حسين مجدوبي *
تجندت غالبية وسائل الإعلام الفرنسية، خاصة قنوات التلفزيون للدفاع عن الموقف السياسي والعسكري لإسرائيل، بعد انفجار طوفان الأقصى يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، بل تبارت واجتهدت في تبرير حرب الإبادة ضد الفلسطينيين. وكان الرئيس الكولومبي «غوستافو بيترو» موفقاً عندما قال: إن شعارات الثورة الفرنسية، انتقلت إلى جنوب افريقيا، التي تقدمت ضد إسرائيل بدعوى جرائم حرب في محكمة العدل الدولية.
كلمات الرئيس الكولومبي تعتبر عين الصواب، فقد تخلت فرنسا نهائيا عن شعاراتها في حرب غزة، ووقفت إلى جانب الكيان الاستعماري الذي يرتكب جرائم ضد الإنسانية، وإذا عدنا الى التاريخ، سنجد مدى تناقض فرنسا المستمر مع شعارات الثورة الفرنسية، فقد حققت هذه الثورة التي حملت معها شعارات إنسانية رائعة، ولكن ما لبثت أن انتقلت إلى استعمار أجزاء من العالم، وكانت القارة الافريقية الضحية الكبرى للهمجية الأوروبية.
ووسط هذا التكالب الإعلامي والسياسي في فرنسا ضد القضية الفلسطينية لتمجيد الجلاد إسرائيل، برزت أسماء شريفة، تصدع بالحق، وتصرخ بالحقيقة، على الرغم من الاتهامات التي تتعرض لها بمعاداة السامية. نعم معاداة السامية التي أصبحت سيف ديموقليس ضد كل من نطق بالحق في مواجهة البربرية الإسرائيلية. لا نعني بالأصوات الشريفة تلك التي انخرطت في تبني الأطروحة الفلسطينية بشكل تام، بل تلك التي واجهت وتواجه التيار الجارف، تنتقد حماس ولكنها تنتقد إسرائيل بقوة بسبب جرائمها، وتقول للفرنسيين لا تنظروا للصراع من منظار 7 تشرين الأول/ أكتوبر، بل من منظار عقود من الاستعمار والتنكيل الممنهج بالفلسطينيين.
الأول، واسمه «دومنيك دو فيلبان»، هذا الفرنسي الذي ولد في العاصمة المغربية الرباط، وشغل مناصب عديدة، فهو الوزير الأول في عهد الرئيس جاك شيراك، لكن العالم يتذكره كأبرز وزير خارجية لباريس منذ الحرب العالمية الثانية حتى وقتنا الراهن. بصوت جهوري وكأنه أحد أبطال التراجيديا اليونانية، نبه العالم في مجلس الأمن للأمم المتحدة من النتائج الوخيمة للتدخل الأمريكي ـ البريطاني في العراق. لم يكن عرّافا يرى المستقبل في قاع فنجان، بل يتكهن بالمستقبل وفق معطيات الواقع الجيوسياسي، وكانت كارثة تفكيك العراق، وما تلاها من ظهور فوضى وحركات إرهابية في الشرق الأوسط، خلّفت أزيد من مليوني قتيل حتى الآن، كل هذا نتيجة أكذوبة أسلحة الدمار الشامل. يعود دومنيك دي فيلبان الآن، ليقول لفرنسا والغرب والعالم، إن حرب غزة سيترتب عنها مزيد من العنف المسلح، الذي سيدّمر الشرق الأوسط والعالم، وسيخلق جيلا من الفلسطينيين متعطشا للانتقام، بل بدأت حرب غزة تخل بالنظام العالمي في عملية يفقد فيها الغرب تأثيره التاريخي. استعمل دو فيلبان في خطابه عددا من المصطلحات التي أقلقت إسرائيل واللوبي الصهيوني في هذا البلد الأوروبي مثل «الأبارتهايد» و«حرب الإبادة» و«حرب انتقامية». وكانت القنبلة هو ما أكده «كل فنان يبدي تعاطفا مع الفلسطينيين في هوليوود، يتم وقف التعاقد معه، وأن الفنانين لا يستطيعون الإعراب عن مواقفهم. وتأسف أن «هذا بدأ ينتقل إلى فرنسا». كان تأكيدا لانتقال حركة هي مزيج من المكارثية ومعاداة السامية ضد كل صوت حر. وكان اتهامه بمعاداة السامية، سيف ديموقليس الأبدي.
صوت آخر، برأته المحكمة في بداية عملية الطوفان من تهمة معاداة السامية التي رفعها ضد جمعيات يهودية في فرنسا، وهو المحلل الجيوسياسي المستقل الذي يغضب دوائر القرار في باريس قبل تل أبيب، إنه «باسكال بونيفاس». أكد في برنامجه الشهير في قناة يوتيوب في حلقة بعنوان «هل الإعلام الفرنسي موال لإسرائيل؟»، وكان جوابه المعزز بالأدلة والبراهين «الإعلام الفرنسي يولي الاهتمام الكبير بمصير الأسرى الذين في حوزة حماس، علاوة على مصير إسرائيل نفسه، ولا يوجد اهتمام حقيقي بالأسرى الفلسطينيين، وعدم إبداء اهتمام بمعاناة سكان قطاع غزة». يصرخ بأعلى صوته بأن محللي القنوات الإخبارية في فرنسا يروجون لصورة مختلفة عن الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي ويحاولون تلخيصه في صراع إسرائيل ضد الإرهاب. يتأسف لصمت المثقفين في فرنسا خوفا من تهمة معاداة السامية، ويتعجب لظهور طبقة متطرفة لصالح إسرائيل ليست بالضرورة من اليهود.
الصوت الثالث هو لـ«روني برومان» الرئيس السابق لمنظمة «أطباء بلا حدود» اليهودي المولود في القدس، الذي قال قولته الشهيرة خلال تشرين الثاني/ نوفمبر 2006 «أعتقد أنه لو كنت موجودا سنة 1948 لرفضت إنشاء دولة إسرائيل، ولدافعتُ عن دولة يهودية- فلسطينية». لم يتردد في وصف المسيرة التي نظمتها الأحزاب السياسية الفرنسية خلال نوفمبر الماضي ضد معاداة السامية، بأنها «مسيرة لدعم إسرائيل وليست ضد العنصرية التي يعاني منها اليهود». روني برومان تحول إلى عقدة اللوبي الصهيوني ـ الفرنسي في المشهد السياسي والإعلامي في فرنسا، خاصة بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر، انفجار طوفان الأقصى، لأنه اليهودي الفرنسي الذي يتحدث عن جرائم ضد الإنسانية وتحويل قطاع غزة إلى أكبر سجن في العالم وكيف يشاهد العالم كارثة إنسانية من دون تحرك قوي.
يوجد في فرنسا عدد كبير من الأصوات الحرة التي لها تأثير كبير في ضرب الدعاية الصهيونية. وعلى الرغم من الحصار الذي تعانيه هذه الأصوات في قنوات تلفزيون وإعلام يبدو أنه أقسم للوقوف الى جانب إسرائيل رغم جرائمها، تستمر هذه الأصوات وفي غالبيتها في شبكات التواصل الاجتماعي. أصوات يستحق الاحتفاء بها في العالم العربي والإسلامي، لكن الطامة الكبرى أن الإعلام يعتمد الصحافة الكبرى الموالية لإسرائيل مرجعا من دون وعي، وعدد من الإعلاميين لا يتحركون سوى بأوامر من الأنظمة، والكثير منها تنسق مع إسرائيل سرا وعلانية.
* كاتب مغربي
المصدر: القدس العربي