الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

مآلات التصعيد الغربي- الحوثي

بشير عبد الفتاح *

في تغيير لافت لقواعد الاشتباك؛ تُنفذ واشنطن ولندن، منذ الثانى عشر من الشهر الحالي، سلسلة من الضربات الجوية والبحرية المشتركة ضد عشرات المواقع العسكرية الحوثية. وذلك بهدف تقويض قدرة الجماعة الموالية لإيران، على تهديد الملاحة بالبحر الأحمر. عبر إضعاف قدرتها على تخزين، إطلاق وتوجيه الأنظمة الجوية كالطائرات المسيرة، صواريخ كروز والصواريخ الباليستية، علاوة على تفكيك بنيتها العسكرية من أنظمة الرادار ومنظومات الدفاع الجوي.

ترى واشنطن ولندن ضرباتهما متوافقة مع القانون الدولي، وحق الدفاع عن النفس. وقد دعمتها هولندا، أستراليا، كندا والبحرين لوجستيا واستخباراتياً، بينما وقعت معهم ألمانيا، الدنمارك، نيوزيلندا وكوريا الجنوبية بياناً مشتركاً، يؤيد الضربات ويُنذر باتخاذ إجراءات إضافية لتأمين التدفق الحر للملاحة بالبحر الأحمر، إذا لم يتراجع الحوثيون. وبينما أبدى الاتحاد الأوروبي استعداداً لتشكيل مهمة بحرية لحماية السفن، أعلن حلف الناتو، أن الضربات الأنجلو- أمريكية كانت دفاعية، وتنشد حماية حرية الملاحة بطريق الشحن البحري الأسرع والأقل كلفة بين آسيا وأوروبا.

بعدما أعلنت تشكيل تحالف «حارس الازدهار»، الشهر الماضي، بمشاركة عشر دول، لردع انتهاكات الحوثيين؛ تحصنت جهود إدارة، بايدن، لبناء توافق عالمي، بقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2722، الصادر في العاشر من الشهر الحالي، والذي أدان الهجمات الحوثية على السفن منذ 19 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي. وبعدما رفعت إدارته الحوثيين من قائمة المنظمات الإرهابية الأجنبية عام 2021، قرر، بايدن، إعادة توصيفهم «إرهابيين عالميين محددين بشكل خاص»، توطئة لمحاسبتهم على تجاوزاتهم، وتجفيف منابع دعمهم.

بموازاة انتقادها لتأخرها في استهداف الحوثيين، طالب جمهوريون ومسؤولون سابقون إدارة، بايدن، بتجاوز استراتيجية «الضربة مقابل الضربة»، واتخاذ إجراءات حاسمة لقطع حبل إيران السري للجماعة، التي يَعتبرون تهديدها للملاحة البحرية تحدياً لدور واشنطن القيادي في حماية التجارة الدولية. مُعربين عن أملهم في أن تسفر الضربات الغربية عن تغيير قواعد الاشتباك مع الحوثي وطهران، استعادة الردع في البحر الأحمر، وتعزيز مكانة الولايات المتحدة، بوصفها القطب العالمي المُهيمن.

تمخضت الاضطرابات الجيوسياسية في البحر الأحمر عن إرباك أمن الطاقة العالمي. فبينما يمر عبره 15 % من التجارة العالمية، 8% من الغاز المسال، و12% من النفط، أدى تحويل ناقلات نفط عديدة مسارها حول إفريقيا، إلى ارتفاع أسعار الخام بنسبة 4%. وبواقع ثلاثة أضعاف، قفزت تكاليف الشحن والتأمين الدوليين. الأمر الذي فاقم المخاوف بشأن تعاظم التضخم العالمي، تباطؤ حجم التجارة الدولية، ارتباك سلاسل التوريد والإمداد. وبالتزامن، تراجعت العائدات الدولارية لقناة السويس بنسبة 41%، بعدما انكمش عدد السفن العابرة لها بواقع 30%، لتنخفض من 777 سفينة إلى 544. يشكك مراقبون كُثر في إمكانية ارتداع الحوثيين جراء الضربات الغربية. فلقد اكتست سمتاً دفاعياً رمزياً؛ إذ اقتصرت على استهداف القدرات الهجومية ومراكز القيادة والسيطرة البحرية. فيما تم إخطار الجماعة، مسبقاً، بتفاصيل الضربات، ما خولها نقل صواريخها ومُسيراتها ومقاتليها، بعيداً عن المناطق المستهدفة، ما قلص خسائرها المادية والبشرية. وبينما يتطلب الردع المنشود تنفيذ هجوم بري، يُتيح السيطرة الميدانية على معاقلها ومناطق سيطرتها باليمن، تتأسس الحسابات الاستراتيجية لواشنطن وحلفائها، على تلافي عسكرة البحر الأحمر، وتجنب التورط المباشر في صراعات إقليمية.

رغم إصابتها 90 % من أهدافها، لم تجّهز الضربات الغربية إلا على 25% فقط من القدرات الهجومية للحوثي. إذ احتفظت الجماعة بنحو ثلاثة أرباع قدرتها على إطلاق الصواريخ والمسيرات، التي يمكن تركيب معظمها على منصات متنقلة، بما يتيح نقلها وإخفاءها بسهولة. وبجانب استمرار الدعم الإيراني، يتمتع الحوثيون بقدرات عسكرية هائلة. فإضافة إلى مائتي ألف مجند، استولوا على أسلحة الجيش اليمنى عقب احتلالهم صنعاء عام 2014، تم تطوير مسيّرات وصواريخ باليستية متوسطة المدى، صواريخ كروز، فضلاً عن منظومات تسليحية بحرية. ورغم استهداف الضربات الغربية مواقع ومستودعات عسكرية حيوية، لا يزال بحوزة الحوثيين مخزون من الذخائر والمقذوفات المنتشرة ببقاع يمنية شتى.

افتقدت الضربات الغربية ضد الحوثي التوافق الدولي. فبينما يواجه، بايدن، وسوناك، إشكاليات دستورية وقانونية، جراء تجاوزهما برلمانيهما قبل الشروع في تنفيذها؛ أعرب جل حلفاء واشنطن بالمنطقة، عن مخاوفهم من تدحرج الاشتباكات صوب حرب إقليمية مع إيران ووكلائها. وأوروبياً، آثرت، إيطاليا، إسبانيا وفرنسا عدم المشاركة في الضربات الأنجلو- أمريكية ضد الحوثيين، كما لم توقعا بيان أصدرته عشر دول، لتسويغها. وأرجع حلفاء واشنطن عزوفهم إلى توجسهم من قيادة الأخيرة أي تحركات عسكرية في البحر الأحمر، وتخوفهم من عسكرته، على نحو يهدد الأمن والاستقرار في منطقة حيوية وقلقة. وأعلن الاتحاد الأوروبي أنه لن يحذو حذو واشنطن، في تصنيف حركة الحوثي، منظمة إرهابية. وبينما نأت الصين بنفسها عن الأمر، ميدانياً، كما رفضت التصويت على القرار 2722، نددت روسيا بالهجمات الأنجلو- ساكسونية ضد الحوثي، معتبرة إياها مناهضة للقانون الدولي، ومُنبتة الصلة بحق الدفاع عن النفس.

يُصر الحوثيون على تحدي واشنطن وحلفائها، متوعدينهم بدفع ثمن عدوانهم. حيث أكد مجلسهم السياسي الأعلى، أن كل المصالح الأمريكية والبريطانية صارت «أهدافاً مشروعة»؛ مع مواصلة استهداف سفن إسرائيل، أو تلك المتجهة إليها، حتى تُوقف عدوانها، وترفع حصارها عن غزة. يوقن الحوثيون أن تعرضهم للضربات الغربية، وصمودهم أمامها، والرد عليها، إنما يُعد انتصاراً. حيث يعتقدون أن صراعاً مفتوحاً مع الولايات المتحدة وإسرائيل، دعماً لفلسطين، سيخولهم إعادة التموضع سياسياً. إذ سيكسبهم دعماً داخلياً على حساب الحكومة اليمنية المُعترف بها دولياً، كما يُعزز دورهم بمحور المقاومة الإقليمي، الذي تقوده إيران، باعتباره فاعلاً محورياً، ومؤثراً في أمن أهم شريان ملاحي عالمي. وتروج الحوثي أن إعادة تصنيف، بايدن، لها جماعة إرهابية، إنما يأتي رداً على موقفها المساند للفلسطينيين في مواجهة العدوان الإسرائيلي، وليس بسبب تهديدها الأمن الخليجي، حركة الملاحة بالبحر الأحمر، أو الانقلاب على سلطة شرعية في اليمن.

تشي السوابق التاريخية باستعصاء تغيير الحوثيين سياساتهم، تحت وطأة الضغوط العسكرية. ففي عام 2016، استهدفت واشنطن مواقع للصواريخ والرادارات تابعة للجماعة، بصواريخ «كروز توماهوك»، عقب استهدافها السفن التجارية، ومهاجمتها السفينة الأمريكية «يو إس إس ماسون». غير أن الجماعة سرعان ما استوعبت الأمر، وواصلت عملياتها بالبحر الأحمر، مع مباشرة تطوير قدراتها التسليحية، مستفيدة من الدعم الإيراني. ومن ثم، انطلقت مساعي دبلوماسية، من لدن بكين ومسقط، لإقناع طهران بحمل الحوثيين على وقف هجماتهم.

يرى مراقبون أن الاستهداف الأنجلو- أمريكي للحوثي، تُصاعد المناوشات بين واشنطن والميليشيات الموالية لإيران في لبنان، سوريا والعراق، تبادل الضربات بين إيران وباكستان، إنما يزج بالمنطقة إلى شفا صراع إقليمي، ما لم تضع الحرب الإسرائيلية المقيتة على غزة أوزارها. بيد أن التزام واشنطن وطهران بقواعد الاشتباك، يؤكد رغبتهما المشتركة في عدم توسيع دائرة المواجهات. فبينما عادت حاملة الطائرات «جيرالد فورد»، إلى الشواطئ الأمريكية، غادرت سفينة التجسس الإيرانية، المتهمة بمساعدة الحوثيين في استهداف السفن، صوب ميناء بندر عباس. فيما جددت طهران تبرؤها من مغامرات فصائلها الولائية.

مع بلوغ توترات البحر الأحمر نقطة حرجة للتصعيد، يجدد البيت الأبيض تمسكه بتجنب المواجهة مع إيران؛ فيما حرصت إدارة، بايدن، على الفصل بين حرب غزة، والمواجهات مع الحوثيين، محاولة دحض مزاعمهم بشأن استهدف سفن إسرائيل وحلفائها دعماً للفلسطينيين. وفي حين وصفتها بريطانيا بأنها ضرورية، متناسبة، محدودة، ودقيقة، أرجأت واشنطن الهجمات ضد الحوثيين، حتى استهدافهم السفن الأمريكية. كما أخطرتهم بمكانها وزمانها، قبل أن تأتي مدروسة، ملتزمة قواعد الاشتباك، بما يَحول دون خروج الأمور عن السيطرة.

* كاتب وباحث أكاديمي مصري

المصدر: الشروق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.