الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

إسرائيل.. نقطة “أمريكا العمياء”

محمد المنشاوي *                                

بعد مرور أكثر من 100 يوم على بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة عقب بدء عملية “طوفان الأقصى”، لم تطالب الإدارة الأمريكية، وعلى رأسها جو بايدن، بوقف إطلاق النار، وذلك على الرغم من استشهاد أكثر من 25 ألف فلسطيني وجرح أكثر من 100 ألف آخرين، إضافة لتدمير كل سبل الحياة في القطاع.

وفي حين أن تصرفات إدارة جو بايدن تُعد غير مسبوقة في الطريقة التي تدعم بها واشنطن هجمات إسرائيل على المدنيين الفلسطينيين، إلى درجة رفض الدعوة لوقف إطلاق النار، وما يُصاحب ذلك من شحن يومي للذخائر والأسلحة الأمريكية لإسرائيل؛ يكشف التاريخ الأمريكي أن نهج بايدن لا يختلف جذرياً عن سياسة كل الإدارات الأمريكية منذ تأسيس دولة إسرائيل عام 1948.

                                           ***

يرى بعض المُعلقين أن إدارة بايدن أظهرت تطرفاً في تقديمها للدعم العسكري والدبلوماسي والعاطفي والسياسي لإسرائيل منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، في حين يرى آخرون أن الدعم لم يتغير خلال السبعين عاماً الماضية، وإن اختلف شكل تقديمه.

ويكشف كتاب الباحث ثاقب الرؤية “خالد الجندي” «النقطة العمياء: أمريكا والفلسطينيون من بلفور إلى ترامب»، عند وضعه في سياق أحداث “طوفان الأقصى” وما تبعها، أن نهج بايدن هو «تتويج للنهج الأمريكي التقليدي في التعامل مع إسرائيل والفلسطينيين، وهو نهج يتميز باتساقه الملحوظ عبر الإدارات الجمهورية والديموقراطية».

كما يشير عنوان الكتاب إلى عمى الإدارات الأمريكية المتتالية عن عدة حقائق في تناولها لما يُطلق عليه «عملية سلام الشرق الأوسط» على مدار العقود الأخيرة، نتج عنه تجاهل حقوق الجانب الفلسطيني، وتبني واشنطن لوجهة النظر الإسرائيلية، وهو ما أدى في النهاية لما جرى يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر.

                                           ***

اختارت واشنطن أن تُعمي بصرها عن التباين الشاسع في القوة بين الطرفين، ومارست باستمرار ضغوطاً غير متناسبة على الطرف الفلسطيني الأضعف، مع القليل جداً من الضغط المقابل على الطرف الإسرائيلي الأقوى. وفي الوقت الذي تجاهلت فيه واشنطن الديناميات الداخلية للسياسة الفلسطينية، تبنت الولايات المتحدة مواقف منحازة للسياسة الإسرائيلية، وتراجعت باستمرار أمام القادة الإسرائيليين تحت ذريعة اللجوء للانتخابات وتجنب انهيار الحكومات الائتلافية. ودفعت مواقف واشنطن المهادنة للسياسات الإسرائيلية التي لم ينتج عنها أي تقدم في تفتيت السياسة الفلسطينية بعدما فشلت في إيجاد دولة للشعب الفلسطيني، هو ما أدى تاريخياً إلى ظهور جماعات المقاومة ضد إسرائيل، وعلى رأسها حركة حماس.

                                           ***

تجاهلت واشنطن الحقوق الفلسطينية نتيجة عماها تجاه إسرائيل، واختلف حجم العمى في تفاصيل غير مؤثرة على مر السنين ومن إدارة إلى أخرى، إلا أن العمى كان دائماً موجوداً. رفضت إدارات ترومان وأيزنهاور وكينيدي جميعها التعامل مع “مسألة تقرير المصير الفلسطيني”، حيث أذعن الرؤساء الأمريكيون بشكل مُطرد لرفض إسرائيل إعادة أي لاجئ فلسطيني من 1948، وهو ما سمح للرئيس ليندون جونسون بإنكار وجود مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، مع توسيع مبيعات الأسلحة إلى إسرائيل، ومنع الإجراءات التي تعارضها إسرائيل في الأمم المتحدة.

وبعد حرب 1967، تبنت واشنطن رواية روّجَ لها هنري كيسنجر تتعلق بخلق «عملية سلام» عربية إسرائيلية مع إبقاء الفلسطينيين خارج العملية الدبلوماسية. ثم ركزت إدارات نيكسون وفورد وريجان، على رفض التعامل مع منظمة التحرير الفلسطينية لأطول فترة ممكنة، وأثبت كارتر أنه الاستثناء من هذه القاعدة، ولكن كما يوضح كتاب ‘الجندي’، كانت يداه مقيدتين إلى حد كبير بأفعال أسلافه.

                                        ***

وفي عهد بيل كلينتون، اختارت واشنطن تجاهل أن العلاقة بين الإسرائيليين والفلسطينيين ليست علاقة صراع فحسب، بل علاقة احتلال تسيطر فيه إسرائيل بشكل مباشر على حياة ملايين الفلسطينيين.

ونظراً للروابط الوثيقة بشكل غير عادي بين الدولتين، والتأثير المفرط للوبي المؤيد لإسرائيل، كان من الأسهل والأقل تكلفة من الناحية السياسية بالنسبة للمسؤولين الأمريكيين التركيز على جوانب فنية معقدة تستهلك طاقة الطرف الفلسطيني مثل إصلاح السلطة الفلسطينية وتحسين الأمن الإسرائيلي، بدلاً من الضغط على القادة الإسرائيليين بشأن قضايا هامة مثل بناء المستوطنات الإسرائيلية، أو احترام الحقوق الفلسطينية.

استمرت حالة العمى الأمريكي في إدارات كلينتون وبوش وأوباما على حد سواء، حيث ضمنت عملية السلام عدم تحقيق أهدافها النظرية، وبدلاً من ذلك شجعت المتطرفين والمتشددين في كلا الجانبين، لذا زادَ العنف وتوسعَ الاحتلال الإسرائيلي.

اكتفى الرؤساء الثلاثة فقط بالتنديد ببناء المستوطنات، وادعوا أنهم يدعمون قرار الأمم المتحدة رقم 242، دون العمل على تحقيقه على أرض الواقع.

ثم جاء الرئيس دونالد ترامب، ليتجاهل الفلسطينيين في وقت خشي الحكام العرب من تهوره، وهو ما سمح له بنقل السفارة الأمريكية للقدس التي اعترف بها عاصمة موحدة أبدية لإسرائيل دون أي محاسبة أو موقف من الجانب العربي.

                                         ***

تضاعف العمى تجاه إسرائيل مع وصول بايدن للحكم مع غياب أي رغبة أمريكية في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي أو حتى العودة لمسار عملية السلام التفاوضي عديم القيمة.

وربما كانت إدارة الرئيس السابق ترامب الأكثر قسوة على الفلسطينيين، بوقفها تمويل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، والاستغناء عن مصطلح «الاحتلال»، وإنهاء التمثيل الدبلوماسي الفلسطيني في واشنطن، وما قام به بخصوص القدس، إلا أن تصرفات الرئيس جو بايدن من الدعم والمشاركة في العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة دفع بالعمى الأمريكي إلى حدود لم يتخيلها أغلب الأمريكيين أنفسهم.

* كاتب متخصص في الشؤون الأميركية، مقيم في واشنطن

المصدر: الشروق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.