علي حبيب الله *
ينال الزمن من مفاتيح بيوت ’’هوج‘‘ بالصدأ، بينما صدى طقّها في زرافيل الأبواب، ظلّ مسموعًا في ذاكرة أهالي القرية على مرّ عقود النكبة. بعض تلك المفاتيح يزيد عمرها عن الـ 100 عام، إذ يعود سبكها إلى أيّام حكم الأتراك في البلاد، حيث كانت مفاتيح البيوت كبيرة في حجمها، وشكلها أشبه بمئذنة الجامع(1)، وهذا تقليد درج في البلاد وقتها، فصنع مفتاح البيت على شكل مئذنة الجامع كان بمثابة تميمة لحفظ المفتاح من الضياع، تمامًا مثلما لا يمكن لمئذنة الجامع أن تضيع من عيون الناس في مدن وقرى البلاد.
في موقع القرية واسمها:
إلى الشرق من مدينة غزّة، وعلى بعد 18 كيلومترًا، تقع ’’هوج‘‘ المهجّرة في الطرف الشماليّ من صحراء النقب، عند مفترق عدد من الطرق الفرعيّة الّتي كانت تربطها بغزّة وبئر السبع. وتجاور أراضيها من الشمال أراضي قرية برير ونجد، وأرضي الشجاعيّة من الغرب، بينما تحدّها من جنوبها أراضي بئر السبع، ومن الشرق أراضي الجمامة من قضاء بئر السبع، أمّا مساحة أراضي قرية ’’هوج‘‘، فكانت تقدّر بـ 22 ألف دونم قبيل نكبة القرية.
أمّا عن ’’هوج‘‘ في اسمها، فلا صحّة للقول بأنّ بها “النبيّ هوج”، وربّما هو تحريف عن هود النبيّ، مع العلم بأنّه دفن في مدينة حضرموت اليمنيّة. إلّا أنّ لصاحب كتاب “إتحاف الأعزّة” رواية تقول: إن ’’هوج‘‘ هو حاكم مدينة طبريّة في زمن صلاح الدين الأيّوبيّ وحروبه على الصليبيّين، وقد أخذ صلاح الدين ’’هوج‘‘ أسيرًا في سنة 1179م، وقبل أن يطلق سراحه، اقترح عليه أن يعلمه الإفرنج في خُلق الفرسان، فجرّب هوج أن يتملّص، ولكنّ صلاح الدين أصرّ على طلبه، فشرع في تمثيل الاحتفال، والتذّ صلاح الدين بما شاهده، وكان يستوضح عن معنى كلّ حركة يؤدّيها ’’هوج‘‘ الّذي نقله معه إلى ما بين عسقلان وغزّة، فكان اسم القرية(2).
بينما صاحب موسوعة “غزّة عبر التاريخ” يقول إنّ اسم ’’هوج‘‘ قد حرف من اسم قرية “أوغا” الرومانيّة القديمة في موقع القرية، بينما مصطفى الدبّاغ يرى أنّ اسم القرية اشتقّ من اسم مؤسّس جماعة فرسان الهيكل الصليبيّين “هيوغ دي باينز”(3).
من خربة ’’هوج‘‘ إلى القرية:
ظلّت ’’هوج‘‘ خرابًا لا يسكنها أحد، منذ بدء الحملات الصليبيّة على البلاد، أسوة بمعظم مدن وقرى الساحل منذ مطلع القرن الثاني عشر للميلاد، حيث هجر الصليبيّون معظم سكّان الساحل، وبقيت ’’هوج‘‘ طوال فترة خرابها تعتبر “خربة” من أوقاف “عرب السوالمة”(4)، إلى أن أعيد بناؤها وتوطّنها في مطلع القرن التاسع عشر، ما بين سنين 1818- 1820، بعد أن شجّع حاكم غزّة التركيّ مصطفى بك بعض أهالي الشجاعيّة في غزّة الذهاب للقرية وإعمارها مقابل أن ينالوا حصّة من أراضيها دون مقابل، وقد رفض أهالي الشجاعيّة ذلك العرض في البداية، تخوّفًا من غارات بدو النقب عليهم، فقامت السلطات العثمانيّة ببناء مخفر فيها، فاستتبّ الأمن، وكانت عائلة النجّار من الشجاعيّة في غزّة أوّل من نزلت ’’هوج‘‘، ثمّ لحقت بها عائلات أخرى إلى أن وصل تعداد سكّان القرية عام النكبة إلى ما يزيد عن ألف نسمة(5).
كانت بئر ماء القرية في موقعها، هو المَعلّم الأبرز المشكّل لهويّة ’’هوج‘‘، تمامًا مثل باقي قرى قضاء غزّة، الّتي انبثقت وتشكّلت من آبارها الكفريّة “الأثريّة” الّتي يعود حفر معظمها إلى العهد الرومانيّ في البلاد، وكانت بئر ’’هوج‘‘ الّتي يزيد عمقها عن الـ 60 مترًا، هي من شجّعت على إعادة توطّن القرية وإعمارها بعد تحوّلها خرابًا على مدار قرون، ومن أشهر معالم قرية ’’هوج‘‘، كانت “خربة الناموس” الواقعة على مسافة أربعة كيلومترات من القرية، والّتي كانت تحوي آثارًا ومبان مهدّمة وصوامع معقودة، وصهاريج من الدبش والرخام(6).
معظم بيوت ’’هوج‘‘، كانت مبنيّة من اللبن، أيّ من الطين والتبن، وقد توزّعت بيوت القرية على حارتين تاريخيّتين فيها بقيتا حتّى عام النكبة، هما: حارة النجّار وحارة أبو العيش، ولكلّ منهما مختار خاصّ بها، وقد أحاطت بالقرية عشائر بدويّة ظلّت محسوبة على القرية مثل: الثوابتة والعزازمة والهزيل، أمّا مدرسة القرية، فقد تأسّست في سنة 1935، بعد أن كان التعليم فيها قبل ذلك التاريخ في جامع القرية على طريقة الكتاتيب.
الذاكرة الاستعماريّة:
إنّ المعركة الشهيرة الّتي دارت رحاها على مدينة غزّة أيّام الحرب العالميّة الأولى سنة 1917، والّتي جاءت غزّة المدينة وبيوتها، قد طالت قرية ’’هوج‘‘ أيضًا، فقد اتّخِذت القرية وقتها مقرًّا للقيادة الألمانيّة المتحالفة مع الأتراك ضدّ قوّات الحلفاء، كما كان أبناء قرية ’’هوج‘‘ جزءًا من السيرة النضاليّة الفلسطينيّة ضدّ سلطات الاستعمار البريطانيّ في البلاد، خصوصًا في ظلّ الثورة الكبرى 1936- 1939. أقيمت أوّل مستعمرة صهيونيّة على جزء من أراضي ’’هوج‘‘ قبل تهجيرها، وهي مستعمرة “دوروت” الّتي أنشأها الصهاينة سنة 1941.
في 31 أيّار/ مايو اقتحمت العصابات الصهيونيّة ’’هوج‘‘، وقد أمهلت سكّان القرية على ما ظلّت تتذكّره الحاجة صفيّة أبو العيش ساعتين لإخلاء قريتهم ومغادرتها، ممّا دبّ الرعب في نفوس أهالي ’’هوج‘‘، فحملوا بعض متاعهم واحتياجاتهم مغادرين ’’هوج‘‘ باتّجاه قرية بيت حانون شماليّ غزّة المدينة. كانت الحاجة صفيّة طفلة في حينه، ولم تتجاوز سنّ الثامنة حين وضعها أبوها في أحد جيوب خراج الدابّة تاركين قريتهم خلفهم. وممّا ظلّ عالقًا في ذاكرتها، هو ذبح الصهاينة لجارتهم الّتي عادت إلى القرية بعد تركها، من أجل أخذ بعض حاجيّاتها، حيث رماها الصهاينة في بئر القرية بعد قتلها معصوبة العينين(7).
استُشهد من أهالي قرية ’’هوج‘‘ في تلك الأحداث، كلّ من إياد النجّار وأسامة الغوطي، وقد تمدّدت مستعمرة “دوروت” المقامة على أراضي القرية قبل النكبة إلى أنقاضها بعد النكبة، ولم يبق من معالم القرية غير بيت واحد متداعٍ استخدمه المستوطنون الصهاينة مخزنًا زراعيًّا، فضلًا عن بعض أشجار الجميز والصبّار الّتي أبت إلّا أن تنبت مذكّرةً بحكاية ’’هوج‘‘ وأهلها المقتلعين.
الهوامش:
1- راجع: أبو العيش، أمين، هوج، مقابلة شفويّة، منشورة على موقع “موسوعة القرى الفلسطينيّة”، هوج- قضاء غزّة- قرية مزالة، دون تاريخ.
2- الطباع، الشيخ عثمان مصطفى، إتحاف الأعزّة في تاريخ غزّة، تحقيق: عبد اللطيف زكي هاشم، مكتبة اليازجي، غزّة، 1999، ج2، ص 377.
3- سكيك، إبراهيم خليل، غزّة عبر التاريخ، ج6، ص84.
4- الطباع، المرجع السابق، ج2، ص377.
5- سكّيك، المرجع السابق، ج6، ص 378.
6- المرجع السابق، ج6، ص 378.
7- راجع: أبو العيش، صفيّة، هوج، مقابلة شفويّة، منشورة على موقع “موسوعة القرى الفلسطينيّة”، هوج- قضاء غزّة- قرية مزالة، دون تاريخ.
* كاتب فلسطيني وباحث في التاريخ الاجتماعي
المصدر: عرب 48