الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

الطائفة والطائفية.. والدستور

ريمون المعلولي *

مقدمة:

في سياق علم البيولوجيا، يشير مصطلح “الطائفة“ Sect إلى تصنيف الكائنات الحية المشتركة ضمن خصائص معينة. وفي علم الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع، يُستخدم مصطلح “الطائفة” للدلالة على مجموعة اجتماعية تتشارك في صفات مشتركة، مثل الأصل الاجتماعي أو الثقافي أو الديني. وفي السياق الديني، “الطائفة” هي مجموعة فرعية ضمن إطار ديني أكبر، تشترك في المعتقدات والممارسات والهيكل التنظيمي. على سبيل المثال، في المسيحية طوائف منها الكاثوليكية والبروتستانتية والأرثوذكسية الشرقية.

والطوائف البشرية- بغض النظر عن سياقاتها المختلفة- هي جزءٌ من التنظيم الاجتماعي الأوسع، وهي تُسهم في تشكيل هويات شخصية للأفراد، وفي التماسك الاجتماعي، وفي تكوين نظام قيمي وإطار ثقافي لأفرادها، وتؤثر في توجيه سلوكهم الاجتماعي.

1- أهمية التنوّع الطائفي في الطبيعة والمجتمع

يلعب التنوع الطائفي دورًا حيويًا ومهمًا، في البيئة الطبيعية وفي السياقات الاجتماعية؛ ففي السياق البيولوجي، تبرز أهمية التنوع الطائفي من خلال تأمين الاستدامة البيئية والحفاظ على توازن النظام البيئي، وتقليص احتمالات انهياره بفعل الأضرار البيئية عبر ميكانيزم التكييف الأفضل إزاء التحديات البيئية، مما يزيد من فرص بقاء الحياة في وجه التغيرات المناخية أو الكوارث الطبيعية.

وعلى الصعيد الاجتماعي، يُسهم التنوّع الطائفي في تعزيز التكامل والتفاعل الإيجابي بين الأفراد، من خلفيات وثقافات مختلفة في المجتمع البشري، وذلك من خلال إسهامه في الفكر والإبداع، حيث يسخر الأفراد ذوو الخلفيات المتنوعة خبراتهم وأفكارهم لإيجاد حلول جديدة وابتكارات، ولتعزيز الفهم المتبادل وتقبّل الاختلافات وتحقيق السلام الطائفي، وبذلك يُسهم التنوع الطائفي في بناء مجتمعات تتّسم بالتواصل والسلام. كل ذلك مع توافر شروط التفاعل الايجابي فيما بين تلك التنويعات[1].

وفي هذا الإطار، تمتلك المجتمعات البشرية التي تتمتع بغنًى ثقافي (ديني واثني…) إمكاناتٍ لا تتوفر للمجتمعات ذات التكوينات القليلة أو وحيدة التكوين. ويتمتع المجتمع السوري بميزة التنوع الثقافي في سياقات مختلفة (دينية، مذهبية طوائفية، اثنية، لغوية، اجتماعية).

2- مصطلحات ومفاهيم لا بدّ منها:

على الرغم من أن لمفهوم الطائفة أهمية في تشكيل هويات الأفراد وتوجيه سلوكهم الاجتماعي، فإنه لا يعوق إمكانية التفاهم بين أفراد الطوائف المختلفة وتكاملهم في إطار هوية جامعة لأفراد وطوائف المجتمع المختلفة، على خلاف مفهوم “الطائفية” Sectarianism، الذي يُعبّر عن وعي الهوية الطوائفية وتمايزها Differentiation عن غيرها من الطوائف الأخرى، بل تميّزها discrimination عنها تميّزًا مشحونًا باعتقاد الأفراد المنتمين إليها بأنهم الأفضل، وبحقّهم في نيل مكانة خاصة يُعبَّر عنها بميزات ومكاسب من نوع ما (سياسية، اقتصادية، اجتماعية…)؛ فالحالة الطائفية تكون مصحوبة بالانحياز إلى الذات والاستعلاء، الأمر الذي يُفسّر ظهور ممارسات لدى أفرادها ذات صبغة عدائية، وإقصائية، بل قمعية بحق أفراد المجموعات الطائفية الأخرى في المجتمع.

إذن، الطائفية مفهوم يشير إلى “اعتقاد طائفة معينة بتميزها (أفضليتها) عن مجموعات أخرى (طوائف، دينية أو مذهبية)، علمًا بأن مشاعر التميّز الطائفي وإدراك دلالاته ومحتواه تراوح في شدّتها ومستوياتها وفي عمقها بين الحالة العاطفية المجردة -التفاخر الذاتي فحسب- وبين الاستعداد لإظهارها -تجسيدها- في صورة ممارسة سلوكية قد تبدو في سلوك الرغبة في الإقصاء والنبذ، وفي سلوك التهميش والحرمان، والنفي والاضطهاد، وقد يبلغ التعبير عن الحالة العاطفية درجة قصوى تصل إلى حدود إلغاء الآخر. وبالطبع، تترافق مشاعر التعصب مع ظهور اضطرابات وصراعات مجتمعية مزمنة.

فالتعصّب لطائفة هو أكثر من شعور مجرد بالانتماء إلى هوية طائفة مميزة، إذ يتعداه إلى تحديد موقف (غالبًا يكون سلبيًا) تجاه الطوائف الاخرى، وهذا ما ذهب إليه عزمي بشارة إذ قال: “أما التعصّب لجماعة، بالانتماء إلى ديانة أو مذهب، وباعتبار الانتماء إلى هذه الجماعة محددًا للهوية، وحتى الموقف من الآخرين بوصفهم منتمين إلى جماعات أخرى، فهو ما بات يُعرف حديثًا باسم الطائفية”[2].

3- العلاقة بين حالة الطائفية والدستور: للدستور تعريفات عديدة منها:

الدستور هو القانون الأعلى الذي يحدد القواعد الأساسية لشكل الدولة ونظام الحكم وشكل الحكومة، وينظم السلطات العامة فيها، من حيث التكوين والاختصاص والعلاقات بين السلطات وحدود كل سلطة والواجبات والحقوق الأساسية للأفراد والجماعات، ويضع الضمانات لها تجاه السلطة[3].

تتنوع دساتير الدول في مضمونها وهيكلها، وتختلف بين دولة وأخرى، ولكنها عادة ما تشتمل على مبادئ عامة تُحدد كيفية توزيع السلطة، وتحقيق التوازن بين الحقوق والواجبات، وتحديد صلاحيات السلطات المختلفة، وتحديد حقوق المواطنين.

في حالات ليست قليلة، تشهد العديد من المجتمعات قيام بعض القوى المجتمعية، سواء كانت طائفية أو دينية عرقية أو سياسية، بمحاولات لتسخير الدساتير والقوانين المنبثقة عنها كأداةٍ تحقق من خلالها سطوتها على باقي الجماعات -الدينية والاجتماعية- من خلال توجيه عدد من مواد الدستور لشرعنة تميّزها، وحقّها في رسم القوانين والبرامج التي تتصل بإدارة الدولة والمجتمع، الأمر الذي يمنحها مزيدًا من المكاسب والامتيازات.

في ظل اختلال ميزان العدالة، وانعدام مشاعر التكافؤ بين أطراف المجتمع المختلفة، والقلق المصاحب لأفراد الجماعات المهمشة؛ غالبًا ما تبرز نزعتان متناقضتان مصحوبتان بالاحتقان الثقافي والديني والعرقي، فضلًا عن تعمق الفروق الاجتماعية -الاقتصادية بين المجموعات المختلفة: نزعة الهيمنة والاستبداد، في مقابل نزعة الانسحاب والميل للانعزال. وتكون الأخيرة من نصيب الفئات الضعيفة المهمشة، ويكون ديدنها السعي لبلوغ صياغات دستورية بعيدة عن الدين أو الطائفة، دستور لا لون طائفيًا أو مذهبيًا له، تدعو إلى فصل الدين عن الدولة أو الدولة عن الدين؛ كي تبقى الدولة كيانًا إداريًا حياديًا تجاه التنوعات الدينية أو الاثنية، على الرغم من تعهّده باحترام خصوصيات تلك التكوينات.

4- آليات بث التحيزات المخلّة بمبادئ المواطنة المتساوية في الدستور وسياقاتها:

عادة ما تتبع الجهات النافذة في المجتمع آليات متنوعة، بغية تكريس هيمنتها في المجتمع من خلال الدستور، نذكر منها:

– تحديد حقوق خاصة أو امتيازات لهذه الطائفة أو تلك في الدستور، وتقييد حقوق الطوائف الأخرى.

– تحديد معايير خاصة للتمثيل السياسي، تجعل الطائفة المحددة تحظى بمزيد من القوة والتأثير في الحكومة.

– تضمين تفصيلات حول اللغة والهوية الثقافية، لطائفة معينة في الدستور، تعزز مكانتها وتمنحها حماية قانونية.

– تحديد الدين أو العقيدة الخاصة بطائفة معينة، كدين رسمي، ومنحها مكانة خاصة في المجتمع.

– في بعض الدول، يكون الدين جزءًا أساسيًا من الهوية الوطنية، ويمكن أن تُضمّن أحكام دستورية تربط الدولة بدين معين. وفي هذه الحالة، قد يؤدي ذلك إلى تمييز طائفي إذا لم تُضمن حقوق الأقليات الدينية.

ويمكن تصميم الدستور بحيث يؤثر في توازن السلطات وكيفية توزيعها، مما قد يؤدي إلى تأثير مباشر على العلاقات الطائفية في البلاد.

وتؤكد الخبرة البشرية أن نجاح أي جماعة، سواء أكانت دينية كانت أم سياسية، في تسخير الدستور والقوانين المنبثقة عنه لمصلحتها، يصبح أيسر في ظروف معينة منها:

  • عندما يضمّ المجتمع تنوعًا دينيًا أو طوائفيًا، مع وجود طائفة أو مجموعة سكانية تتمتع بوزن ديموغرافي (عددي) أو بقوة سياسية أو عسكرية تفوق ما لدى الطوائف الأخرى في المجتمع.
  • في المجتمعات ذات البنى الاقتصادية – الاجتماعية غير المتبلورة ومنخفضة التطور، خاصة تلك التي تفتقر إلى خبرات ديمقراطية حقيقية.
  • في المجتمعات التي تشهد تغييرات سياسية أو اضطرابات اجتماعية حادة، تخلخل أنظمتها السياسية مع بروز قوى من داخل الصراع تسعى للاستئثار بالقوة واحتكارها.
  • قد يؤثر تدخل القوى الخارجية في شؤون البلدان الضعيفة (المستعمرة أو شبه المستعمرة) في تغليب فئات دينية – عرقية معينة، وتكريس تحييزها في مواد الدستور الذي تشرف على صياغته، ولنا في تاريخ التدخل الاستعماري في بلاد الشام، في القرون الثلاثة (الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين)، أمثلة عن تقريب فرنسا للأقليات الطائفية على حساب الأغلبية السنية.

5- تجليات البعد الديني- الطائفي في الدستور والقوانين وتأثيرها في الحياة اليومية للسوريين:

يبدو انحياز الدستور السوري جليًا في القوانين المنبثقة عنه، ومن الأدلّة على ذلك قانون الأحوال المدنية: الزواج والطلاق وحقوق المرأة ووضعها في المجتمع، القوامة وحقّ منح جنسيتها لأولادها، عدم قدرتها على السفر من دون موافقة ومحرم، حرية اختيار الزوج، بغض النظر عن دين الشريك، شهادة المرأة في المحاكم، وغيرها.

وكذا في التحفظات التي سُجّلت على عدد من مواد الاتفاقيات الأممية، وأذكر منها: اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (CEDAW)، وقانون حقوق الطفل السوري لعام 2021.

أولًا– اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (CEDAW) التي أجازتها الحكومة السورية بالمرسوم التشريعي رقم 333 تاريخ 26/9/2002. وقد أرفقت انضمامها للاتفاقية بتسجيل تحفظها على:

– المادة الثانية التي تتضمن موافقة الدول الموقعة على إدماج مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة، في دساتيرها الوطنية وتشريعاتها وقوانينها، وضمان الحماية القانونية لها من أي فعل تمييزي يصدر عن منظمة أو مؤسسة أو شخص، والعمل على تبديل القوانين والأنظمة والأعراف بما يتناسب مع ذلك.

– المادة التاسعة الفقرة الثانية، المتعلقة بمنح المرأة حقًا مساويًا للرجل في منح جنسيتها لأطفالها.

– المادة رقم 15 فقرة 4: التي تمنح المرأة حقًا مسًاويًا للرجل فيما يتعلق بالقانون المتصل بحركة الأشخاص وحرية اختيار محل سكناهم وإقامتهم.

– المادة رقم 16، بند 1، الفقرات (ج، د، و، ز) التي تمنح المرأة حقوقًا مساوية للرجل، في الزواج والطلاق والولاية والقوامة والوصاية، والحق في اختيار اسم الأسرة، والمهنة، والوظيفة، وتحديد سن أدنى للزواج، وتسجيله إلزاميًا.

تتطابق هذه التحفظات مع كل ما يحمل تمييزًا ضد المرأة في القوانين السورية، كمواد قوانين الأحوال الشخصية والجنسية والعقوبات، ومع الأمر الدائم لوزير الداخلية رقم 876 لعام 1979، الذي يحدد انتقال وسفر الزوجة، وهي قوانين تتعارض أصلًا مع المادة 25 من دستور الجمهورية العربية السورية التي تساوي بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات، والمادة 45 التي تكفل للمرأة مساهمتها الفعالة والكاملة في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية. وقد استند المشرعون -في إقرارهم المواد التي تحمل تمييزًا ضد المرأة في قانون الأحوال الشخصية- إلى أساس قانوني، باعتبارها مستقاة من الشريعة الإسلامية[4].

وقد سجلت اللجنة المعنيّة بمتابعة إنفاذ الاتفاقية في خلاصة تقريرها ما يلي: “تُظهر التحفظات على اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المراة أنه بينما جرى التصديق على الاتفاقية، فقد ظلت محل تحفظات عديدة تعرقل على نحو جوهري إنفاذها، وهي تحفظات غاية في الاتساع، ويعوزها الوضوح، ومعظمها يتعلق في المادتين الثانية والسادسة عشرة اللتين تتضمنان من وجهة نظر اللجنة الأحكام الأساسية للاتفاقية، وبالتالي يكون أي إخضاع لهما منافيًا لموضوع الاتفاقية وغرضها، ومحظورًا بمقتضى القانون الدولي، إذ من شان هذه التحفظات أن تعني الإبقاء الفعلي على التمييز ضد المرأة في القانون والممارسة”[5].

ثانيًا– قانون حقوق الطفل السوري لعام 2021، نشر في 10 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021[6]

أهم ما يمكن ملاحظته في مواد قانون حقوق الطفل رقم 21 أنها جاءت مطبوعة بصفتين من صفات دولة النظام. الصفة الأولى: تقييدات ذات مغزى سياسي على بعض حقوق الطفل، مقارنة بنظيراتها في اتفاقية حقوق الطفل الأممية الصادرة عام 1989 التي وقّعتها سورية في عام 1992 وتعهّدت بإنفاذها عبر قوانينها المحلية عام 2003. والصفة الثانية: تقييدات ذات خلفية دينية طبعت بعض الحقوق. ويُفترض أن يكون هذا القانون قد وُضع ليكون ملائمًا لجميع أطفال سورية، من دون تمييز على أساس الدين! وهنا نتناول الملاحظات المتصلة بالجانب الديني فحسب:

الملاحظة الأولى: في فصل المبادئ العامة، نصّت المادة السابعة على أن “لكل طفل الحق في التمتع بجميع الحقوق الشرعية المنصوص عليها في قوانين الأحوال الشخصية”.

إن قوانين الأحوال الشخصية المنشورة، بدءًا من القانون رقم 59 لعام 1953 ثم تعديلاته في القانون رقم 34 تاريخ 1975، ثم القانون رقم 18 لعام 2003، والقانون رقم 4 لعام 2019، تخصّ السوريين من أبناء الديانة الإسلامية. فماذا عن حق رعاية الطفل وحضانته في هذه القوانين؟ لقد ورد في المادة 146، من قانون الأحوال الشخصية رقم 4 لعام 2019[7]، أنّ مدة الحضانة تنتهي بإكمال الولد (ذكرًا كان أم أنثى) الخامسة عشرة من العمر. وهي السن التي ينتقل فيها حق رعاية الطفل إلى الأب، ولا خيار للولد بين أبويه.

وبالرغم من منح المُشرع أبناء الديانات غير الإسلامية، بموجب القانون 59 عام 1953، حقّ التصرف بشؤونها المتصلة في الخطبة وشروط الزواج وعقده، والمتابعة والنفقة الزوجية ونفقة الصغير، وبطلان الزواج وحلّه وانفكاك رباطه وفي البائنة (الدّوطة) والحضانة، فإنه عاد ليؤكد ضرورة الانسجام في تلك المسائل مع الفقه الإسلامي، حفاظًا على النظام العام الذي يتطلب الالتزام بالمرجعية الإسلامية، وقد لوحظ ذلك في قوانين الأحوال الشخصية للمسيحيين، في الطائفتين الكاثوليكية والأرثوذكسية[8].

عمومًا، قد تم تغليب الفقه الإسلامي على المصلحة الفضلى للطفل في قانون حقوق الطفل، على الرغم من نص المادة الثانية من قانون حقوق الطفل السوري على أولوية مصلحة الطفل، في جميع القرارات والإجراءات المتعلقة به، أيًّا كانت الجهة التي تصدرها أو تقوم بها، وهو ما أكدته المادة الثالثة من اتفاقية حقوق الطفل الأممية لعام 1989، والسؤال الذي نطرحه: ماذا لو كانت مصلحة الطفل في أن يبقى بحضن أمه![9]

الملاحظة الثانية: أن التمييز يُمارس بحق الطفل عبر تمييزه للرجل مقابل المرأة/ الأم، من نواح متعددة مرتبطة بمسألتي نسب الطفل وجنسيته، فعلى الرغم من خلوّ القانون من أي نص يتعلق بحق الطفل في أن يكون له جنسية، فقد جاءت الفقرة الرابعة من المادة 44 المتعلقة بالرعاية البديلة، لتؤكد أهمية الحفاظ على نَسَبِ الطفل، وفق الحقوق الشرعية. وهذه القاعدة وردت منسجمة مع ما نصّ عليه قانون الأحوال الشخصية رقم 59 لعام 1953 المعدّل بالقانون رقم 34 لعام 1975، الذي نص على أنه في حال عُرفت والدة الطفل، يسجل في السجل المدني اسم الأم ونسبها الحقيقي، ويسجل مجهول الوالد، وتستطيع تربيته والاحتفاظ به، إذا أرادت ذلك، وتكون بذلك أمًّا عزباءَ، ويظهر اسمها في جميع الأوراق الثبوتية، ويعامل معاملة مجهول الأب (أي يتم تسجيله لقيطًا)، هذا النص يتضمن تمييزًا وانتهاكًا لحقوق الطفل.[10]

خلاصة ومقترحات:

تطرح المسألة الدينية- الطائفية والدستور ضرورة النظر فيها من منظورين متكاملين: الأول منظور يرى الطائفية على أنها مشكلة (problem)اجتماعية-ثقافية، تتجلى لدى البحث في واقع المرأة والطفل من حيث تأثيرها على حقوقهما وإنصافهما استنادًا إلى المعايير الأممية. والثاني منظور يتناول الطائفية على أنها أزمة (crisis) اجتماعية-ثقافية مركبة، تضخمت بفعل الأزمة التي عاشها السوريون وما زالوا منذ عام 2011، وتتطلب حلولًا إسعافية عاجلة فضلًا عن الحلول طويلة المدى.

1- الطائفية مشكلة اجتماعية-ثقافية تتجلى في التحفظات التي تُبديها الحكومات السورية المتعاقبة، وأجهزتها المختلفة إزاء بعض بنود الاتفاقيات الأممية” -سواء تلك المتعلقة بالمرأة أو الطفل- وكذا ما تُصدره سلطاتها “التشريعية” من قوانين تخص الأحوال الشخصية والمدنية، وارتباط تلك القوانين بالنص الدستوري الذي رافق جميع الدساتير السورية تقريبًا، الذي يضع التشريع أو الفقه الإسلامي المصدر الأساسي للتشريع، وامتداد أثر ذلك على قضيتي المرأة والطفل السوريين، كما أشرنا آنفًا.

يتطلب حل المشكلة تحريرًا للنص الدستوري والقوانين المنبثقة عنه، من أي إشارة تتصل بأية هوية، دينية كانت أو اثنية… أو أي أيديولوجية، وذلك تلبية لمتطلبات مبدأ المواطنة المتساوية، في مجتمع سوري تعددي وموحد. مع الانتباه إلى ضرورة توفير صيغ القانونية توفر بدائل (دينية- مدنية) لمن يرغب في اتباعها من السوريين بشأن المسائل الشخصية والمدنية.

كما يتطلب ضرورة استمرار المطالبة برفع التحفظات على بعض مواد اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو)، ومنح الأم حقّها -كما الرجل- بمنح جنسيتها السورية إلى أولادها، بغض النظر عن جنسية الأب. مع التأكيد مرارًا على حقيقة ارتباط مصلحة الطفل بحقوق المرأة/ الأم ارتباطًا وثيقًا، فعندما يُلغى التمييز الواقع على المرأة، بما يخص الجنسية والنسب؛ تنتفي مشكلات تسجيل الطفل ونسبه وحق تسجيله في دوائر الدولة.

2- الطائفية أزمة: لقد اجتاز السوريون خلال العقد الثاني من الألفية الراهنة خبرات قاسية، انفجرت خلالها تكوينات اجتماعية، وسقطت مؤسسات اقتصادية، وفشلت مشروعات ثقافية، وسقطت معها شعارات وتوقعات وأفكار ومسلّمات.

كان من آثار تلك الخبرات ولادة أزمة نفسية-ثقافية عميقة، مسّت جميع أفراد الطوائف الدينية، وفي مقدمها أفراد الأكثرية الدينية (السُّنة) لترفع أصواتها شاكية من وقوع مظلوميات عليها، تنظر إلى ذواتها باعتبارها ضحية في سياق تلك المظلوميات، فكانت الحصيلة أن بدا جميع السوريين مظلومين وضحايا. هي حالة مأساوية تعمدت بتضحيات جسام، أنتجت جُزرًا من المظلوميات مصحوبة بوقائع مزرية على مختلف الصُعد، وما زالت تتعاظم طردًا مع انحسار آمالهم في بلوغ مخارج من الواقع يؤدي إلى حلول مُنصفةٍ.

إن الخروج من الوضع الموصوف يستدعي التفكير بمبادرات إسعافية غير تقليدية، يجري بمقتضاها صياغة مبادرات توّلد ما يشبه علاجًا على المستوى الجماهيري يشمل نقد الذات وتبادل الاعتراف معًا، وقد تكون تلك الإجراءات على صورة خطابات متبادلة، وبرامج لقاءات تجري في الهواء الطلق، فضلًا عن الفضاء الرقمي، ولقاءات تجمع الضحايا والجناة. وقد تُصمّم جلسات لعب أدوار ومحاكاة، وقد يكون المسرح شريكًا وكذلك الدراما التلفزيونية والفنون التشكيلية والمعارض… إلخ.

ولمزيد من المقترحات، نحيل القارئ إلى مقال سابق[11]، يحوي مجموعة من الاستراتيجيات التي يمكن التفكير فيها، في ظل استقرار سياسي في سورية، فضلًا عن المقترحات العملية التي يمكن العمل عليها حاليًّا.

……………….

هوامش:

[1]. ريمون المعلولي، مقاربة نظرية لفهم تنويعات المنظومة الديموغرافية السورية، مركز حرمون للدراسات المعاصرة، 3 أيلول/ سبتمبر 2020، شوهد في 8 كانون الثاني/ يناير 2024، الرابط: https://2u.pw/NrR9hNc .

[2]. عزمي بشارة، الطائفة والطائفية: من اللفظ ودلالته المتبدلة إلى المصطلح السوسيولوجي التحليلي، مجلة عمران، العدد الثالث والعشرون، كانون الأول/ ديسمبر 2018، ص 7

[3]. دستور، ويكيبيديا الموسوعة الحرة، تشرين الأول/ أكتوبر 2015، شوهد في 8 كانون الثاني/ يناير 2024، الرابط: https://2u.pw/4MurD .

[4]. محمد عبد الكريم يوسف، تطبيق اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة في القانون السوري، الحوار المتمدن، 16 أيار/ مايو 2021، شوهد في 6 كانون الثاني/ يناير 2024، الرابط: https://2u.pw/DbBqpDU .

[5].  التحفظات على اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة تقويض حماية المرأة من العنف في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، Amnesty Internationa، 3 تشرين الثاني/ نوفمبر 2004، شوهد في 5 كانون الثاني/ يناير 2024، الرابط: https://2u.pw/RbArrG .

[6]. ريمون المعلولي، نكهة السلطة وطبيعتها في قانون حقوق الطفل السوري لعام 2021، 10 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، شوهد في 4 كانون الثاني/ يناير 2024، الرابط: https://2u.pw/qaIEo9M .

[7]. القانون رقم 4 لعام 2019 القاضي بتعديل بعض مواد قانون الأحوال الشخصية الصادر بالمرسوم التشريعي رقم 59 لعام 1953وتعديلاته، بوابة الحكومة الإلكترونية السورية، 7 شباط/ فبراير 2019، شوهد في 5 كانون الثاني/ يناير 2024، الرابط: https://2u.pw/VLkHJr .

[8]. القانون 31 لعام 2006 قانون الأحوال الشخصية للطوائف الكاثوليكية، مجلس الشعب السوري، 18 حزيران/ يونيو 2006، شوهد في 7 كانون الثاني/ يناير 2024، الرابط: https://2u.pw/zTcb72T .

[9]. ريمون المعلولي، نكهة السلطة وطبيعتها في قانون حقوق الطفل السوري لعام 2021، 10 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، شوهد في 4 كانون الثاني/ يناير 2024، الرابط: https://2u.pw/qaIEo9M .

[10]. المرجع السابق

[11]. ريمون المعلولي، إستراتيجيات مقترحة لمواجهة الطائفية في المجتمع السوري، مركز حرمون للدراسات المعاصرة، 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، شوهد في 8 كانون الثاني/ يناير 2024، الرابط: https://2u.pw/tMOaplC .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* باحث وأستاذ جامعي سوري

المصدر: مركز حرمون للدراسات المعاصرة

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.