب على اللغة العربية واعتماد لغة أجنبية أخرى في الحياة اليومية؛ بتخل واضح عن السلوك الاجتماعي وقيم الأخلاق التي تحملها اللغة في كيانها وتعبر عنها في مرتكزاتها وتحض عليها؛ باعتبارها لغة الإيمان والعقيدة والثقافة .

وعلى سبيل المثال فإن أغلب من يتعلمون في المدارس والجامعات الأميركية ممن يتخاطبون بالإنجليزية ؛ يفقدون صلتهم بشخصية أمتهم ومقوماتها الثقافية والأخلاقية ومن ثم ينتمون إلى أنماط السلوك المعتمدة في ثقافة اللغة الإنجليزية وفي رأس قائمتها الفردية وتضخيم الذات حد النرجسية مع ما يستتبع ذلك من اعتبار الفرد ومصالحه المادية معيارا لتقييم الأمور واتخاذ المواقف والتعاطي في الحياة اليومية، وهذا على نقيض قيمة التضامن الاجتماعي والتكافل والعطاء والتعاون مع الجماعة لفعل الخير والحض على المعروف والتحذير من المنكر.

تراوحت الحرب على اللغة العربية بين التصدي المباشر لتخريب بنيتها؛ إلى محاولات حثيثة للالتفاف عليها وتهميشها.

في المراحل المبكرة ومنذ بزوغ حركة الاستشراق بدوافعها الاستعمارية؛ اتخذت الحرب على اللغة العربية طابع المجابهة المباشرة لإضعافها وتعقيدها في نظر أبنائها وتحدي قدرتها على التطور ومواكبة متغيرات العلم والحياة. وكان منها مثلا تفخيم اللهجات المحكية المحلية وترفيعها وتفخيمها لتحل محل اللغة الفصحى. مع أن جميع اللهجات المحلية تنبثق من العربية الفصحى رغم ما فيها من تباينات وتنوع قد يعرقل سهولة التواصل والتفاعل بين أبناء المجتمع العربي. ويتجلى هذا بشدة وحدة في المغرب العربي حينما حاول المستعمر الفرنسي إنعاش لهجات محلية ووضعها بديلاً عن اللغة العربية ليكون ذلك مدخلاً لتقسيم الشعب الواحد والسيطرة عليه بعد تغييب لغته وثقافته وهويته وقيمه. وفي الجزائر حينما حاول المستعمر الفرنسي منع شعب الجزائر من التعلم بالعربية فارضاً بالقوة تعلم الفرنسية كتأكيد على فرنسة الجزائر وشعبها. ورغم قرن وثلاثين عاماً في فرض اللغة الفرنسية لم يتخل شعب الجزائر عن هويته التي كانت لغته العربية عنوانها الأول. فتعلمها في المساجد والكتاتيب والبيوت.

ومن ذلك أيضاً محاولة تغيير أحرفها وكتابتها بالأحرف اللاتينية كما حصل باللغة التركية. إلا أن هذه الفكرة سقطت سريعا وفشلت بقوة.

ولما فشلت كل محاولات تخريب اللغة العربية وإضعافها؛ انتقلت الحرب عليها الى مواجهة من نوع آخر تعتمد على الالتفاف عليها والابتعاد عن المواجهة المباشرة معها.

تعتمد هذه الإستراتيجية في مواجهة اللغة العربية ما هو أخطر من مواجهتها مباشرة؛ فتطوقها وتلتف حولها بما يقضي بتخلي أبنائها عنها. بكل بساطة واختصار. فاعتمدت لهذا الهدف سلسلة إجراءات متكاملة تتلخص فيما يلي:

1 – تسخيف كل أنظمة التعليم الرسمي بتخلي الدولة عنها وإهمالها بما أدى إلى مغادرة الغالبية الساحقة من الطلاب للمؤسسة التعليمية الرسمية والانتساب إلى المدارس الخاصة.

2 – تسهيل إنشاء مدارس خاصة غالبيتها يغلب عليها الطابع التجاري بما أدى إلى تراجع مستويات التعليم، فكان أن انتشرت أعداد كبيرة من المدارس والجامعات الخاصة التي لا رابط بينها ولا رقابة للدولة عليها وعلى برامجها التعليمية ومادتها الثقافية. فكانت ولا تزال سببا في تشتت الولاءات الثقافية والوطنية وتوزعها تبعا لخلفيات كل مدرسة أو جامعة. وغياب أية ثقافة وطنية موحدة جامعة. الأمر الذي يصب في تسهيل مرور كل الدعوات التقسيمية بكل منطلقاتها وكل أنواع العصبيات والتقوقع على الذات والخوف من الآخر والسعي للانفصال حفاظا على ما يسمى وهماً شخصية خاصة متميزة.

3 – إضعاف ثقة الشباب العربي بلغته ليتخلى عنها. تحت حجة مواكبة العصر والحداثة من جهة والتفاخر بالحديث باللغات الأجنبية كاستعراض للمستوى الاجتماعي الموهوم.

4 – التحريض الدائم على اللغة العربية لكونها “معقدة وصعبة وغير مناسبة للتعلم والتقدم العلمي” وغير قابلة للتطور.

5 – تبني المدارس والمعاهد والجامعات الخاصة المناهج التعليمية الأجنبية، وهي مناهج تحمل معها أهدافا سياسية تخدم مصالح الجهات الدولية التي ترعاها وتمولها. ومن ضمن أهدافها صرف الطلاب الشباب عن الاهتمام بالعربية فيتخلون عنها طوعا بحكم غيابها عن المناهج التعليمية.

6 – فرض التحدث باللغة الأجنبية في مراحل الدراسة المبكرة بدءا من الصفوف الابتدائية، الأمر الذي أدى ويؤدي إلى ظهور أجيال عربية لا تحسن التحدث باللغة العربية وأخطر من هذا أنها أصبحت لا تستطيع التعبير عن ذاتها وأفكارها وشخصيتها إلا باللغة الأجنبية، فتكون بذلك قد تخلت تلقائيا عن اللغة العربية وغرقت في اللغة الأجنبية مع خطورة مع يعنيه هذا، تتجلى هذه الخطورة في أمرين:

– الأول: قطع صلة هذه الأجيال بثقافتها وتراثها وتاريخها وقيمها ومفاهيمها الاجتماعية. وبالتالي تكون قد ألزمت ذاتها بالبقاء في دائرة الثقافة الأجنبية.

–  الثاني: إلزامها باللجوء إلى المصادر الأجنبية لمعرفة تاريخها وتراثها وأحوالها جميعا. مع ما يعني ذلك من الوقوع في أسر الرؤى الأجنبية للشخصية العربية وللأحوال العربية كافة، قديمها وحديثها. وهكذا قد أصبحت مستعمرة فكريا وثقافيا مسلوبة الإرادة المستقلة والتوجهات الوطنية المتحررة من النفوذ الأجنبي.

لا يعني هذا حكما مطلقا مبرما على جميع الدارسين في المدارس والجامعات الأجنبية؛ لكنه سمة الكثيرين إن لم يكن سمة ونهج الغالبية. وهذا أمر خطير وخطير جدا يصب في مصالح القوى المعادية للأمة وحضارتها وقيمها.

وإذ تنطلق هذه الحرب الإستراتيجية لنفي اللغة العربية بإسقاطها في عقول الشباب وحياتهم؛ تمتد لتصل إلى نفي المصير العربي الواحد بانتفاء وجود أمة عربية واحدة حيث أن اللغة الواحدة هي أهم عناصر التكوين القومي للأمة وأهم رابطة بين أبنائها.

وهكذا فإن الحرب على اللغة العربية هي جزء أساسي في الحرب على الوجود القومي للأمة العربية: على شخصيتها وحضارتها وثقافتها وقيمها، على وجودها ذاته ومقدرات أرضها وأبنائها في كل مجال. على دورها وفعاليتها الإنسانية الحضارية التقدمية كنموذج كامن محتمل للحضارة الإنسانية القائمة على القيم الأخلاقية والمشاركة الانسانية والعطاء المتبادل والتعاون لخدمة الأرض والإنسان؛ مثلما كانت حضارة العرب يوم أن كانوا النموذج القيادي المتقدم الزاخر بالعلم والمعرفة والحياة.

فما علاقة فلسطين بكل هذا؟؟

ولما كان اغتصاب فلسطين طليعة متقدمة للمشروع الاستعماري الرامي للسيطرة على الوجود العربي وضبطه وتوجيهه ومنعه من التحرر والتوحد والتقدم واستمرار نهبه والتحكم به موارد ومواقع ونظماً؛ فإن القوى الاستعمارية التي اغتصبت فلسطين وتحمي دولة الكيان الصهيوني، هي ذاتها التي توجه الحرب على اللغة العربية؛ لتكامل الأهداف بينها؛ وهي التي ترسم لبلادنا مناهج التربية والتعليم، وهي التي تسعى في أرضنا فسادا وإفسادا في كل مناحي الحياة والسلوك.

كما أن صهينة فلسطين تلغي بالضرورة وجود شعب عربي فيها ومعه ثقافته ولغته لتكون مقدمة لطمس شخصية الأمة كلها وصهينتها من النيل إلى الفرات، فلا تعود للغة العربية بعدها قيمة ولا منفعة ولا دور. وعليه فإن الدفاع عن فلسطين وحريتها وعروبتها هو ذاته دفاع عن اللغة العربية وما تحمله من مفاهيم وقيم. كما أن الدفاع عن اللغة العربية يدخل في صلب واجب الدفاع عن فلسطين وحريتها وهويتها العربية، وجهان لمعركة واحدة وقضية واحدة متشعبة الساحات والمضامين والأساليب. خلاصتها وغايتها الدفاع عن الوجود القومي للأمة العربية ومصالحه ومستقبله الواعد الموحد.. وفي طليعته لغته العربية الجميلة الفذة.

وفي غياب أي تخطيط رسمي عربي لحماية نظم التعليم الرسمي وتوحيد مناهج التعليم الخاص ومعها حماية اللغة العربية، فإن مسؤولية كبيرة في الدفاع عن اللغة العربية، تقع على أعناق الفئات الشعبية المدركة الواعية بأبعاد ومخاطر الحرب على اللغة العربية، وعلى كل عربي حر شريف مدرك واع.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.