عبد الباسط حمودة
في كلِ عامٍ عندما تمر ذكرى ميلاد الزعيم جمال عبدالناصر في مثلِ هذا اليوم (15 كانون الثاني/ يناير 2018) لا بد من النظر إلى ما يدور في وطننا السوري وفي الوطن العربي الأكبر، وما آلت إليه الأحوال من فساد ونهب واستبداد وقتل وتشريد واتجار بالبشر والحجر والكبتاغون أيضاً فضلاً عن الأوطان، ومن بؤس وانهيار وضياع وإذلال وامتهان لكل شيء يدفع للتنمية بجميع فروعها وللحرية والكرامة ويمتُ للعروبة بشيء.
والأكثر من ذلك أن ليس هناك بارقة أمل أو بصيص من نور يتلمسُ فيه الإنسان العربي طريقه وسط هذا الظلام الدامس والاحتلالات الأجنبية والسلطوية الآثمة؛ وهنا نسأل أين أنت يا أعز الرجال.. يا عبدالناصر؟ أين التقدم الذي أسست له؟ لقد كان وجودكَ يبث الأمل والكرامة في النفوس، وما أزال أذكر ترقبنا ونحن في عز الصبا والشباب، لخُطب عبدالناصر وانتظاره على أحر من الجمر، فحين نتحلق حول المذياع ونستمع إلى كلماتِ خطابه يتبدد الخوف، ويدبُ الأمل في نفوسنا، وتتجدد ثقتنا بقيادته التاريخية النادرة.
مع أهمية إنجازاته الكثيرة والهامة سأشير هنا للعمل العظيم الذي نادراً ما يُشار إليه عند تناول سيرة الزعيم العطرة، ألا وهو قرار مجانية التعليم، وخاصة في الجامعات المصرية، ليس لأبناء مصر فقط بل لكل أبناء الوطن العربي، لقد كان لهذا القرار الوقع الكبير في قلوب أبناء العرب والعروبة حتى ممن لم يعاصروه وإنما قرأوا وسمعوا ولمسوا ما تركه من مبادئ حتى يومنا هذا.
هذا العمل، مجانية التعليم، التي كان لها الأثر الكبير جداً على الكثيرين من الأمة العربية، فالعشرات من أبناء الأمة العربية الذين التقيتُهم عبر رحلة الحياة بعد تخرجي من جامعة دمشق نهاية السبعينات، إذ التقيتُ بالعديد من الخريجين من جامعات مصر العروبة بالمؤتمرات العلمية والثقافية المختلفة وقد أشاروا لأهمية هذا القرار والإفادة التي لا تنسى منه في حياتهم وتحصيلهم العلمي على طريق التقدم العلمي والتكنولوجي.
فلولا قرار مجانية التعليم واستقبال الجامعات المصرية لألوف مؤلفة من الطلاب العرب في خمسينات وستينيات القرن الماضي، لما كان قد حصل الآلاف المؤلفة وربما الملايين من الطلاب المصريين أيضاً على أي تعليم جامعي، فلقد أتاح جمال عبدالناصر للملايين من أبناء الفلاحين والعمال في نجوع وقرى ومدن مصر، أرض الكنانة، ومن كل الأقطار العربية أيضاً، بأن يحصلوا على التعليم الجامعي الذي يروقُ لهم ويُرضيهم.
فما الأجيال المتعاقبة من المهندسين والأطباء والعلماء والمدرسين والمتخصصين في مختلف فروع العلم التي بنت مجتمعاتٍ بقضها وقضيضها في جميع الدول العربية- وعلى الأخص في بلدان ومشيخات الخليج العربي- التي كانت من نتاج التعليم المجاني الذي أتاحته ثورة 23 تموز/ يوليو بقيادة جمال عبدالناصر، ومن يرى غير ذلك فهو جاحد لنعم اللهِ عليه ومجافٍ للحقيقة والواقع الذي سُطرَ بالكثير من المراجع والوثائق.
إن زعامته بانت وظهرت إبان حياته منذ نعومة أظفاره بالمدرسة الثانوية والكلية الحربية وفي الجيش، وتجربته النضالية في فلسطين لخيرُ شاهدٍ ودليل على قوميته ووطنيته وعروبته الصادقة، في وقتٍ كان يراد لمصر أن تنكفئ على نفسها وأن تتدثر برداء الشعوبية الفرعونية، ولكن عبدالناصر بفكره وبفلسفته وبزعامته استطاع أن يحسم عروبة مصر وصححَ المفاهيم السائدة حينها، وكذلك أرسى دعائم القومية العربية وحركتها بطول الوطن العربي وعرضه، وأتّبعَ ذلك بالمثال الساطع أي بالوحدة مع سورية، رغم فشلها، ليس لقصورٍ في مبادئ الفكر القومي- وليس هنا مجال إثارتها- بل لحجم التآمر وخيانة البعث ومخرجاته العسكرية الإرهابية وأعوانه من اليسار المُخاطي والإسلاموية المبتذلة.
لقد استطاع وهو على رأس الثورة أن يجعل العروبة والإسلام صنوان لا يفترقان وكلاهما رديف للآخر وليس نقيضاً له، إن الدليل على صحة فكر وفلسفة ومبادئ الخالد جمال عبدالناصر هو استمرارية فكره ومبادئه إلى يومنا هذا، فقد انتشرت الحركات والأحزاب الناصرية بمعظم الأقطار العربية فضلاً عن الملايين الذين ما يزالون على العهد وعلى حبهم وولائهم لفكرهِ، فيذكرونهُ بكل حبٍ وأسى- على غيابه المثير- عند كل ملمة ونازلة في الوطن العربي، ورغم وفاته منذ 53 سنة ما زالت الشعوب العربية عند كل مظاهرة أو مسيرة ترفع صوره وتحلفُ بحياته حتى اليوم على الرغم من واقع الحال العربي الرديء الذي جاء بعده.
ويكفي جمال عبدالناصر فخراً أن نتذكر مقولاتٍ ثلاث رددها في خطاباته وما يزال معناها ينسحب على أوضاعنا العربية المتردية:
- المقولة الأولى قيلت بعد نكسة حزيران/ يونيو 1967 التي عمل أثناء حياته جاهداً، بكل ما أوتي من قوة، على إزالة آثارها حيث قال: “ ما أخذ بالقوة لا يُسترد بغير القوة ”.
- والمقولة الثانية قالها عن المقاومة الفلسطينية الوليدة في حينه: “ إن المقاومة الفلسطينية هي أنبل الظواهر للنضال العربي ويجب المحافظة عليها ”.
- أما المقولة الثالثة فهي: “ إن حرية الكلمة هي المقدمة الأولى للديموقراطية ”.
رحمك الله أبا خالد وطيّب ثراك في يومِ ميلادكَ كما في يومِ وفاتكَ وفي كلِ آنٍ وحين.
رحم الله الزعيم الخالد . ما أحوجنا إلى عبد الناصر وفلسفة عبد الناصر في هذه الأيام .