نجيب جورج عوض *
دُعيتُ مؤخَّرا لأشاركَ في ندوة عن موضوع الطائفيّةِ في سوريا من قِبلِ فريق من السوريين الذين شكلوا مركزا للدراساتِ في إحدى بلدانِ اللجوء، بعد أن هربوا من المذبحَة التي ارتكبها نظام الأسد في سوريا خلال العقد الماضي. وقد جاءَت دعوتي من ضمن دعوات وجِّهَت للعديد من السوريين ومن كافَةِ الخلفياتِ والتوجهاتِ والاختصاصات (أو عدمها) كيما يتداعوا للحوار حول الطائفية وخطرها في المشهد السوري. إنَّ تجربة المشاركة في المنتدى المذكور ومراقبتي لمقاربات وأداء مُنظمي الندوة والمشاركين بها، وتفاعلي مع المقاربات والأفكار والمُقتَرحات والتَوصيات التي خَرجوا بِها هي ما يَدفَعُني لكتابة هذه الورقة اليوم.
هذه الورقة هي أطروحَة مُختصرَة ومُبسَّطَة حول موضوع الطائفية ومقاربته معرفيَّا في سياقِ المشهدِ السوري. سيبدأ طرحُها أولا بعرضِ لِفكرَةِ “الطائفية” في ضوءِ مقاربتها من قبلِ الفريقِ المنظم للمنتدى المذكور في الأعلى. من ثم ستصل إلى النظَرِ في ما فات فريق المنتدى المذكور أن يبحث فيهِ، بل إنَّه تعاملَ معه كتحصيلُ حاصل بديهي لا يحتاج إلى الدراسة. وستنتهي الورقة بملاحظات ومقاربات ختامية عن علاقةِ السوريين بمسألة تشكيل المعرفة ومنهجياتِها.
عن الطوائِف والطائفيَّة
انطلقَ مُنظِّمو الندوة عن الطائفيَة المذكورة من فرضيَّة قوامُها تسليم ناجِز لا جِدالَ فيهِ، ولا حتى تمحيص، بأنَّ هناكَ مشكلة طائفيّة في سوريا وأنَّ علينا مواجهة خطر هذه المشكلة ومحاربته بكافة الوسائل المُتاحَة العلمية والثقافية والفنية والإعلامية والسياسية والقانونية والمجتمعية. ما فاتَ المُنظِّمينَ هو أنَّ العَقلَ العِلميَّ الأكاديمي يُفرِّقُ ما بين “وجودِ طوائِف”، من جِهة، و”وجودِ الطائفيةِ”، من جهة أخرى.
في أدبياتِ ودراساتِ حقولِ العلومِ الاجتماعيَّةِ، وخاصَّة السوسيولوجيا وسوسيولوجيا الأديان، هناك تَفريق مفاهيمي بُنيوي ما بين “الطوائف” الإنجليزية (confessions) و”الطَوائفية” بالإنجليزية (confessionality)، من جهة، و”الطائفية” بالإنجليزية (sectarianism)، من جهة أخرى. ينطلقُ علماء الاجتماعِ من إدراك قواعديّ بأنَّ وجودَ طوائِف في مجتمَع ما لا يعني بالضرورةِ والبداهَةِ وجودَ مُشكلة “طائفيّة”، وإن كانَ نشوءُ الطائفيةَ يتطلَّبُ تواجَد حالة من التَعدُديَّة الطوائفيَّة. يَدلُّ مصطلَح “طوائفية” على وجودِ عِدَّةِ طوائِف، دينيَّة أو عقائديِّة أو إيمانيَّة، تتعايَشُ معا في سياق بشريِّ سوسيولوجيِّ وسياسي وتثاقُفي وأنثربولوجي واحِد وجامِع، وتتشارَكُ مع بعضها البعضِ في الوجودِ على نفسِ الجغرافيا، وفي الانضواءِ تحتَ نفسِ المِظلّةِ الدولتيَّةِ والتعاقدات المدنيّةِ والدستوريَّةِ الناظِمَةِ لوجود الدولة والمُحدِّدَة لقواعِد ومكوِّناتِ ماهيتِها. تألُّف مجتَمع ما من عِدَّةِ طوائف أمر صحيُّ وبَنَّاءُ في أي وجود جماعي بشري، فهو دليلُ على التنوع والتَعدَّدِ واتساع آفاقِ المجتمعِ المذكور. الطوائفيَّة، إذا، حالَةُ وجوديّة سوسيولوجية وأنثربولوجية، قبل أن تكون دلالة دينيّة أو عقائدية أو إيمانية، وهي لا تُمثِّل مشكلة أو معضلة ينبغي التغلب عليها أو خطرا يجب مواجهته. من جهة ثانية “الطائفية” مُصطَلَحُ لا يُرادُ بهِ الحديثُ عن حالة وجود سوسيولوجيَّة أو بشرية جمعيّة، وإنما تَسميَةُ “منطِق أيديولوجي”. الطائِفيَّةُ هي ذاك الفِكر الأيديولوجي القائِم على مفهومِ المغايرَةِ والتضادِ والثُنائيَّةِ التَعاكسيّةِ (binarism) مع الآخر والتَشديدُ على التَغايُرِ عنهُ من خِلالِ التَمَسُّكِ بهويَّة عقائديَّة أو أيديولوجيَّة ذاتُ جذور دينيَّة أو إيمانيّة أو دوغمائيَّة تَضع الذات في مُفارقَة ديالَكتيكّة مع الآخر وتُشدِّدُ على ذات المرء من خِلال فرضِ تضادّ صدامي وتنافُري، بل ونِزاعي، مع ذاتِ الآخر. الطائفيَّة، من هنا، مَصدَرُ شِقاق ونِزاع وعداوة وحالةُ “وجود يكمن في فناءِ الآخَر”، بِحُجَّةِ التَنوُّع والاختلافِ والتَعدَّد. تصبحُ تِلكَ الأخيرة مَصدرَ خَطَر وأذيَّة وتَهديد في حَالةِ انتشارِ حالَة “الطائفيّة”، بعد أن كانَت مَصدرَ وأساسَ وقاعِدة الغِنى والوحدَةَ والتَعايُشَ التَعاضُديَّ والثَـراءَ المُجتَمعيَّ في حالةِ “الطَوائفيّة”.
انطلاقا من هذا التفريق المفاهيمي الإبستمولوجي القاعدي، يُفرِّق الباحثون في حقول العلوم الاجتماعيةِ ما بين المُجتمعاتِ التعدَّديَّةِ والمُجتمعاتِ التأحيديَّة (monistic)، وما بين الحِراكِ الوجودي (الطوائفية) والأيديولوجيا (الطائفية)، ويُدركونَ أنَّ لِكل ظاهرَة إرهاصات وإسقاطات هرمنيوتيقيّة وتَحليليّة ومَعرفية مُتباينَة لا ينبغي الخلط بينها ولا اختزالها ببعضِها البعض ولا مُعاملتها وكأنها مُعطيات وحيثيّات واحِدَة وَحيدَة.
لا يبدو أن الفريق السوري المُهتم بمَسألة الطائفية ينطلق من هذا التَفريق الإبستمولوجي والمفاهيمي المذكور، إذ أنّه يَفتَرضُ، بشيء من الإصرارِ يخَلو من التساؤل (لا يسأل الفريق، “هل في سوريا طائفيّة؟” بل ينطلق من التسليم بوجودها)، بأنَّ سوريا تُمثِّلُ حَتما نموذجَ مُشكلة طائفية، فَقَط لأنَّ أفرادَ الجَماعاتِ الطَوائفيّةِ المُختَلفَة في سوريا باتت تَنتَبهُ لِهَوياتِها الطوائفيّة وقد نكصَت نحو انتماءاتِها الضيقَة، ما تحت السورية بشدَّة مؤخرا ولأسباب عديدة شديدةِ التعقيد، لا علاقةَ لها بالضرورةِ بمشكلةِ “الطائفية”. ليس لدينا على أرض الواقِع السوري التاريخي أو المعاصِر أي دليل علمي (علمي بمعنى أنه مُستقى من عملية بحث ميداني يقوم على جمع نوعي للمعكيات (qualitative data collection) يُمكن أن نستدلَّ عَليهِ ميدانيا أو تجريبيا في الوقت الحالي يقول لنا بأنَّ المشهَد السوري فيهِ حالَة “طائفية” موَصوفَة ومُثبتَة مَعرفيَّا، ولا يكفي تَصاعُدُ حَديث السوريين عن هوياتِهم الطوائفية بحّدِّ ذاتِهِ ليقودنا إلى مثل هذا الاستنتاج علميا.
لقد سبقَ لي في دراسات نشرتها باللغتين العربية والإنجليزية وأن شرحتُ بأنَّ المشكلة التي عانَت منها سوريا في الخمسين سنة الماضية هي مشكلة أخرى أكثر خطورة وتدميرا من “الطائفية”. لقد لَعِبِ النظام الأسدي البعثي في سوريا على وتَرِ الطوائِف ومارسَ توظيفا لِهويّةِ قياداتهِ السياسيةِ والعسكريةِ والأمنية العلويَّة طوائفيا في خلقِ مِخيال طوائفي تمييزي أدى إلى شرخ البنية المجتمعية داخل البلد وأجبرَ الجمهور السوري على الاحتماءِ واللجوءِ إلى حلقاتِ انتمائهِ الدينيّةِ أو العِرقيَةِ أو الإثنيَّةِ أو الدوغمائيَّةِ الضيقَة. كل هذا صحيح جدا. إلا أنَّ النظام الاستبدادي المذكور لم يُحَقِّق هذا من خلال تطبيقهِ لأيديولوجيا “الطائفية”، بل من خِلالِ فرضهِ لما أسميته أنا في أطروحتي “سياسة الأقللة” (minoritization policy)، والتي قامَت على عزلِ وتهميشِ ومن ثمَّ مراقبَةِ وترهيبِ وقَمعِ وتهجيرِ، بل وتصفيَة، كُـل مواطِن أو مواطِنة سوريّة لم يَنصاعوا لمَشروطاتِ النظام ولم يُوالوه في أجِنداتِه ومَشاريعهِ ورؤاه ورَفَضوا أن يُصبِحوا جُزءا من نظامِ الفسادِ والإفسادِ والاستبدادِ والقمعِ والتفرقةِ والدوغمائياتِ الذي شكَّـله هذا النظام. عِملَت سياسة الأقللَة تِلك (نظِّرَ لفكرة “سياسة أقلَلَة الذات” في الفكر الأوروبي الفلسفي المعاصر كل من جايل جولوز وفيلكس غوتاري) على مُعامَلَة أولئكَ غير المُنصاعين (والذين شكَّـلوا الأكثرية الساحِقَة من المواطنين السوريين) كأنهم أقليَّة (أي أقلَلَهُم) مَحرومَة من حقوق الإنسان الطبيعية ومَمنوعُ عليها العيشَ كما يعيش البشَر الأسوياء. إلا أنَّ النظام لم يُمارِس تلك السياسَة على طائفَة بعينها ولمصلحَة طائفَة أخرى بعينها، بل طبَّق سياسة الأقلَلَة المذكورة على كـل من خَالَفهُ ورفضَ الولاءَ لهُ من كـافَّةِ الطوائفِ والمَذاهِبِ والأديانِ والثقافاتِ والعِرقيَّاتِ/الإثنيّاتِ والقوميَّاتِ التي يَذخَرُ بِها المَشهَد السوري. ولهذا امتلأت سُجون النِظام بمعتقلينَ من السنَّةِ والعَلويين والمَسيحيين والدُروز والأكراد والأرمن وعَرب العَشائرِ، ومن تيارات اليسار واليمين والوسط والاعتدال والتطرف السياسية والحِزبية كذلك. هذه ليست حالة “طائفية”، بل حَالةُ “سياسَة أقلَلَة” تعرضَت لها وعانَت مِنها كـافَّة الطوائفِ معيارها “من مع النظام الحاكم ومن ضده” وليس “منْ من تلك الطائفة ومن ليس منها”.
من هِنا، فإنَّه من غير الدقيق علمياً أو مَعرفيَّا أن نفترضَ أنَّ ديناميكيَّاتِ التفاعُلِ بين الطوائِف، مهما بلغَت من التعقيدِ ومهما اعتَورَها من تَحديَّات ومَعوقات وهَفَوات عبرَ الزمن، أو أنَّ ديناميكيّاتِ تَوظيفِ التَعدّد الطوائفي في خِدمَةِ أغراض سُلطويَّة (كما فعلَ النِظام) أو تَعبويَّة وثَوريَّة (كما فَعلَت أطيافُ المعارضَة الإسلاميَّة في المَشهد السوري الثوري المُعارِض خلال الثورة والمأساة في البلد في العقد الأخير) أو هويَّة براغماتيّة (كما تفعل أفواج كثيرة من السوريين اللاجئين حول العالم اليوم)، تكفي كلها كَدلائلَ على وجود مُشكـلَةِ “طائفية” في قَلبِ المَشهَدِ السُوري المأساوي الحالي. على الأقل، لا تَكفي تلك الحالات لتَدُلَّ على أنَّ هذا هو المَرَض الذي يأكـل الجَسدَ السوري المَريض. سوريا لا تُعاني بَعد من مُشكـلَة “الطائفية”، والثورَةُ والنِزاعُ فيها لم يَقوما على قاعِدَةِ عَداء واقتتال وحِراب بين طوائفَ بقَضِّها وقَضيضيها وبكُـلَّانيّتها ضد بعضها البَعض. هذه قراءة تنطلقُ من افتراضِ أنَّ المشهد السوري هو نَموذجُ “حَرب أهليّة”، كما تُصِرُّ دوائرُ البَحثِ والإعلامِ والسياسَةِ الغربيّة وبَعضِ العربيّة على القولِ بجهل وتَشويه غير علميّ إطلاقا للوقائِع. المشهد السوري لم يكن حَربا بين طائفَة حاكِمَة (العلويون) ضِد طائفَة مَحكومَةَ (السُنَّة)، معَ وقوع باقي الطوائِف في أتون النارِ المشتعلَة بين الطرفين (الطوائف المسيحيّة). العَلَويّينَ لم يكونوا حُكَّام سوريا “كطائفَة”، بل هناكَ أطراف وشَرائح من الطائفَة العلويَةِ حَكمتَ البلد واستبدَت بالعبادِ “باسم” الطائفة العلوية وقد استَخدَمَت تلك الطائفةَ كدَريئَة وكـأداة أمنيّة وعَسكريّة لِحماية نفسها، معاقِبَة ومؤقلِلَة كـل من رفضَ هذا الدور من أبناءِ تلكِ الطائِفة. المسيحيون لم يكونوا تحت حمايَةِ النظام ورعايتِه كطائِفَة، بل استخدم النظام المؤسَّسَة المسيحية الدينيّة في تلميعِ صورتِه وبناءِ سمعة وهميَّة له في الخارج. السُنَّة السوريون لم يَكونوا ضحايا النظام المُستَبد “كطائفَة” بِعينها، بل كانت هناك شرائح فاعِلَة ومُتنَفِّذه تتمتَّعُ بالثَـراءِ والسَطوةِ والنُفوذِ في المشهد السوري من الطائِفَةِ الِسنيّة تحالفت مع النظام المذكور ودعمته وموَّلتهُ وأمَّنَت لهُ المشروعيَّة المطلوبة بل والمِظلَّة الإقليميّة، وهي لم تكن تَنطِق باسم طائفَة برَمَّتِها. الثورة والنِزاع في سوريا قامَت ما بين شَعب مُؤقلَل برُمَّتهِ ضِد طُغاتِهِ والمُستبدينَ بهِ؛ شَعب قامَ بكافَةِ أطيافِهِ وطَوائِفِه (كل حسبَ وجودِه وإمكاناتهِ العدديَّة) ضِد من احتمى بِواقِعِ التَعدَّدِ الطوائفي في سوريا. ولكن، لم يَكُن هُناكَ حَرب طائفيَّة في سوريا (أو حربُ بين الطوائف، ولا حتى بين السوريين: كان هناكَ حرب على السوريين وضِدَّهُم)، ولهذا سوريا لا تُعاني من الطائفيّة، وإن كانَت تُعاني من أمراض وكوارث أفظعَ وأشنَع وأكثرَ تَدميرا وسَوداويّة.
عن أي سوريا نتحدَّث في ما يتعلَّق بالطائفيَّة؟
سأكتفي بما سُقتُ إليهِ عن “الطائفيَّة” و”الطوائفية” في سوريا في القسم الآنِف وأمضي إلى مسألة أخرى كنت قد أشرت إليها أثناء مشاركتي في الندوة المذكورة دون أن تَلقى مُداخلتي أي آذان صاغيَة من الفريقِ المُنظِّم. في مُداخَلَتي تِلك، شَبَّهتُ ما نَعملهُ في النَدوةِ، كَمُنظِّمينَ وكَمُشاركين، بفَريق من الأطبّاء الجرّاحين تبادلوا الآراء بإسهاب حولَ المَرضِ (المُفترَض) الذي يَتعاملونَ معه ويَعملون على معالجتِه في جسدِ مريض يَستلقي أمامهَم في المستشفى. إلا أنَّ فريق الأطباء هذا انهمكَ كُليَّا في دراسةِ وتوصيفِ المَرضِ المَزعومِ وسُبُل مُعالجَتهِ دون أن يَصرِفَ وَقتا في التَفكيرِ بدراسَةِ “المَريض” في حَدِّ ذاتهِ وفي تَوصيفِ حالتهِ. ما أردتُ قولَه من خلال التَشبيه الوصفي الذي استعرته هو أن علينا كَدَارسين لِمُشكِـلَةِ الطائفيّةِ واحتمال وجودِها في سوريا ولِكَيفيّةِ مُعالجَتِها أن نتأكدَ ما إذا كانَت “السوريا” التي نَتحدث عنها هي “السوريا” الواقعيَة المَوجودَة على الأرض، أم “سوريا” أُخرى مُتخيَّـلَة ومُفترَضَة، قُمنا بافتراضِها قَبليَّـا (apriori)، بالمَعنى الكانطي (من عمانوئيل كـانط) للكَـلِمَة، كيما تَخدُمَ الموقِفَ مُسبَق الصُنع الذي افترضناه استقرائيَّا قبل أن نَبدأ بعَمليّةِ الدِراسَةِ والفَحص. إن كُنَّا ننطلق من “سوريا” مُفترَضَة وليس من سوريا الواقِع، فإنَّ أي تَشخيص وأيِّ عِلاجِ وحَلِّ نَقترحهُ سيَكونانِ عن سوريا المُتخيَّلَة ولن يَخدُما، أو يَشفيا، سُوريا الواقِع. من هنا، فإنَّ سؤال “ما هي سوريا اليوم وأي سُوريا يَبدو أننا سَنشهَد في المُستَقبَل؟” لا يَقلُ أهميَّة، بل هو أكثر قاعديَة، عن سُؤال “كيف نُعالِج مُشكِـلَة اما في سُوريا؟”.
يَدعو فريقُ البحثِ في الطائفيّة المَذكور في مُقتـرحاتِهِ العَملانيَة وتَوصياتِهِ إلى تَطويرِ خِطابِ وطنيّ جامِع وهُويّة وطنيّة سوريَة. مثل هذه الدعوة توحي بأنَّ “السوريا” التي يَتخيّلها الفريق المذكور وينطلق من افتراضِها هي سوريا من الماضي، وليس الحاضِر. إن كـافَة المعطياتِ والدلائل العلميَّة والبحثيَة المتوفِّرَة بين أيدينا عن المشهد السوري من عام 2011 وحتى اليوم تقول لنا كباحثينَ وكمراقبينَ بأن سوريا الواقعيَة لم تَعُد “وطنا” ولا “دولة” (هي ليست “دولة فاشلة”، مثل العراق ولبنان مثلا، ولكنها “لا- دولة”) منذ عام 2015، وأنها لن تصير كذلك في المُستقبل الآتي. هناك قرارُ حَلّ سياسيّ لسوريا، ابتكرتهُ منذ ذاك العام مطابِخ صناعَة الأفكار الغربيّة (الأميركيّة على وجهِ الخُصوصِ) وتَبنَّتهُ وقررَت تَطبيقَهُ دوائر صُنعِ القَرارِ الدوليَّة (مُلاَّك أسهُم الشرق الأوسط)، قد قرَّر أن على سوريا أن تتقسَّمَ وتتشطَّرَ وِفقَ تركيبةَ شبه- فيدرالية ضِمنيَّةَ رَسميا وأمر واقِع في الممارسَة. هذا يَعني، أن هناكَ إعادة رسم لِخارِطَةِ الانتشارِ والتَوزُّعِ الديمُغرافيِّ البشري في السياقِ السوري بدأت منذ عام 2015، تُـكوِّنُ الأرضيَّةَ الوجوديَّةَ والسوسيولوجيَّةَ للحَّلِّ السياسي القائِم على تشطيرِ الجغرافيا السورية إلى أقاليمَ ذات حَكم شبه- ذاتي محَلّي يتشكَّل على قاعِدَةِ الغالبيَّةِ الطوائفيّةِ المُهيمِنَة ديمُغرافيا على أراضي ذاك الإقليم. وما تأخير تَطبيقِ هذا الحلِّ السياسي (الذي باتَ قرارا مُتَّفقا عليه) وتأجيلِ تَفعيلهِ حتى هذه الساعةِ إلا بسببِ انتظار الانتهاءِ من مَرحَلَةِ التَشطير وإعادَة التوزيعِ الديمغرافي أولا تمهيدا للأرض لإعادة رَسمِ الخَارِطَةِ السياسي.
لو نَظرنا إلى الخارطَة السورية الديمغرافية الحاليَّة، سنَجِد أن سياسة التَشطير الديمغرافي على الجغرافيا السورية تَنحو نحوَ الانتهاءِ بتَقسيمِ سوريا شبه- المُفدرَلَة إلى ثمانيَة أقاليم محليَّة. في شمال شرق سوريا، سيكون هناك إقليم يشكل السوريون السُنَّة فيهِ 100 في المئة من الوجود المجتمعي، ولهذا سيكون تحت إدارة سُنيَّة بمراقبَة من تركيا. في شمال الوسط، سيكون هناك إقليم يشكل السوريون السُنَّة فيه 95 في المئة من الوجود المجتمعي على الأقل، ولهذا سيَديرُهُ محليَّا السُنَّة بمراقبَة من تركيا. في شمال شرق سوريا، سيكون هناك إقليم يشكل فيه السُنَّة 97 في المئة من السكان، مع هيمَنةَ كرديَّة واضِحَة ستجعل من الطائفَة الأخيرة هي المدير المُهيمِن مَحليَّا وبمراقبَة أميركية – روسية.
في شرق سوريا، سيكون هناكَ أيضا إقليم يشكل فيه السُنَّة 99 في المئة من السكان، مع بدء ظهور ملحوظ لشرائِح سوريةَ شيعيَّة (بسبب حملات التشيَّعِ التي تديرها إيران في تلك المنطقة)، ولهذا سيُدارُ هذا الإقليمُ من قِبَلِ عَشائرِ العرَب السُنّة في المنطقة وبمراقبَة إيرانية. أما في وسط سوريا، فسينشَأ إقليم يحتوي على خليط ديمغرافي من السوريين ذوي الانتماءاتِ الطائفيةِ المختلفة، وهو إقليم يشهدُ أيضا حملةَ تَشييع حثيثَة تقول أنه سيشهَد حضورا لجمهورِ شيعي في المستقبل. إلا أنَّ الإدارةَ سَتُوَزَّعُ ما بين سِني وعلوي بمراقبَة إيرانية- روسية. أما في الغرب، فسيقوم إقليم ساحلي 90 في المئة من سكانهِ من العلويين (وفيه غالبية من بقي من مسيحيين في سوريا عموما)، ولهذا فستؤول إدارته المحلية لهم بمراقبَة روسية. أما في الجنوب الغربي حيث العاصمَة، فهناك حضور متنوع فيه اليوم ديمغرافيَة سنيّة علوية مُتقارِبَة تقريبا ستكون فيه السلطة شبه- المركزية للدولة المُتخيَّلَة وستكون بمراقبَة روسية- إسرائيلية- إيرانية. أما الإقليم الجنوبي، فَفيهِ أغلبية درزيّة وعربية عشائرية فسيتقاسم الطرفين الإدارة المحلية بمراقبَة روسية- إسرائيلية.
السؤال المحوري في ضوء هذا المشروع المُتخيَل (غير الوهمي أبدا) لسوريا هو كيف نُقارب مَعرفيَّا مَسألَة الطَوائِف، وهل سَيكونُ هناكَ مَشكـلَة “طائفية” في المَشهَد المذكور؟ هذا هو السؤال الأكثر واقعيَّة وفِعليَّة مَعرفيَّا، لأنَّه لا يَنطلِق من سوريا مُتخيَّلَة، بل من المَشروع الذي يُعمَل على تَطبيقهِ (شئنا أم أبينا) في سوريا على الأرض منذ عام 2015، والذي لم نتوقَف عن مشاهَدَةِ إرهاصات تطبيقهِ وسيرورتها خلال السنوات الثماني المُنصرِمَة، رغما عن أنف السوريين أنفسهم وبِمَعزل عن آرائهِم ومواقفِهِم وتطلُّعاتِهم حولَ سوريا التي يريدونها (لا أحدَ بين صُناعِ القرارِ ومُلاَّكِ الأسهمِ المشرقية يكترث بهذا أصلاً). هذا هو السؤال الذي ينبغي الانطلاق منه في تَحديدِ ما إذا كانت سوريا سَتُصبِحُ عُرضَة لِخَطرِ الطائفيَّةِ أم لا. المُعطيات التي بين يدي والحيثيَّات البحثيَّة المتوفِّرَة تقول لي أنَّ الطائفيَّة لن تكونَ المُشكـلَة التي سَتُعاني منها سوريا المُستَقبليّة المُتَقَسِّمَة وشِبه- الفيدرالية. إنَّ الذِهنيَّة والأيديولوجيا الطائفية قد تَنشأ، إن نَشأت، نَتيجَة تَواجُد الطوائفِ مع بعضها البَعض وعيشها جنبا إلى جنب في فضاءِ جغرافي زمكاني واحِد، تشترك فيه بالوجود والحياة والمصير والظروف. هذا يعني أن وجود الطوائفِ معا في سياقِ مجتمعيّ مُشترَك هو أحد شروط نشوء “الطائفية”.
إذا ما قرأنا المنطق القاعدي خَلفَ مَشروع تَقسيمِ سوريا شِبه- الفيدرالي المَذكور في الأعلى، سنجد أنَّه مَنطِق يَفتَرِضُ، بل ويَنطلِقُ من، مبدأ ”الفصل” ما بين الطوائفِ وعدَم السماح لها بالتشارُك والتعايش جغرافيا ضمنَ سياق زمكاني واحِد، حتى وإن شاءَت الظروف الموضوعيَة الواقعية أن تتواجَد بَعض الطوائفِ بأقليَّة عَددية لا تُذكَر في نفس البُقعَة الجغرافية مع طائفَة أخرى مُهيمِنَة ديمغرافيا. منطِقُ الفصل يعني أن الهدف هو مَنعُ إمكانية “التعايُش” ووضعُ حَدّ لفكرة “التشارُك” انطلاقا من رغبة استباقيَة بدرءِ ومَنع نُشوءِ المَخاطِرِ التي يُمكِنُ أن تَنتُجَ عن التَعايُشِ والتَواجُدِ مَعا والتَشارُك، والتي تُعتَبَر “الطائفيّة” أحدها. من هُنا، فإنَّ العُقولَ الواقِفَةَ خَلفَ مَشروعِ التَقسيمِ الإقليمي شِبه – الفيدرالي المَذكور تعمَّدَت، كما يبدو للمُحلّل، أن تَدفعَ نَحو إعادَة تَرسيمِ الخَارِطَةِ الديمُغرافيَّةِ في سوريا على قاعِدَة طوائفيَّة وعِرقيَّة، وليس دينيَّة بالضرورة. هُم لم يَبنوا على قاعِدَة الدين لأنهم يَعرفون، كما نِعرفُ نَحنُ أيضا، أن المسيحيَّة قد تَستَمرُ بالوجود الرمزي في سوريا المُستَقبَل، ولكن المسيحيين سينقرضون من المشهد السوري وسيَضمَحِلَون لدرجة تُقارِبُ الاختِفاء.
قبلَ الثورة والمأساةِ الأخيرة، كان المسيحيين يُشكِّلونَ 10 في المئة من مَجموعِ السُكـان. أما حاليا، فنِسبَتُهُم لا تَتجاوز 3 في المئة في أفضل الأحوال، ومُعطياتنا تُفيد بأنَ تلك النِسبةَ ستَنخَفِضُ في العَشرِ سنوات القَادِمَة إلى 1 في المئة، إن لم يكن 0.5 في المئة. من هنا، لم يَعُد التوزَّع الديمُغرافي الديني بهاجِس عنِدَ مُعِدّي مشروع سوريا شبه- الفيدرالية القَادِمَة.
المُهِم هنا أن نقولَ بأنَّ احتمال نشوءِ مُشكِـلَة “طائفيّة” في سُوريا الحِاضِر والمُستَقبَل ضَعيف برأيي، فالطائفيّةَ تَشترطُ التَشارُكَ والتعايُش والتواجَد الزمكاني والجغرافي الواحِد. ولكن، حين تَشطُر الجُغرافيا إلى أقاليم ديمُغرافيَّتها تَقومُ على لَون طائفيّ (وإن لَم يَكُن عِرقي) واحِد وَحيد، فإنَّ هذا قد يكونُ كَفيلا بِمَنعِ ظُهورِ مَرضِ الطائفيّة. هذا لا يَعني أبدا أن المُجتَمعاتِ التي ستَنتُج في تِلكَ الأقاليمَ ذاتُ اللون الطوائفي الواحِد سَتكونُ مُجتمعات صِحيَّة وصَحيحَة وسَليمَة. ليس بالضرورة إطلاقا. سوريا القادمَة بأقاليمِها شبه- المُفدرَلَة سَتُعاني من مَشاكـِلَ وأزمات أكثـرُ دَمَوية وتَدميرا وسَوداويَة ممّا يمكن أن تُسبَّبهُ الطائفية. المَشروع المُقرَّر لِسوريا يَعني أنّها سَتَكون، ولِعقودِ قادمَة، أرضَ نِزاعات وصِراعات دائِمَة ومُستَدامَة، ولكن لَيسَ بين الطوائف، بل بينَ دَوائرِ السُلطة والنُفوذِ والمصَالِح، المَحليَّة والإقليميّة؛ تَماما كما نَشهَدُ في العِراق شِبه- الفيدرالي، المُقسَّم أيضا طَوائفيا وعِرقيا. في ضوءِ هذا الحال، يبدو أن عَلينا أن لا نَتَلهّى كثيرا بالعَمَلِ على دَرءِ الطائفيَةِ لأنها ليسَت المُشكـِلَة الأساس في سوريا الحَاضِرَة ولن تَكونَ مُشكـِلَة سوريا القادمة. لرُبّما واحدة من أخطر المُشكـلات القادمةِ في سوريا هي دَفعُ الطوائفِ في سوريا للانعزالِ عن بَعضِها البَعض وللعَيشِ في كـانتونات نَمَطيَّة أُحاديَةِ اللون والهُويَّة مُنغَلِقَة على نَفسِها. لرُبّما أخطرُ المَشاريعِ هي تَحويلُ المُجتَمعِ السوري إلى مجموعَة من الجُزرِ غير المُتَّصِلَةِ بِبَعضِها البَعض. هذا قد يُساعِد على مَنع نشوءِ خَطرِ الطائفية بين الطوائِف لأنه يَدفَعها للاستِغناء عن ضَرورةِ، أو حاجَةِ، التَعايُشِ والتَواجُد، ناهيكَ عن التواصلِ والتَفاعُل، مع الآخر المُختلف. إلا أنَّ لهذا التَقسيمِ والكَنتَنَة (من كانتون) نتائِج عَكسيَّة مُدمِّرَة على المدى البَعيد، لأنَّه تَقسيم يُناهِض التَنوُّعَ والتعدُّدَ في قلبِ سياقِ عيشِ كل من الأقاليم المَشطورَة ديمُغرافيا، وكـل ما يمنَع التَعدَّد والتَنوَّع والتَفاعُل مع الآخر يُودي في النهاية إلى إفناءِ الذات وتَجفيفها وحَيونَتِها وحِرمانُها من مَنابعِ التجدُّدِ والتطوُّرِ والدَيمومَة. الحياة دون الآخر قد تَقينا من الصِراعِ والنِـزاع، ولكنها تَحرِمنا من الكَينونَةِ والوجودِ والإنسانية (لنتذكَّر أن روبنسون كروزو وحيِّ بن يقظان شخصيات خياليَّة غير واقعيَّة). في ضوء هذا، ما يَنتَظِرُ سوريا ليسَ خَطرُ الطائفيةَ، بل خَطرُ البربريَّة والتوحُّش.
خلاصات: حين يخوضُ السوريون غمارَ المعرفَة
كُل من نشأ وعاشَ في سوريا نظام الأسَد والبعث خلال العقود الخمسة الأخيرةَ يعرفُ تماما أنَّ الشعب السوري حُرِمَ من ممارسَة كُلِ شيء بما فيها، بل و أولها، ممارسَة العِلم وتشكيل المعرفَة. فالسوريون لم يتمكَّنوا من التمتُّعِ بفرصَة تلقّي تعليم وتمرين أكاديمي وعلمي حقيقي على ممارسَة البَحثِ المعرفي كما هو مُتعارَف عليهِ في كافِةِ المؤسَّساتِ العلميَّة والبحثيَةِ الأكاديميّة حول العالم (هذا بصرف النظر عن كفاءَة ومؤهِلات السوريين والسوريات الأفراد العقليَة والفكريَّة الشخصيّة). من يَعرِفُ هذه الخلفيَة عن سوريا، يستطيعَ أن يتفهَّمَ بوضوح وسهولَة الهَنَّات المعرفيّة والبحثيّة التي يمكن أن يَقَع فيها أي فريق سوري من الباحثين في مسألة الطائفية أو سواها من المسائِل. إنني لا أنهي ورقتي بالحديثِ عن هذ الناحية من بابِ انتقادِ الباحثين السوريين ولا التبخيسِ من قيمةِ اجتهادهِم ورغبتهِم الصادقَة والمُخلِصَة بخدمَة سوريا ومحاولَة المساهمَة الجادَّةِ في بناءِ سوريا المُستقبَل. إنني فقط أذكر مسألة الهنات المَعرفيَّة كي أشيرَ إلى ظاهِرَة مُتفشيَّة في المشهَدِ السوري، الثوري والمُعارِض اللاجئ في الخارج بشكل خاص، تَتعلَّق بمسألة المَعرفَة وتشكيل خطاب تفسيريِّ عن سوريا عموما.
لقد شهدَ العَقد الأخير إنشاءَ العديدِ جدا من مراكزِ الأبحاثِ ومنتديات التفكيرِ والدراسةِ من قِبَلِ السوريين الذين هربوا من سوريا ولجؤوا إلى دول العالم المختلفة. تقوم تلك الكيانات الدراسيّة بمحاولات دائمة لتطوير خطاب معرفيّ عن سوريا الماضي والحاضر والمستقبل، وهي تُقدِّم نفسها للعالم على أنّها أصوات مرجعيَّة عن هذا البلد المشرقي المُدَمَّر اليوم، والغامِض والمسجون خلف جِدار حديدي في الماضي. وقد حُرِمَ السوريون من حُريَة المَعرفَةِ وإمكانيَّة خلقِها وتشكيلها بشكل علميّ حُرّ حين كانوا داخلَ سوريا. ولهذا، ومع نُزوحِ وهروب أكثر من 9 مليون سوري خارِج البلَد، بدأ السوريون يختبرون للمرة الأولى (خاصةَ الأجيال الجديدة) فرصةَ تلقي العِلم والمعرفَة وممارسةَ تشكيل المعرفَة في سياقاتِ البحث الغربيَة والعالمية بشكل مُباشر ودون وسائِط، مما قادهَم اليوم إلى تشكيلِ منابرهم الدراسية والمعرفية الخاصَة في تلك الدول. ولكن، مازال السوريون في حاجة إلى شحذِ مهاراتهِم البحثية المكتسبَة وإنضاجِها بشكل صارم ورصين كيما يمكن التعويل على ما تنتجه. فواحِدة من هناتِ ومسالبِ الخطاباتِ المعرفيَّةِ التي يطورِها السوريون في الخارجِ عن سوريا هو أنها تكون أحيانا خطاباتُ تقرأ سوريا بدلالَة الخارج، ومن نقطة مرجعيَّة مسبَقَة الصُنع من خارج سياق سوريا، وليس بدلالة معطيات الداخل وخصوصيات السياق السوري الأصغريِّة.
أعتقد أن المقاربات التي تنطلق من افتراض (وليس تساؤل عن) وجود لمُشكِـلَة طائفيّة في سوريا هي مِثال على النقطة التي أحاول تقديمها هنا. من تابَعَ وراقبَ سيرورةَ الثورة السورية والمعارضاتِ السوريةِ في الخارجِ خلال السنوات العَشر الماضية (وأنا مُطَّلِع على تلك السيرورةِ عن قُرب ومن الداخِل)، سيُلاحِظ أن الحَديثَ عن “الطوائف” و”الطَوائفيّة” في سوريا كـان جزءا لا يتجزأ من آلياتِ تفكيرِ ومقارباتِ وخطاباتِ الكثيرينَ من الأفراد والشخصيَّاتِ الذين انتموا لأطياف مختلفَة من المُعارضَاتِ السوريَة (وخاصَّة التيارات المعارضَة الإسلاميَّة). فتلك الأصوات هي التي عِمِلَت على قِراءَةِ الشَعبِ السوري وعلى تَقسيمِهِ طوائفيَّا وأصرَّت على تتبِّعِ الهويَة والخلفيَّة الطوائفيّة والدينيّة والعِرقيَّة لكُـل من وَقفَ مع الثورَة أو وقفَ مع النِظام (لطالما سألني الكثير من أولئك الأشخاص في القاءات التي عقدتها المعارضات السورية في الخارج عن هويتي الطوائفيّة ولطالما أبدوا أعجابهم بأنني مسيحي مع الثورة، مع أنَّ لا علاقة لطائفتي المسيحيّة بموقفي الإنساني والأخلاقي. على العكس، لم يكترث كثير جدا من سوريي الداخل الثوار الذين قابلتهم في مؤتمرات في الغرب بسؤالي عن خلفيتي الطوائفيّة). باتَت الهِرمنيوتيقـا الطَوائفيّة لِسان حالِ الكثير من شرائحِ المُعارضاتِ السُوريّةِ وشَرائِح السُوريّين اللاجئين في الخارِج (وهو أمر ينبغي دراسته من زاوية مسألتي الهوية ومغايرة الذات في عالم اللجوء، وليس الطوائفية، كما فعلت أنا في دراسة نشرت بالعربية والإنجليزية). وباتَ المُشارِكُ في أيِّ نَشاط أو حَدَث يَتعَلّق بسُوريا في المحافِل الغربيَّة والعربيَّة السياسيَّة والأكاديميّة والثقافيَّة العامَّة والإعلاميَّة وحتى الاجتماعية يسمَعُ دوما أصواتا سورية مُعارِضَة تتحدَّث بمنطق طوائفيّ صريح عن المشهد السوري.
فلا غَرابَةَ بأن يتلقَّف الغَرب السياسي والإعلامي هذا الخِطاب الطوائفي بلهفَة لأنَّه خِطاب خدَم إصرار الغَربِ الاستشراقي والسياسي الكـلاسيكي على قراءَة الشرق الأوسط برمَّتهِ كساحة صِراعِ طوائف أبديَّة وبؤرَة انتشار الطائفيَّة بشكل بديهي غير قابل، ولا يحتاج برأيهم، لا للتَساؤل ولا للنِقاش ولا حتى للدِراسَة. عزَّزت تلك الأصوات السورية اللاجئَة خارج سوريا من فَرضيَّة أن سوريا ما هي إلا نَموذَج آخر من نَماذجِ تَفَشيِّ الطائفيّةَ. وبَدلَ أن ينتَبهَ السوريون إلى الفَخ الكامِن في هذا الخطاب الغربي، قاموا بتَلقّفِهِ (مُتجاهلين، أو ربما غير مُدركين، أنهم يتَلقَّفون بضاعة هم أَحدُ مُنتِجيها الجَدُد في الدَرجَة الأولى) وتَبنيِّه واعتِبارهِ حَقيقَة ناجِزَة وعِلميَّة عن سوريا في حَقيقَتِها وواقِعِها.
إن أول الخطابات التي نَظّرت لوجود الطائفية في سوريا منشأها سُوريو الخارِج وقِراءتُهُم مُسبَقَة الصُنع للمَشهَد السوري، وليس سُوريو الداخِل (والسبب ليس لأنَّ موضوع الطائفية “تابو”) الذين كانوا ومازالوا غَارقينَ ومُعانينَ حتى المَوت من أزمات ومشاكـل أكثرَ كارثيَّة وضَررا وواقعيَّة من مُشكـلَةِ “الطائفيّة” المُفترَضَة. إنني أعتقد أنَّ افتراضَ مُشكِـلة الطائفية في سوريا هو قراءَة مُسبَقة الصُنع واستقرائية (غير استدلاليّة) خارجيَّة تَقرأ افتراضيا في سوريا ، ولا تقرأ سوريا بحدِّ ذاتِها: إنها تقرأ مِخيالات ورؤى السوريين خارج سوريا في سوريا، ولا تَقرَأ سُوريّا بِحَدِّ ذاتِها. هذا مِعيار مَعرِفيّ يَستَحِقُّ أن نَدرُسَهُ نَقديَّا وأن نُمَحِّصَ فيهِ بتأن، لأنَّ إصرارَ السوريين في الخارج على قِراءَةِ أنفُسِهِم في سوريا، بَدلَ قِراءَةِ سوريا، هو بِحَدِّ ذاتهِ مُشكِلَة تَحتاجُ إلى تَعَاط تَحليليّ ونَقديّ مَعها. وهذه لَيست أبدا مُشكـلَة فريق واحد من الباحثين السوريين العاملين اليوم في الغَرب. إنها مشكلة بدأت تُصبِحُ عَامَّة برأيي الخاص في أوساطِ السوريين اللاجئين والعاملين لِخِدمَةِ سُوريا مِن الخَارِج.
* شاعر وباحث أكاديمي من سوريا مقيم في أميركا
المصدر: موقع الجديد