(الحرية أولاً) ينشر حصرياً الكتاب المفقود «في الفكر السياسي» بجزئيه، للمفكرين “الأربعة الكبار”، وهذه الحلقة التاسعة والعشرون من الجزء الأول– أسطورة الخصائص(2/4)؛ بقلم الدكتور “جمال الأتاسي”
أسطورة الخصائص(2/4)
لننظر الآن، ومن هذه الزاوية النظرية فقط إلى بعض من التجارب التي تسير في الخط الاشتراكي في الوطن العربي.
ففى مصر انطلق عبد الناصر في تنهيجه الاقتصادي من سياسة تجريبية لعبت بها الظروف والضرورات السياسية المرحلية الدور الأول. كانت شعارات انقلاب تموز عام 52 مقصورة في هذا المجال، على المناداة بإلغاء الاقطاع ومنع سيطرة رأس المال على الحكم. وظل عبد الناصر حتى عام 1957، يتحدث عن العدالة الاجتماعية كهدف، في إطار عام غامض، ولم يستعمل في بياناته وخطبه كلمة الاشتراكية. ولكن انفتاح تجربة مصر على آفاق النضال القومي في المشرق العربي وعلى آفاق النضال التحرري في إفريقيا، وشعور عبد الناصر بالحاجة لوضع تجربته في إطار أشمل من إطار «مبادىء ثورة تموز الستة»، دفعاً به لأن يطلق شعار الاشتراكية كهدف من أهداف نظامه الجديد، وكمبدأ من المبادئ التي أقام عليها المحاولة الأولى في تنظيم «الاتحاد القومي» في مصر.
لقد كان بحاجة إلى أن يربط تجربته السياسية بوجهة نظر فكرية، ودخل في تفاعل إيجابي مع الحركة الاشتراكية في المشرق العربي فدعمها وتعاون معها وأخذ عنها في الوقت ذاته الكثير من شعاراتها. فأخذ ينادي هو أيضاً بالاشتراكية العربية، وكأن عبد الناصر كان ينتظر من «حركة البعث» أن تقدم المضمون النظري لهذه الشعارات، ولما لم يأتِ ذلك المضمون المتكامل، أخذ هو أيضاً يسير في طريق تمييز اشتراكيته بخصائص لا رصد لها في الواقع، فتحدث عن الثورة البيضاء وعن التعاون المطلق بين المواطنين، وأغفل الصراع الطبقي، ..ولقد تجلى غموض هذا التفكير وردوده السلبية بشكل واضح عندما نشبت المعركة بين القوى القومية والقوى الشيوعية في الوطن العربي بعد انتكاس ثورة تموز في العراق والمجازر التي قام بها الشيوعيون هناك. لقد كشفت تلك التجربة القاسية أمام الجماهير العربية في كل مكان، موقف الشيوعيين المعادي للوحدة العربية، ولكن عبد الناصر الذي كان يقود معركة القومية العربية، حاول أن ينقل تلك المعركة من صعيد الصراع السياسي إلى صعيد الصراع العقائدي، وهنا شابت خطبه ودعايته ردود فعل عاطفية ودينية لا تمت إلى الاشتراكية بنسب. إن الكثير من القوى الاشتراكية والتقدمية في العالم، التي عطفت على الجمهورية العربية المتحدة في معركتها التحررية، كانت تقف حائرة ومترددة أمام ذلك المنهج الغريب في التفكير والدعاية. إنه الفراغ، وقد تأتي الأساطير لتملأه، ونظام حكم الفرد يساعد على تغذية الأساطير. لقد سادت ذلك الحين مرحلة نشطت فيها القوى والأفكار الرجعية نشاطاً كبيراً، واستيقظت آمالها في تحويل الحكم عن الطريق الاشتراكي، بل أخذ الاقطاعيون يمنون النفس بتراجعات.. ولكن الذي حصل بعد ذلك هو النقيض. اذ سار عبد الناصر خطوات جدية وكبيرة في طريق الاجهاز على الاقطاع أولاً ثم بدأ يكمل الضربات لكيان الرأسمالية، وكانت خطوات التأميم التي وضعت حداً فاصلاً بين الرأسمالية وبين نظام عبد الناصر. ولكن بقاء الافتراق بين التجربة العملية وبين الأفكار التي تتغذى منها تلك التجربة وعدم الاستناد إلى وجهة نظر واضحة ومحددة وعدم وجود تحليل وتخطيط منهجي أدى إلى كثير من التخبط. لقد أغفل عبد الناصر في تلك المرحلة الصراع الطبقي بل كثيراً ما كان ينفيه تحت اسم الوحدة الوطنية لجميع أفراد الشعب، واستخف بالقوى الرجعية والرأسمالية وبقدرتها على التخريب والتآمر، واستغنى عن إشراك الجماهير إشراكاً فعلياً في حمل مهمات تصفية القوى الرجعية وما تستند إليه من دعائم في المجتمع، واكتفى بذلك التكوين المصطنع «الاتحاد القومي» الذي يريد جمع المواطنين كلهم في خط الدولة وحاول أن يملأ به الفراغ السياسي، واعتمد على أجهزته السرية والخاصة لحماية تجربته وتنفيذ خططه. وكان من حصيلة هذا الأسلوب المغامر تمزق کيان الجمهورية العربية المتحدة وتلك الردة الانفصالية والرجعية على الصعيد الرسمي في أقطار المشرق العربي.
ولكن الذي نلمسه في السنة الأخيرة، وبعد التجارب المريرة، أن هناك محاولة جديدة لإقامة التحام بين الجهد العملي والجهد النظري، بين التجربة والأفكار. إن الدستور الذي أعطي «للاتحاد الاشتراكي العربي» يمثل خطوة إيجابية في هذا السبيل. فالصراع الطبقي أخد يحتل مكانه كواقع في المجتمع، والأفكار الاشتراكية أخذت تمتلئ بمحتوى إيجابي ولم تعد مجرد ادعاء بالتخصيص والتميّز. والاشتراكية العربية أخذت تستمد صفاتها من «الاشتراكية العلمية» لتصبح طريقاً في التحقيق تفرضه الظروف الانتاجية والتاريخية للمجتمع، إن ذلك الدستور ما زال يحمل شيئاً من آثار الماضي، وما زال متردداً أمام الجزم بمبادئ الاشتراكية الثورية، وما زال يقسم الرأسمالية بين مستغِله يجب القضاء عليها وبين رأسمالية غير مستغِلة يمكن التعايش معها. إنه ينتقد الأخطاء التي قام عليها تكوين الاتحاد القومي ويُدين إغفال واقع الصراع الطبقي وتآمر الطبقات الرجعية والرأسمالية، ويقرر فشل ذلك التنظيم وعجزه عن إقامة «دمقراطية شعبية» تحمي مرحلة الانتقال من الثورة الوطنية إلى الثورة الاشتراكية.
ولكن هل يستطيع «الاتحاد الاشتراكي العربي» أن يقيم دعائم تلك الدمقراطية الشعبية? إن التحليل النقدي للتجربة الماضية قد أغفل وما زال يغفل التكوين البيروقراطي وغير الثوري لأجهزة ومؤسسات الدولة. وجميع التشكيلات الجديدة لم تحمل أي برهان على السير في طريق إدخال تبديل على ذلك التكوين. إن القول بالقيادة الجماعية، والقول باشراك القوى الشعبية الثورية في إدارة وسائل الانتاج وفي توجيه ومراقبه السلطات، سيبقى شعاراً نظرياً مجرداً، ما لم تكن تلك الديمقراطية الشعبية قوام تكوين الدولة وأجهزتها فسواءٌ أطلق عبد الناصر على تجربته في التنهيج الاقتصادي، اسم اشتراكية عربية أو اشتراكية ديمقراطية تعاونية. فان محتواها الأساسي يظل ذلك المحتوى الذي يعطيها إياه واقعها، والتبديلات التي أدخلتها على بنية المجتمع وعلى العلاقات الإنتاجية فيه. إنها نظام قطع شوطاً كبيراً في طريق رأسمالية الدولية متجاوزاً النظام الرأسمالي للعلاقات الانتاجية، وتلك ولا شك خطوة ايجابية للتمهيد للاشتراكية. ولكنها تظل خطوة ناقصة تحيط بها المخاطر، فتصفية البنية العقلية والاجتماعية التي تستند إليها قوى التخلف والمحافظة لم تتم عبر ثورة شعبية أو نضال شعبي، والقاعدة الشعبية والمنظمة والواعية التي بمقدورها أن تبني تجربة اشتراكية لم تأخذ تكوينها الثوري بعد، ويبقى «الاتحاد الاشتراكي» مجرد محاولة لملء الفراغ الشعبي ومجرد وعد، لربما قيل ان الظروف الموضوعية التي تخلقها العلاقات الانتاجية الجديدة ستخلق هي أداة التبديل الاشتراكي، وستنشئ القاعدة العمالية الثورية. ولكن انتظار أن يجري مثل هذا المخاض الثوري بصورة تلقائية، في بلد متخلف مثل مصر، وفي شروط مثل تلك الشروط التي يعيشها نظام الحكم فيها، يبقي المجال واسعاً أمام التعثر والانحراف والنكسة. إن حكم الفرد قائم هناك في القمة، وبينه وبين الجماهير فاصل من الأجهزة البيروقراطية والانتهازية، التي تنشأ وتترعرع كطبقة جديدة ذات مصالح، وتبقى هالة التقديس الدعائي للفرد، ويبقى الفراغ قائماً، ويبقى طريق التجريب والارتجال فسيحاً، وفي هذا الفراغ يضمر العقل التحليلي والنقدي وتنمو الأساطير.
لا نريد هنا أن نعطي تقييماً كاملاً لتجربة الجمهورية العربية المتحدة ولنظام الحكم فيها، إننا نعالج ناحية، وهي طريقة التفكير الاشتراكي والضمانات الاشتراكية فيه. فذلك النظام يبقى من الوجهة الموضوعية، وفي مجموعه، متقدماً على جميع الأنظمة في الوطن العربي. إن قطراً عربياً واحداً غير مصر، يشق اليوم طريقه نحو البناء الاشتراكي، ويعطي ملامح تجربة ثورية وشعبية من نوع آخر، وهذه التجربة هي تلك التي تتابع اليوم خطواتها في الجزائر. فإذا ما كان طابع النهج التقدمي للحكم في الجمهورية العربية المتحدة تصفية الرأسمالية، فان ثورة الجزائر هي الآن أمام محاولة جديدة لبناء دمقراطية شعبية تعزز تجربة الثورة المسلحة التي قامت بعملية تصفية كبيرة لبعض الركائز الطبقية المستغلة والمحافظة، وتحوّل دون تسلط البرجوازية ودون نشوء الطبقة الرأسمالية وتقوم بمهمة التحويل الاشتراكي للمجتمع، إن الحكم في الجزائر اليوم تركة أجيال من التخلف والاستعمار، وتركة التدمير الذي خلفته سنوات الصراع الثوري المسلح، ولكن الخطوة الأولى التي يركز عليها جهوده اليوم، ويقدمها عن كل خطوة أخرى في البناء، فهي تنظيم القاعدة الشعبية وانشاء الحزب الثوري. إن المادة الثورية الأولية لبناء هذه الديمقراطية الشعبية موجودة في الجزائر، لقد تربت في معارك الثورة، ولا بد لها من أن تتحول اليوم إلى أداة البناء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يتبع.. الحلقة الثلاثون بعنوان: أسطورة الخصائص(3/4)؛ بقلم الدكتور “جمال الأتاسي”