حسام أبو حامد *
منذ المحرقة التي قادها النازيون الألمان ضد السكّان الأوروبيين اليهود، أصبحت عبارة “لن يتكرّر ذلك أبدا” مبدأ أساسيا لهوية ألمانيا السياسية. وأعادت حرب الإبادة الجماعية التي تشنّها إسرائيل على قطاع غزّة وسياسة القتل والتهجير الممنهجيّن بحقّ الفلسطينيين، الذين احتشد مناصروهم في الساحات في العالم، نقاشًا ألمانيًا بشأن المعنى الحقيقي لتلك العبارة، في جدل محتدم انقسمت معه آراء أتباع التقاليد الفكرية الألمانية السائدة، ولم يكن بيان “مبادئ التضامن”، الذي نشره موقع إلكتروني لجامعة غوته في 13 نوفمبر/ تشرين الثاني، بتوقيع الفيلسوف الألماني، يورغن هابرماس، وثلاثة من زملائه الأكاديميين من أساتذة القانون والسياسة والعلاقات الدولية، بعيدًا عن هذا النقاش.
حضرت فكرة الكونية في مشروع هابرماس المعرفي، وخرج من جدران الغرف الأكاديمية مشاركًا في نقاشات الفضاء العام الغربي، حتى أصبحت شهرته، كما قال هابرماس نفسه، “أعظم بكثير من المعرفة بنظريته المعقدة”. رغم ذلك، لم يُعرف عنه اهتمام حقيقي بقضايًا “العالم الثالث” في ذاتها، بل بوصفها حقلًا مناسبًا لنقد الممارسات والسياسات الغربية. وغالباً ما اختزل هابرماس القضية الفلسطينية بـ”المسالة اليهودية” و”العداء للسامية”، وكان نادرًا ما يُظهر انحيازًا لدولة الاحتلال الإسرائيلي، إلا أنه حرص على عدم توجيه أي نقد لها. هذه المرّة لم يصمت هابرماس. في لحظتي البوح والسكوت، ظلّت “إسرائيل” استثناءً.
هذه السطور محاولة لوضع بيان هابرماس في سياقه التاريخي، على الصعيدين العام والشخصي، وفي سياق التحولات الدولية المتراكمة منذ “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر.
بيان سياسي:
يؤكّد البيان المذكور ضرورة الالتزام بـ”روح ديمقراطية” وبـ”ثقافة سياسية”، تشكّل فيهما “الحياة اليهودية وحقّ إسرائيل في الوجود عنصرين أساسيين جديرين بحماية خاصة، في ضوء الجرائم الجماعية التي ارتكبت في الحقبة النازية”، إذ لا يجب أن يتكرّر مجدّدًا تعرّض اليهود “لما يهدّد حياتهم وأجسادهم”، حين “تنسب نوايا الإبادة الجماعية إلى أفعال إسرائيل” في غزّة، ما يؤدّي، برأي هابرماس، إلى “ردود الفعل المعادية للسامية، لا سيما في ألمانيا”، مطالبًا “المقيمين” (المهاجرين) أن يلتزموا بتلك الثقافة/ المبدأ، بعد اتهامه لهم بأنهم “زرعوا مشاعر ومعتقدات معادية للسامية وراء جميع أنواع الذرائع، ويرون الآن فرصة مرحّباً بها للتعبير عنها من دون عوائق”. وبعد أن يضع التضامن مع فلسطين و”العداء للسامية” في سلّة واحدة، يرى أن “الانتقام” العسكري الإسرائيلي في أعقاب هجوم 7 أكتوبر “مبرّر من حيث المبدأ”.
يتناغم البيان مع الإجماع القوي المؤيد لإسرائيل في السياسة الألمانية، ويأتي بعد مقترح لأحزاب في حكومة أولاف شولتز الائتلافية بحرمان اللاجئين الذين ينشرون “كراهية اليهود” من الحصول على الجنسية الألمانية، وسحب التمويل من المؤسّسات الثقافية التي تدعم المقاطعة. ومعروف أن الحكومة الفيدرالية الألمانية تبنّت، ضمن تعريفها الأساسي “معاداة السامية” الذي يحدّد كراهية اليهود، التعريف المعتمد لدى ما يسمى “التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست”، لكنها أضافت “دولة إسرائيل” إلى التعريف، بوصفها “جماعة يهودية”، قد تكون هدفا لـ”معاداة السامية”.
ومع أن هابرماس دافع، في مواقف سابقة معلنة، عن حقّ اللجوء خلال أزمة المهاجرين عام 2015، وناضل ضد الشعبوية اليمينية، وكراهية الأجانب في انتخابات البرلمان الأوروبي لعام 2019، إلا أنه تراجع عن ذلك في بيانه، متورّطًا في ذلك الخلط المنهجي بين اليهود وإسرائيل، متناولاً “معاداة السامية” وكأنه رجل سياسة، لا رجل فلسفة ومعرفة، واضعا نفسه في صفّ سياسيين ألمان ما انفكّوا يحرّضون ضد اللاجئين والمهاجرين ويشجّعون على كراهيتهم، ويتبنّون الرواية الإسرائيلية عن “معاداة السامية”، والوسم الجماعي لأيّ تصرفات أو مشاعر معادية لإسرائيل بـ”كراهية اليهود”. وبذلك يغدو دقيقًا وصف بيان هابرماس بأنه “بيان سياسي مقتضب، يتركّز أساسا على تبرير تحديد حرّية نقاد إسرائيل في ألمانيا في التعبير ورفض تسمية ما تقوم به إسرائيل في قطاع غزّة إبادة جماعية لأسباب متعلقة بألمانيا ذاتها وتاريخها”، بحسب عزمي بشارة، في محاضرته “الحرب على غزّة: السياسة والأخلاق والقانون الدولي” (28 /12/2023)، فأفكار ما بعد العلمانية عند “هابرماس المتأخّر” كما ذهب بشارة، متعلقة بتفهمه خطاب الذين يدافعون عن “طابع أوروبا المسيحي” في مقابل موجات الهجرة الواسعة، خشية أن يؤثر “انعدام التجانس الثقافي في هيمنة الأفكار الديمقراطية الليبرالية في أوروبا”، لكن “أقلية” من المهاجرين “غير المنسجمين ثقافيًا” لن تشكّل خطرًا على الديمقراطية الليبرالية بقدر الخطر المتمثل في “رد فعل اليمين المتطرّف على الهجرة”.
الصمت فعلًا خطابيًا:
في أواسط ثمانينيات القرن الماضي، احتدم جدل حول ما إذا كانت ألمانيا الغربية دولة “طبيعية”، بتاريخ “طبيعي” ملهم للكبرياء القومي، أم أن ذكرى الحقبة النازية لا يمكن “تطبيعها”. أكّد هابرماس حاجة ألمانيا للتعامل مع الماضي المظلم، ومواجهة حقيقة النازية، وعدم تجاهلها. فالحياة الألمانية المتوارثة مرهونة بشكل الحياة الذي جعل معسكرات الاعتقال النازية ممكنة كنتاج لظروف جوهرية لا عرضية، وسعى إلى مواجهة إرث معاداة السامية من خلال معالجة ارتباطاتها بظهور الأشكال القومية المؤكّدة للمجتمع السياسي، وصياغة رؤية لمجتمع سياسي ما بعد قومي، باعتباره الإمكانية المعيارية لعصرنا. وتحت ثقل عقدة الذنب تلك تجاه “الهولوكوست” المنتج في سياق تاريخي، وظروفه الجوهرية لا العرضية، تبدو إسرائيل استثناءً، ما أوقعه غير مرة في تناقض معرفي ونفاق أخلاقي.
في الثمانينات أيضًا، انضم هابرماس إلى حركة معارضة الطاقة النووية في أوروبا، لكنه صمت عن السلاح النووي الإسرائيلي، وحين نشر الشاعر (والروائي) الألماني غونتر غراس العام 2012 قصيدة أشار فيها إلى أن امتلاك إسرائيل السلاح النووي يهدد السلم العالمي، اعتبر هابرماس في مقابلة مع صحيفة هآرتس اليسارية، في أغسطس/ آب من ذلك العام، نشر القصيدة عملًا استفزازيًا، ورغم أنه لم يتهم غراس بمعاداة السامية، إلا أنه اعتبر ما قام به غير مبرّر، لأن “هناك أشياء لا ينبغي على الألمان من جيلنا قولها”. عقّب الفيلسوف اليهودي الألماني أومري بوم على هابرماس معتبرًا أن إحجام المفكرين الألمان عن “توجيه النقد لإسرائيل أمر مفهوم، إذ يعتقدون أن رفض التعليق في هذه القضية أمر مناسب، طالما جعلته المسؤولية الألمانية عن جرائم الهولوكوست كذلك”، لكن “عندما يرفض الكلام مؤّسس فرع من فروع الفلسفة يسمى أخلاقيات الخطاب، تكون هناك عواقب نظرية وسياسية. الصمت هنا في حد ذاته فعل خطابي، وهو فعل عام للغاية”.
عارض هابرماس “الإرادة الجماعية” الناتجة عن الهويات التاريخية (الطبقة، والدين، والأمة)، ودعا إلى نوع جديد من “الهوية الجماعية”، فاختراع دول جديدة أو حدود جديدة، وفقًا للمبدأ القومي، أدّى إلى كوارث تاريخية وصراع الأقليات. فمن الناحية المجرّدة وعلى أسس معيارية فقط، يبدو الحفاظ على دولة متعدّدة الجنسيات أو متعدّدة الأعراق حلًا أفضل. لكن حين سألته “هآرتس” عن رأيه “في حلّ النزاعات القومية من خلال تقسيم الدولة، بحيث تكون لكل جنسية دولتها الخاصة؟”، أكد أن إسرائيل غير مستهدفة بنهجه العام “ولا يجب أن تستنتج أنه لم تكن هناك أسباب قاطعة لتأسيس دولة إسرائيل في عام 1948… الحقّ السياسي لوجودها نابع من أفضل الأسباب المعيارية المتاحة”. في مقابل هذا الاستثناء الإسرائيلي، حرم هابرماس الفلسطينيين حتى من حقّهم في المقاومة، أي حقّهم في الدفاع عن النفس، حين اعتبر، في حواره مع جيوفانا بورادوي (“الفلسفة في زمن الإرهاب”، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، الدوحة، 2013)، “إرهابا من الطراز القديم”، وأخرجه من دائرة حركات التحرّر الوطني، مدّعيا أنه “يتمحور حول القتل وإبادة الأعداء، ولا يستثني النساء والأطفال”، ما يجعله مختلفًا عن “الإرهاب الذي يظهر في صيغةٍ شبه عسكرية، في معارك حرب العصابات التي ميّزت الكثير من حركات التحرّر الوطني”.
توجيه غير مُلزم:
تمسّك هابرماس بالمشروع التنويري ووعوده التحرّرية، في وقت يأس الجيل الأول من مدرسة فرانكفورت من المشروع الحداثي، داعيًا إلى أخلاق تواصلية تقوم على الحوار والاعتراف بالآخر من دون أي ادّعاء أو احتكار للحقيقة، داخل فضاء عمومي مشترك، لكنه كان على استعداد لإغلاق الفضاء العمومي حين يدور النقاش حول دولة الاحتلال، رافضا تشبيه إراقة الدماء في غزة بالإبادة الجماعية، فذلك برأيه: “يتجاوز حدود النقاش المقبول”.
أثار ذلك قلق أكثر من مائة أكاديمي يعملون تحت مظلة النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت، التي كان هابرماس نفسه الممثّل الأكثر شهرة لجيلها الثاني، ومعهم آخرون، منهم عالم الاقتصاد آدم توز، والمؤرّخ القانوني صموئيل موين، والفيلسوفتان آميا سرينيفاسان ونانسي فريزر. ورغم أن هؤلاء لم يكونوا جميعًا مقتنعين بأن “المعايير القانونية للإبادة الجماعية قد تم الوفاء بها” من خلال الوضع في قطاع غزّة، إلا أنهم اتفقوا على أنها “مسألة نقاشٍ مشروع”، فدروس التاريخ تعلمنا أن “من الأهمية بمكان التحذير من احتمال حدوث إبادة جماعية قبل حدوثها، بدلًا من إدانتها في وقت متأخّر… يجب علينا أن نستجيب لهذا التحذير وألا نغلق المجال للنقاش والتفكير حول إمكانية الإبادة الجماعية”. وفي رسالتهم المعنونة بـ”يجب أن ينطبق مبدأ الكرامة الإنسانية على جميع الناس” (“الغارديان”، 22 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023)، عبّر هؤلاء أيضًا عن قلقهم من “الحدود الظاهرة للتضامن” التي أعرب عنها هابرماس وزملاؤه، ووجدوا أن اهتمامه بالكرامة الإنسانية “لا يمتد بشكل كاف إلى المدنيين الفلسطينيين في غزّة الذين يواجهون الموت والدمار، كما أنه لا ينطبق أو يمتدّ إلى المسلمين في ألمانيا الذين يعانون من رُهاب الإسلام المتزايد”.
توسّع الإنتاج المعرفي لهابرماس في أفكار فيلسوف التنوير في القرن الثامن عشر إيمانويل كانت، ومشروعه في “السلام الدائم” (1795)، الذي استند عند كانت إلى الرقيّ الأخلاقي، قبل أن يتوه في دهاليز السياسة والقانون، في نظام كوني (كوزموبوليتي)، ولم يجد هابرماس أسبابا وجيهة للثقة في المعيارية القطعية للواجب الأخلاقي، لمنع الحرب قبل وقوعها، فأراد قوننة “دولة المواطنة العالمية”، ورأى أن ما يمنح حقوق الإنسان صفة الإلزامية، والعقابية أيضًا، انتماؤها إلى الحقّ القانوني. لكن هذا الحقّ وعاءٌ لحقوق الإنسان، يتقلص في بيان هابرماس إلى مجرّد “مبادئ توجيهية” للعمل العسكري في الحرب على غزّة: التناسب، ومنع وقوع إصابات بين المدنيين، وشنّ حرب مع آفاق السلام في المستقبل، وهي مبادئ رأى عزمي بشارة أن صاحبها لا يمتلك معها “الغرور الكافي لكي يحسب إسرائيل منصاعة” لتلك المبادئ، لتبقى بالتالي “شروطًا بلاغية لأغراض الصياغة”. غياب القوننة والإلزام أقلق الأكاديميين الذين نبّهوا، في رسالتهم، إلى خلوّ بيان هابرماس من “أي إشارة إلى دعم القانون الدولي، الذي يحظُر أيضًا جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية مثل العقاب الجماعي والاضطهاد وتدمير البنية التحتية المدنية”، وأكّدوا حرصهم على الاسترشاد بـ”مبادئ المعايير القانونية الدولية”، انطلاقا من أن “التضامن والكرامة الإنسانية يجبراننا على إخضاع جميع المشاركين في الصراع لهذا المستوى الأعلى”.
كونية منقوصة:
إن كان هابرماس أقام مشروعه الفلسفي على دعائم أخلاقيّة عالميّة، لتأسيس مجتمع إنساني كوني قائم على مفاهيم تتجاوز حدود الانتماء؛ كالتواصل والمواطنة والعدالة والحقّ والهوية وغيرها من المفاهيم، فإنه، ومعه متنوّرون كثر، لا يتجاوزون، بحسب بشارة، “الهوّة الفاصلة بين القيم الكونية في مضمونها من جهة، وكونيتها لناحية سريانها، من جهة أخرى”، فتبدو هذ الكونية حبيسة “نحن واحدة تضمّها مع إسرائيل، وفي مواجهة خصم من ثقافة أخرى”. ويشير بشارة إلى تلك المفارقة المتمثلة في “أن خصوصيّة القضية الفلسطينية، والتي أسهمت في تعقيدها، هي تشابكها مع مسألة عالمية هي المسألة اليهودية، ومسالة إقليمية هي المسالة العربية”، وموضوع الاهتمام ليس الشعب الفلسطيني، بل “إسرائيل الدولة اليهودية”، وغزّة بالتأكيد ليست واحدة من مفردات خطاب التنوير عند هابرماس، بل “طروادة” المنسية التي بحث لها الراحل محمود درويش عن شاعر يروي قصتها قائلا: “أنا ابن شعب غير معترفٍ به بما فيه الكفاية حتى الآن. أريد أن أتكلم باسم الغائب. باسم شاعر طروادة”.
هناك فارق بين أن تتحمّل ألمانيا مسؤوليتها التاريخية تجاه الهولوكوست وأن تبقى حبيسة عقدة الذنب التي تلقي بثقلها على الضمير الألماني، كما يريد هابرماس، وهو الفارق بين القيم الأخلاقية والنفاق الأخلاقي. كشفت طروادة الفلسطينية عواراً أخلاقياً وتغطية متعمّدة لحقّ بيّن، وسقط مفكّرون في “الامتحان الأخلاقي حين برروا حربًا شاملة تشنها دولة الاحتلال”، لكن ذلك لا يعني التشكيك في “قيم العدالة والحرية والمساواة”، لأنها، بحسب بشارة، قيم “تجمع الإنسانية، وتشكّل أساسا للحوار والتواصل، والحكم على التصرّفات، وطرح المطالب العادلة”.
* كاتب وصحفي فلسطيني
المصدر: العربي الجديد