أحمد عمر *
بدأ أبو البقاء الرندي مرثيّته الشهيرة في الأندلس بحقيقةٍ لا ينتطح فيها عنزان، وهي أنَّ: لِكُلِّ شَيءٍ إِذا ما تمَّ نُقصانُ، .. لكن كل شيء على “أتمِّه” في أخبارنا. تقول الأخبار إنه “تمّت” الانتخابات في مصر كما في الدول الديمقراطية، حتى إنّ رائدهم أنشد: وقف الخلق ينظرون إليَّ كيف أبني قواعد الديمقراطية وحدي، و”تمّت” الانتخابات البلدية في تونس على أكمل وجه، و”تمَّ” انتخاب أجمل كلبٍ في الرياض، فهي كلها بلاد ديمقراطية! وإن سيّد الأفعال في الحرب على غزّة هو الفعل الذي كانت تنتهي به الكتب القديمة: تمَّ بعونه تعالى. مع إننا ما زلنا في حومة الوغى وقلب المعركة، فلم تسقُط خيمة ملك الفرنج بعد.
يقول المحلّل العسكري: إنَّ الطائرة المسيّرة تمَّ إسقاطها، ثم “تمّت” السيطرة عليها، ثم “تمّت إعادتها للخدمة”. لكن ليس هذا محلّ استعمال الفعل تمَّ. يا قومُ، ارحموا عزيز تمامٍ نقص. يسخر المحلل السياسي من إسرائيل، قائلاً: لم لا “يتمّ” الاستفادة من أفلام القسّام العسكرية، ثم يتابع تحليل صورة معروضة فيقول: إنَّ المقاتل بعد أن “”تمّت” إصابته، وبعد أن “تمّ” استهدافه، تسامى على جراحه وسجد، فكيف يصف المحلّل العسكري فعل العدو، وقد أتت مصيبتنا من ناقص، بالتمام؟ تمّ: يُشعر بحصول نقصٍ قبله.
فعل “تمّ” يُغني عن الأفعال كلها، كأنَّ الصحافيين الفصحاء نسوا أنَّ في العربية فعلاً يُبنى للمجهول؛ إما إنَّ السبب هو قلة الفعل العربي، أو أنَّ المراسل العربي يجد مشقّة في ضمِّ شفتيه، فالضمّة أقوى الحركات بعد الكسرة، ويوجب لفظُها إجهاداً لعضلات الوجه، أو أنَّ العربية تحوّلت من لغة إعرابٍ إلى لغة بناءٍ ولا حول ولا قوّة إلا بالله. أحصي كل دقيقة تلفزيونية مرّات ورود هذا الفعل، فأجده سيّد الأفعال في حاضر النقصان إلى الخبز والعوز إلى الكرامة والافتقار إلى العزّة. مثقّفو الفضائيات حوّلوا بالفعل تمّ بقية الأفعال إلى أسماء تعيش بالمعونات غير الحكومية!
ويقول تقرير إخباري إنه “تمَّ” إرسال كذا ألف طن مساعدات غذائية، لكنها فسدت لنقص في الأمور “اللوجستية”. لا أعرف لم لا يُتمُّ عشاق فعل تمَّ إتمام الأمور اللوجستية الناقصة، ولمَ ينتظر الرؤساء الأقوياء التوازن الاستراتيجي. فلتعلم أنَّ التوازن الاستراتيجي هو الاسم الحركي للمخلص المنتظر.
“تمَّ” الإجهاز على الدبابة المركافا من المسافة صفر، و”تمَّ” قصف غزة بثلاثين ألف طنٍّ من المتفجرات، بل إنَّ فعل “تمَّ” هو فعل وسائل التواصل الاجتماعي أيضاً، فصاحب منصّة أكس يبلغك أنه “تمَّ” حظرك، ويقول رئيس المكتب السياسي لحركة حماس بعد الهدنة المؤقتة إنه “تمَّ” انسحاب الاحتلال من غزّة، و”تمَّ” بفعل تصاعد المقاومة، غير خافٍ إن إسرائيل عادت لتحتل المناطق التي “تمَّ” انسحابها منها!
حَضَرَت رَحلِيَ الهُمومُ فَوَجَّهتُ إِلى أشهر المكاتب “تكسي”، واخترت كتاب “صيد الخاطر” لابن الجوزي مثالاً، وهو أحد أغزر المؤلفين العرب تأليفاً، وقد بلغت مؤلفاته نحو 519، فلم أجد فعل تمَّ في كتابه، إلا كل 50 صفحة مرّةً من أصل 600 صفحة، كقوله: إذا تمَّ علم الإنسان لم يدلَّ بعمله.
فرقٌ بين قولك: أُطلق سراح فلان وتمَّ إطلاق سراحه، فإطلاق السراح في فلسطين المحتلة ليس تامّاً، فهو استراحة بين اعتقاليْن، وقد تسمع قولاً المراسل: إنّه تم تعذيب المعتقلين، فهل هناك تعذيب تام وتعذيب ناقص؟ الإتمام تعريفاً: إزالة نقصان الأصل.
أغلب الظنّ أنَّ أصل هذا الفعل مستورد من الفعل do من الإنكليزية، بصيغة الفعل التام done، وهو فعلٌ مأخوذ من العربية، من الفعل أدّى، كما يقول علماء مقارنة لغات، أمثال علي فهمي خشيم وعبد الرحمن البوريني. إما أنَّ سبب سيادة هذا الفعل سواه من الأفعال هو التحرّز من الوقوع في تحذير المتنبّي: ولم أرَ في عيوب الناس عيباً/ كنقص القادرين على التمام… أو إنه إشعار بأنّ الأمر “تمام التمام” يا ريّس، أو أنَّ القائل يستشعر نقصاً فيستعيض عنه بملء الفراغ الاستراتيجي “ملئاً خامساً”، وتحويل الفعل إلى عمل “نأكل من ورائه عيش”.
إنَّ فعل تمّ هو فعل مات بعد قلبه وحذف الألف الذي يسند طوله.
* كاتب سوري
المصدر: العربي الجديد