الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

مصر التي تفاجئك..

عديد نصار *

مصر التي نعرفها تصبر، قد تصبر طويلاً، وربما يطول صبرها إلى أن يدفعك إلى ما يشبه الإحباط أحياناً، لكنها، وفي عز صبرها الطويل تفاجئك.. فتنهار فجأة كل تلك الجدران التي طالما أرهقتك.

قبل بضعة أيام، وفي حديث مع صديق من مصر تساءل عن حال لبنان والتشرذم الذي يصيب قواه الحية، كيف ذلك ولبنان بلد الإشعاع في المنطقة كلها؟ أجبت: الإشعاع ما لم ينطلق من مصر فلن يتعمم ولن يُستدام.

تاريخياً، رواد النهضة من أبناء وبنات سورية ولبنان هاجروا إلى مصر حيث أدوا أدواراً ريادية في مختلف المجالات.. وهذا يدل على رحابة وسعة وانفتاح واحتضان، وعلى بيئة خصبة ثرية مُلهمة لا يختصرها حاكم ولا يحدها مستعمر ولا يقدر على تعقيمها جهاز مخابرات.

حتى العزف المنفرد حين ينطلق من مصر له وقعه الكبير الذي يُلهم العرب قاطبة ويرفع لديهم مستوى الأمل والإقبال على المستقبل مهما بلغوا من سوء أوضاعهم وارتبكت بالشجون والأزمات وحتى المآسي العظام أحوالهم. فمن سليمان خاطر الى محمد صلاح كان يتجدد الوعد وينهمر الغيث على أمة تكاد تجف أوصالها.

وعلى مسافة أيام قليلة من 25 كانون الثاني/ يناير تتردد هتافات الثورة من على مسافة صفر من ميدان التحرير. على أدراج نقابة الصحافة حضرت الثورة بلحمها ودمها وأهازيجها. حضور ترددت أصداؤه في كل مِصر وفي كل مَصر..

وإن كانت شروط كثيرة تهيء لانتفاضة الشعب المصري قد نضجت، فربما علينا أن نتحمل مزيداً من الصبر كي تتفتح زهورها على ضفاف النيل، النيل الذي لم يسّلم من أذى نظام عبد الفتاح السيسي صاحب العاصمة الجديدة التي أرهقت الاقتصاد المصري في وقت يعاني الملايين من أزمة سكن قاتلة، وصاحب تفريعة قناة السويس التي يحاصرها اليوم تحالف “حماية الازدهار” بأساطيله ومدمراته.

وإذا كانت هذه المرحلة قد شهدت على مواقف هذا النظام التي لا تقل في تمظهرها وفي نتائجها عن تواطؤ مَهين في جريمة الإبادة الجماعية التي يشنها الاحتلال الصهيوني على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، فإن هذه ليست الجريمة الوحيدة التي ارتكبها نظام السيسي على مستوى التبعية المذلة في العلاقات الخارجية وارتكاباته المهينة من ليبيا الى اليمن إلى السودان.. وصولاً الى فلسطين وخصوصاً غزة. هذه الجرائم وفي طليعتها إحكام الحصار على قطاع غزة في عز حاجة أبنائها إلى فتح معبر رفح أمام المساعدات دخولاً والمصابين خروجاً للعلاج، مثلت إهانة لا يمكن لمصر التي صبرت على الإفقار ونهب الموارد واستشراء البطالة وضنك العيش الذي تسببت به مافيات الاحتكار وانهيار سعر صرف الجنيه، لا يمكن لمصر أن تتقبلها أو ترضى أن توصم بها. فمصر التي قاومت بصمت اتفاقيات كامب دافيد ورفضت التطبيع مع الاحتلال الصهيوني رغم تطبيع النظام معه منذ خمسين سنة، لا يمكن أن ترى نفسها في تواطؤ معه في جريمة الإبادة الجماعية التي يرتكبها بحق شعب أكثر من لصيق وأقرب من شقيق.

وحيث يتراجع المؤشر الاقتصادي والائتماني لمصر باضطراد، ويتابع سعر صرف الجنيه المصري انهياره فترتفع أسعار الحاجيات اليومية للمواطنين، ويتزايد بالتوازي مع ذلك إقفال المؤسسات الانتاجية كإقفال مصنع للسكر في الأيام الماضية وتشريد عُماله لتتكالب على المصريين مافيات الاحتكار المرتبطة بالنظام والتي تحرك خطواته من خلف، يتأكد كل يوم ليس فشل النظام على المستويين الاقتصادي والاجتماعي والمستوى الوطني والعلاقات الخارجية، بل جرائمه في ذلك لأن الفشل قد يكون غير مُتعمد، لكن ذلك كله يأتي في إطار سياسات ومنهجية حكم واستراتيجية مقصودة مترافقة مع هذا الكم من القمع والمنع والتوقيف والاخفاء القسري للناشطين على أيدي أجهزة أمنية فُصّلت على مقاس نسف كل مكتسبات 25 يناير والتخلص من تبعاتها وطيها في غياهب النسيان، والدفع باتجاه التحريض المتواصل وتعمُد تشويه صورة الناشطين الحقوقيين والإعلاميين عبر أدوات إعلامية مُلحقة وُظفت بالتحديد ضد حرية الرأي والكلمة.

واليوم، تختلط المشاعر وتتداخل الصور بين ذكريات ثورة 25 يناير وبين ما نعيشه اليوم، بين هتافات ميدان التحرير وهتافات أدراج نقابة الصحافة، بين إصرار الثوار على تنحية حسني مبارك وبين توحد الشعب المصري خلف هتاف: “افتحوا المعبر!”

ونبقى في انتظار المفاجأة يا مصر..

* شاعر وكاتب لبناني

المصدر: الحوار المتمدن

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.