محمد المنشاوي *
تجدد النقاش في الأيام الأخيرة في الولايات المتحدة حول جيفري إبستين رجل الأعمال السابق، ووفاته الغامضة في سجن شديد الحراسة بقلب مدينة نيويورك، وذلك بعدما تم الكشف عن وثائق المحكمة، والتي جاءت في أكثر من ألف صفحة، وتشير لتورط مئات الرجال من النخبة السياسية والمالية والأكاديمية والرياضية والفنية في الولايات المتحدة وخارجها، في علاقات مشبوهة مع الرجل الذي كان ينتظر محاكمته بتهم الاتجار بفتيات لا تتجاوز أعمارهن 14 عاماً لممارسة الجنس مع هؤلاء الرجال.
* * *
في العاشر من آب/ أغسطس 2019، تم العثور على ‘إبستين’ «ميتا» في زنزانته بينما كان ينتظر المُحاكمة، وعلى الرغم من كونه السجين الأكثر شهرة في أمريكا حينذاك، فلم يتم الإفراج عن مكالمة خط الطوارئ 911 التي تم إجراؤها من السجن لاستدعاء سيارة إسعاف، كما أن كاميرات التصوير داخل الزنزانة كانت معطلة ولم تعمل في هذا اليوم، إضافة لنوم حارسين بالسجن كانت مهامهما مراقبة زنزانة ‘إبستين’ والمرور عليها كل نصف ساعة. وفي غضون أسبوع من وفاته، حكم الطبيب الشرعي بأن ‘إبستين’ انتحر! وهو ما رفضه محامو ‘إبستين’ وشقيقه الوحيد مارك. ويؤكد مارك أن هناك تستراً، وأن المسؤولين الأمريكيين يُخبئون الحقيقة.
كما قال مارك لصحيفة «واشنطن بوست» إن أخاه قال له إن بإمكانه قلب انتخابات عام 2016 بسبب ما يعرفه عن كل من دونالد ترامب وهيلاري كلينتون، وقال «إذا قلت ما أعرفه عن كلا المُرشحين، فسيتعين عليهما إلغاء هذه الانتخابات».
* * *
وسبق أن أدين ‘إبستين’ في فلوريدا عام 2008 بدفع أموال لفتيات صغيرات مقابل قيامهم بالتدليك، وممارسة الجنس، وقضى 13 شهراً فقط في السجن بموجب اتفاق سري مع المدعي العام للولاية آنذاك، وذلك بدلاً من العقوبة التقليدية في هذه الحالات بالسجن مدى الحياة. وكشفت الصحفية الاستقصائية “جولي براون” صاحبة كتاب «انحراف العدالة: قصة جيفري إبستين» تفاصيل هذا الاتفاق الذي أشرف عليه المدعي العام في مدينة ميامي بولاية فلوريدا “ألكسندر أكوستا”، والذي أصبح لاحقاً وزيراً للعمل في إدارة دونالد ترامب.
ودفع هذا الكشف المُدعين الفيدراليين في نيويورك إلى فتح تحقيق جنائي جديد، مما أدى إلى اعتقال ‘إبستين’ لاحقاً واتهامه في صيف عام 2019، كما أدى ذلك إلى استقالة ألكسندر أكوستا من منصبه في إدارة ترامب في تموز/ يوليو 2019.
ومنذ وفاة ‘إبستين’، ظهر العديد من نظريات المؤامرة، معظمها يتكهن بأنه قُتل لمنعه من الكشف عن معلومات ومساومات وعلاقات جمعته بهذه النخبة من الرجال. وجاء كشف وثائق المحكمة، الأسبوع الماضي، عن مئات الأسماء من بينها الرئيسان السابقان، بيل كلينتون ودونالد ترامب، مايكل جاكسون والساحر ديفيد كوبرفيلد والعالم ستيفن هوكينج ورئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود باراك، والأمير البريطاني أندرو، ممن جمعتهم علاقات معقدة، ومشاركة في حفلات جنسية نظمها ‘إبستين’ في منزله الضخم بمنهاتن بقلب مدينة نيويورك، أو بفلوريدا، أو جزيرته الخاصة في البحر الكاريبي، لتزيد من التكهنات حول نهايته.
* * *
وعلى خلفية قضية ‘إبستين’، تنتظر “جيسلين ماكسويل”، المحاكمة في نيويورك بتهم الاتجار الجنسي بالفتيات القاصرات، ومساعدة ‘إبستين’ على الاعتداء الجنسي عليهن وتوظيفهن لأداء مهام جنسية مع المشاهير الأمريكيين. وجمعت علاقة عاطفية معقدة بين ‘إبستين’ و’جيسلين’، ويتردد أنها أحبت ‘إبستين’ للدرجة التي ساعدته فيها لإرضاء هوسه الجنسي المَرضي بالفتيات القاصرات، وتوظيف ذلك لبناء شبكة علاقات ونفوذ ضخمة.
‘جيسلين’ هي الابنة المفضلة لوالدها الملياردير ورجل الأعمال اليهودي البريطاني “روبرت ماكسويل“، الذى جمعته علاقات قوية بجهاز الاستخبارات الإسرائيلي لدرجة مشاركة 6 من رؤساء الموساد السابقين في مراسم دفنه بجبل الزيتون بالقدس عام 1991 والتي حضرها رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك إسحاق شامير، والذي أشاد بماكسويل وما قدمه من خدمات استخباراتية ومالية واستثمارية لإسرائيل. وقيل إن ماكسويل سقط ومات غرقاً بعد سقوطه من يخته الفاخر بالقرب من جزر الكناري الإسبانية، في حين تشير إحدى النظريات إلى انتحار محتمل، ويدعي آخرون أن ماكسويل اغتيل على يد الاستخبارات الإسرائيلية التي كان يعمل لها سراً.
انتقلت “جيسلين ماكسويل” بعد وفاة والدها من لندن إلى نيويورك- جزئيا للهروب من كل الدعاية السلبية المحيطة بها، ولكن أيضاً لإعادة تقديم نفسها في الدائرة الاجتماعية الصاخبة للمشاهير في المدينة الأهم فى العالم. وكان هذا عنصراً حاسماً في علاقة ‘إبستين’ و’ماكسويل’ المعقدة، إذ ربطته بشخصيات قوية كانت بعيدة عن متناول يده مثل كلينتون وترامب والأمير أندرو، في المقابل، مولها وأنفق عليها.
وتقول ‘براون’ إن علاقات ماكسويل بالموساد ليست سراً، وبسبب علاقة ‘إبستين’ بابنة ‘ماكسويل’، يجب الفحص والسعي لمعرفة علاقة جيفري إبستين بمجتمع الاستخبارات الإسرائيلي. وتؤكد براون بشدة على أوجه التشابه المذهلة بين وفاة جيفري إبستين في آب/ أغسطس 2019 ووفاة روبرت ماكسويل في تشرين الثاني/ نوفمبر 1991. ويجادل أحد فصول كتاب ‘براون’ الأخير بأن العلاقة المعقدة التي كانت تربط جيفري إبستين بعائلة ‘ماكسويل’ قد تقدم المزيد من الإجابات، إذ تشير تقارير إلى أن ‘إبستين’ ساعد روبرت ماكسويل على إخفاء أمواله وغسلها في العديد من الحسابات المصرفية الخارجية.
* * *
من المؤكد أن ‘إبستين’ لم يفعل كل ما سبق بمفرده من أجل التقرب من شخصيات مؤثرة بلا مقابل! ومن المرجح أن يكون ‘إبستين’ مجرد واجهة تقف وراءها أجهزة أمنية قوية، إلا أن «انتحار» أو مقتل ‘إبستين’ يفتح الباب لتساؤلات واسعة ومشروعة عن الهدف أو الأهداف من وراء توفير فتيات صغيرات لممارسة الجنس مع رجال نافذين في أقوى دولة في العالم.
ويُطالب عدد متزايد من أعضاء الكونجرس مكتب التحقيقات الفيدرالي FBI والسلطات الأمريكية، وسلطات إنفاذ القانون في أوروبا، أن تنظر في الروابط المالية والاجتماعية التي تربط ‘إبستين’ بكل هؤلاء الأشخاص المذكور أسماؤهم في وثائق المحكمة. ويتبقى جزء من الحقيقة مخفي لدى رفيقة إبستين جيسلين، والتي تنتظر محاكمتها، إلا إذا أقدمت هي الأخرى على الانتحار!
بقي أن أشير إلى أن “صامويل بيزار”، زوج والدة وزير الخارجية الأمريكي الحالي توني بلينكن، والذي أشرف على تربيته، صادقَ لسنوات روبرت ماكسويل والد ‘جيسلين’ رفيقة ‘إبستين’، وكان محاميه الأقرب.
* كاتب صحفي متخصص في الشؤون الأمريكية
المصدر: الشروق