واسيني الأعرج *
أطفال فلسطين، غزة تحديداً، يموتون اليوم بالآلاف ويشكلون ثلث الضحايا تقريباً الذين بلغ عددهم الـ 26000 شهيد، دون حساب الذين ما يزالون حتى اليوم تحت ردم البنايات، لا أحد يسمع أصواتهم، لا الفلسطيني في هروبه من مكان لمكان، ولا الوكالات الدولية المكلفة بالإغاثة التي لم يعد لها أي دور تحت التهديدات الإسرائيلية، ولا حتى أي صوت. المعدل اليومي 200 شهيد، ثلثه أطفال، دون الحديث عن المصابين في الصميم الروحي من الذين كتبت لهم الحياة. الرعب من الأصوات، الخوف من كل شيء يحلق، الهلع الليلي والبكاء الدائم، نوبات الاكتئاب، التثبت في آخر المشاهد التي عاشها الطفل وهو يرى أمه تموت، أو والده تحت الركام.
بعضهم يفقد القدرة على التكلم ويجمد لسانه كلياً، دون الحديث عن الذين فقدوا أطرافهم أو أصيبوا بالعمى بسبب القصف الدائم.
رأينا مشاهد لأطفال ستبقى في الذاكرة إلى الأبد، مثل الطفل الذي يتأمل جرحه ووجهه مليء بالرماد ويريد أن يفهم من أخيه الكبير ما كان يحدث له. الطفلان المتكئان على بعضهما وسط الخراب، الأطفال في الخيام وهم ينامون وتحتهم برك الماء، الطفلة البريئة التي قتلت هي وأخوها ويحاول الجد «روح الروح» كما سماه الناس، ألا يقبل بهذا الموت، فيفتح عينيها ليسمع صوتها.
أمثلة لا تحصى تحولت إلى رموز وأيقونات حية، تدين إنسانياً، آلة القتل الجهنمية التي سترتد يوماً ما على أصحابها. لم يعد مجدياً إثارة انتباه العالم الذي لم يعد معنياً بما يحدث أمام عينيه وكأن روح الطفل العربي، والفلسطيني تحديداً، لا تساوي الكثير في معايير غرب لم يتخلص من ذاكرته وردود فعله الاستعمارية. روح الطفل الغربي والإسرائيلي تحديداً، تساوي مئات أضعاف الطفل الفلسطيني، حتى رمزية تبادل المعتقلين تقود إلى هذا أيضاً؛ سجين إسرائيلي بمئات السجناء الفلسطينيين، ورفاة إسرائيلي مقابل عشرات الفلسطينيين الأحياء. كل شيء يمر عبر رمزية «الأفضل والأكثر استحقاقاً للحياة» عند إسرائيل، بدءاً من خرافة هيكل سليمان الذي يؤكد أصلية الأرض اليهودية، وانتهاء برموز العصر الذي نعيشه.
على الرغم من هذا الظلم الذي لا يورث إلا الأحقاد المظلمة، لا توجد عند الفلسطيني أي تراتبية في ذهنه، فهو لا يريد لأي طفل أن يكون ضحية الحروب المدمرة التي يحدثها الكبار وتقف وراءها مصالح وقيم كثيراً ما تكون بعيدة عن كل إنسانية. المنطق الإسرائيلي هو من منطق عقلية المحو التي يعتنقها الليكود وأنصاره من المتدينين: الصغير سيكبر مشبعاً بالعداوة تجاه إسرائيل، ولم تعد كلمة بن غوريون حول النسيان مفيدة. المسنون ورثوا حرقة النكبة إلى أبنائهم وأحفادهم، الوارثون الفلسطينيون كبروا ولم ينسوا، والقضية الفلسطينية ما تزال حية أكثر من أي زمن مضى.
إذن ما العمل؟
الهولوكوست أو شبيهه البغيض الذي تبنته إسرائيل، أي محو كل ما يذكر بفلسطين، الأطفال، واستعادة غزة نهائياً بعد قتل سكانها وتفريغها من كل ما يشير إلى فلسطين. حتى ولو قاد الأمر إلى محو المليونين من ساكنتها أو تهجيرهم والاستيلاء النهائي، من جديد، على غزة. وسينقسم الغربيون إلى فريقين؛ من يناصر ضم غزة، ومن يقف ضده لأنه استعمار ودوس لحقوق الإنسان، قبل أن يلتقي الجميع في مؤتمر كبير، في جنيف أو جمهوريات البلطيق، في تلك الأراضي الحيادية، يضبطون الساعة على إيقاع موحد، كما فعلوا مع الأراضي المحتلة، أو يصمتون كما فعلوا مع ضم الجولان.
سيثير الغربيون قليلاً قضية حقوق الإنسان وثم يصمتون، ثم سيجدون مبرراتهم الدائمة ويسيرون وفق الصوت الأمريكي. بن غفير يتحدث بشكل معلن في مؤتمر الليكود عن استعادة جزء آخر من الوطن (غزة) بالقوة، وبضرورة جعل الحياة مستحيلة في غزة، مما يسرع في عملية التهجير والمغادرة، وإغواء الفلسطينيين بالمغادرة، ولن يترددوا في ذلك. كأن الخراب الذي تسببوا فيه في غزة و وردود الفعل العالمية لم تزدهم إلا غطرسة واعتماد القوة كمقياس أوحد.
يريدون فلسطين كلها ومدخل فيلادلفيا ومعبر رفح، وهكذا ينفردون بفلسطين كلها وبكل مداخلها. ستصبح إسرائيل دولة يهودية وسيتحول فيها الفلسطينيون إلى مقيمين، يمكن طردهم بسهوله. لا صوت للقوانين الدولية الحامية للحق الفلسطيني، كل حكاية «دولة فلسطين» التي تتبجح بها أمريكا هي في النهاية غوايات اليائس، مجرد ذر للرماد في العيون. الإسرائيليون يصرحون يومياً وبشكل معلن عن نهاية الدولة الفلسطينية ولا حركة حقيقية من أمريكا أو أوروبا، حامية حقوق الإنسان.
ما يحدث اليوم في أكبر مسرح تراجيدي مفتوح على الهواء، غزة، هو جزء من هذه الخيارات النازية. الأطفال يقتلون في مشهدية غير مسبوقة. لا يمكنها إلا أن تذكرنا بالنازية، حيث كان يرمى الأطفال في المقابر الجماعية والحفر، ويتم ردمهم وكأن البشرية لم تتغير قط في توحشها. أو يقدمون طعماً للمحرقة الكبرى التي تلتهم الأجساد الغضة بسهولة. ماذا تفعل إسرائيل اليوم سوى إعادة إنتاج حقد لم يكن للعرب فيه أية مسؤولية، بل كانوا ضحية له بسبب أوروبا متخاذلة حلت عقدها بالوسيط العربي، مثل مذبحة سايكس بيكو التي فصلت بالقلم الأزرق والأحمر مصائر بلدان وبشر وجدوا أنفسهم بقدرة قادر وراء الخط الأحمر أو الأزرق.
الذي لم تفكر فيه إسرائيل أو لا تريد أن تفكر فيه هو أن هؤلاء الأطفال سيعودون بدمهم وذاكرتهم المثقلة بالظلم ويطالبون العالم بحقهم الأبدي الذي لن يأكله الرماد.
* روائي جزائري
المصدر: القدس العربي