بشير عبد الفتاح *
بمجرد إطلاق جيش الاحتلال الإسرائيلي عدوانه الخامس على غزة، عقب عملية «طوفان الأقصى»، التي نفذتها المقاومة الفلسطينية في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الفائت، تصاعدت حدة مناوشاته مع حزب الله على الحدود اللبنانية. الأمر الذى تمخض عن سقوط قرابة عشرين جندياً إسرائيلياً، و129 عنصراً من مقاتلي الحزب. وعلى أثر الاستهداف الإسرائيلي لصالح العاروري، وستة آخرين من قيادات كتائب القسام، في الضاحية الجنوبية بلبنان، ثم ثلة أخرى من قيادات الحزب بعدها بأيام، تفاقمت احتمالات اندلاع الحرب الرابعة بين الجانبين.
قبل «طوفان الأقصى»، أكد الأمين العام للأمم المتحدة، أن الإسرائيليين واللبنانيين لم ينفذا التزاماتهما بموجب القرار الأممي 1701. كما أعرب عن قلقه العميق إزاء تنامي وتيرة المواجهات اليومية عبر الخط الأزرق، منذ الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، كونها تمثل أخطر انتهاكات للقرار 1701 منذ اعتماده عام 2006؛ بما يهدد بتوسيع نطاق المواجهات، وتهديد الأمن والاستقرار الإقليميين. بدورها، حذرت قوات الطوارئ الدولية «اليونيفيل»، من أن يفضي سوء التقدير، إلى تعاظم الصراع على الحدود بين إسرائيل ولبنان. خصوصاً مع اجتراء الطرفين على انتهاك، قواعد الاشتباك، المتفق عليها ضمناً، منذ «تفاهم نيسان»، الذي أعقب حرب 1996، فيما كرسها القرار 1701. كثف نتنياهو ووزير دفاعه، يوآف جالانت، تهديداتهما للبنان، ونقلا نصف القوات الإسرائيلية من غزة إلى الجبهة الشمالية. وأشار موقع «والا» الإسرائيلي، إلى اعتماد خطط الحرب مع حزب الله، حتى باتت مسألة وقت. في المقابل، أفادت مصادر إسرائيلية أن إيران تعمل على تسريع نقل الأسلحة الدقيقة، الصواريخ، القذائف، أنظمة دفاع ضد المروحيات والمسيرات، إلى حزب الله، عبر سوريا، استعدادا للمواجهة. وأخيراً، تجاهل حزب الله، الدعوات الدولية، والتهديدات الإسرائيلية، بخصوص إنهاء تموضعه بجنوب لبنان، رافضاً انسحاب قواته إلى ما وراء نهر الليطاني.
أوردت صحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية، أن، بايدن، منع، نتنياهو، من توجيه «ضربة استباقية» ضد حزب الله، بعد أيام من عملية «طوفان الأقصى»، مخافة أن تؤجج حربا إقليمية أوسع. حيث تتطلع إسرائيل للحيلولة دون تكرار سيناريو السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، على الحدود الشمالية، القضاء على قوات الرضوان، تنفيذ القرار 1701، تأمين منطقة عازلة بعمق 20 إلى 30 كيلومتراً، وراء نهر الليطاني، تتيح لزهاء 80 ألفاً من سكان المستوطنات الحدودية مع لبنان، العودة إلى قراهم المحاذية للخط الأزرق.
عقب اغتيال، صالح العاروري، نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في قلب الضاحية الجنوبية لبيروت، وهي عقر دار حزب الله، أعلنت مصادر إسرائيلية رفع حالة التأهب على الحدود الإسرائيلية- اللبنانية. ولما كانت العملية الإسرائيلية تستهدف اغتيال كبار قادة حماس، مع اختراق وتهديد الحاضنة السياسية والشعبية والأمنية لحزب الله، فقد أعلن الأخير عزمه الانتقام. وكان أمينه العام، قد أعلن فى الـ28 آب/ أغسطس الماضي، أن أي اغتيال على الأرض اللبنانية يطاول أي مسؤول في المقاومة، لبنانياً، أو فلسطينياً، أو سورياً، أو إيرانياً، سيستجلب رد فعل لا يمكن تحمله، إذ لن يسمح الحزب أن يظل لبنان ساحة للاغتيالات.
رغم تنوع مظاهر التصعيد، لا يخلو الأفق من إرهاصات لكبح جماحه. فتوخياً منها لحملهُ على التراجع، لا تتورع حكومة، نتنياهو، عن تحذير حزب الله من رد مروع حالة فتح جبهته ضد إسرائيل. بدوره، طالب الوزير بمجلس الحرب، بيني جانتس، المستشار الألماني، بالتعاون مع المجتمع الدولي، لإبعاد حزب الله عن المنطقة الحدودية.
من جانبهم، بعث أمنيون وعسكريون إسرائيليون توصيات لمتخذي القرار، تشمل عدم فتح جبهة جنوب لبنان قبل الانتهاء من تحقيق أهداف حرب غزة. وتوسلاً منها لتجنب تسخين تلك الجبهة، بعد مقتل، العاروري، أعلنت إسرائيل أن الحادث استهدف حماس، وليس حزب الله أو لبنان.
يأبى حزب الله إلا اعتماد الردود العسكرية المحسوبة والدقيقة. ففي خطابيه اللذين ألقاهما فور اندلاع حرب غزة الحالية، أشار، حسن نصرالله، إلى أن الحزب ينشد تخفيف الضغط على حماس، بدلاً من شن حرب شاملة.
أما خطاباه اللذان أعقبا مقتل، العاروري، وعدد من قيادات الحزب، فرهنَ الرد الانتقامي المتمثل في شن حرب «بلا ضوابط» ضد إسرائيل، بمهاجمة الأخيرة للبنان.
وتشي السوابق التاريخية، بأن جميع العمليات الإسرائيلية، التي استهدفت قيادات بارزة في محور المقاومة، بقيت من دون رد متوازن ومتناسب، من لدن إيران أو الحزب، حيث لم يتم استهداف مسؤولين إسرائيليين على نفس المستوى.
من هذا المنطلق، جاء قرار، بايدن، سحب حاملة الطائرات الأمريكية «جيرالد فورد» من البحر المتوسط. وبالتزامن، قرر الجيش الإسرائيلي سحب خمس ألوية احتياط من غزة، وإسناد تأمين الحدود مع لبنان إلى القوات النظامية، التي تعتبر مناوشات حزب الله «شبه روتينية».
رداً على الصفعات التي وجهتها له إسرائيل أخيراً، يحتاج حزب الله لتعزيز صدقية استراتيجيتيه، سواء لجهة الردع، أو وحدة ساحات محور المقاومة. دونما خرق لقواعد الاشتباك؛ وبما يحافظ على الحد الأدنى من الاستقرار الداخلي في لبنان؛ ويحول دون تدحرج الأوضاع نحو حرب شاملة.
بيد أن الحزب يخشى استدراج إسرائيل له، توطئة للإجهاز عليه، عملاً باستراتيجية بيغن- شارون مطلع ثمانينيات القرن الماضي. فالحزب يدرك أن اصطدامه بإسرائيل، سيستتبع تدخلاً أمريكياً فورياً على خط المعارك، مما سيتسبب بتدمير لبنان وتقويض قدرات الحزب. خصوصاً بعدما عكس اغتيال، العاروري، حجم الاختراق الاستخباراتي لحاضرة الحزب.
كما أظهر قدرة إسرائيل على توجيه ضربات نوعية داخل العمق اللبناني، مستفيدة من محدودية فعالية منظوماته الدفاعية، وعدم اكتمال قوته الضاربة. إذ لا تفتأ قواته تنتشر في مناطق سورية، لدعم نظام بشار أسد، وتأمين طريق طهران- بغداد- دمشق- بيروت، الذي يخول إيران بلوغ مياه المتوسط الدافئة.
تكاد مواجهات حزب الله مع إسرائيل تفتقد الحاضنة الشعبية في الداخل اللبناني. حيث أسفرت مناوشاتهما المشتعلة منذ الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي عن مقتل 175 لبنانياً؛ فضلاً عن نزوح 76 ألفاً آخرين. ومن ثم، يتخوف الحزب من فقدان الدعم الشعبي، حالة انخراطه بمواجهة جديدة؛ في وقت تعاني البلاد مأزقاً سياسياً، وتكابد إحدى أسوأ أزماتها الاقتصادية بعد انهيار منظومتها المالية عام 2019، وتفاقم مستويات الفقر، وشلل معظم أركان الدولة.
وكانت حرب الثلاثين يوماً بين إسرائيل وحزب الله عام 2006، قد أسفرت عن مقتل أكثر من 1200 لبنانياً، وخسائر اقتصادية تناهز 15 مليار دولار. كما تمخضت عن 40 ألف نازح من جنوب لبنان، بينهم 10 آلاف يقيمون في مراكز إيواء. وتوخياً منه لاستثمار هذا الوضع، هدد نتنياهو، بتحويل لبنان إلى غزة، حالة إشعال حزب الله حربا ضد إسرائيل.
بينما تتبارى الجهود الأمريكية والأوروبية لإدراك حل دبلوماسي، يضمن إبعاد عناصر حزب الله إلى ما وراء نهر الليطاني؛ يبقى القرار الحاسم والقول الفصل بشأن المواجهة الرابعة بين إسرائيل وحزب الله، لدى إيران. لكن الأخيرة لا تبدو مستعدة لصدام مباشر مع إسرائيل، في ظل تهديد نتنياهو، باستهدافها مباشرة بضربات، لا يمكن تخيلها، إذا وسع حزب الله حرب غزة. فبرغم اغتيال، رضي موسوي، القيادي البارز بالحرس الثوري، في سوريا، مروراً بالقيادي الحمساوي، صالح العاروري، ثم الهجومين المتزامنين اللذين زلزلا محافظة كرمان، وصولاً إلى استهداف عدد من قيادات حزب الله بلبنان؛ يبقى المرشد الإيراني، معتصماً بسياسة «الصبر الاستراتيجي». حيث تقليص العمليات السرية ضد إسرائيل، وتحجيم هجمات الفصائل الولائية على القواعد الأمريكية بسوريا والعراق. كأنه يتجنب استدراج إيران إلى مواجهة عسكرية مباشرة، ولا تُحمد عقباها، مع واشنطن وتل أبيب.
* كاتب أكاديمي وباحث مصري
المصدر: الشروق