محمود صلاح *
قال أول رئيس وزراء دولة الاحتلال الإسرائيلي، بن غوريون، “كل هجوم يجب أن يكون ضربة قاضية تؤدّي إلى تدمير البيوت وطرد سكّانها”، وذلك في أوامره للعصابات الصهيونية إبّان شروعها في طرد الفلسطينيين من أراضيهم ومدنهم، الأمر الذي يوضح منهجية عمل الدولة الصهيونية في نظرتها إلى السكان الأصليين، وضرورة محوهم مقابل الاستيلاء على الأرض.
النكبة الأولى:
قال وزير الخارجية المصري في حكومة مصطفى النحاس السابعة، محمد صلاح الدين، في مايو/ أيار 1951، “غزّة وديعة عند مصر، ولم تتخلّ عنها ولا تنوي أن تتخلّى عنها”. وتكشف هذه العبارة إدراكاً مبكراً لأهمية قطاع غزّة للأمن القومي المصري، وهو ما تبلور في حرص مصر على إدارة القطاع نحو عشرين سنة، بداية من أواخر مايو/ أيار 1948 وحتى يونيو/ حزيران 1967، علاوة على حرص مصر تضمين اتفاقياتها مع إسرائيل على نصوص صريحة تضمن عدم المساس بوضع قطاع غزّة (أو لواء غزّة كما كان يُسمّى).
ولم تكن مسألة الإدارة المصرية قطاع غزّة الذي يقطنه أغلبية من اللاجئين الفلسطينيين من الأمور السهلة اقتصادياً واجتماعياً وأمنياً. ويجدر القول إن من أشهر من تولّى منصب الحاكم الإداري العسكري لغزّة اللواء محمد نجيب (أول رئيس لجمهورية مصر وقائد حركة 23 يوليو لاحقاً)، فهو ثاني حاكم مصري إداري للقطاع من ديسمبر/ كانون الأول 1950 إلى نوفمبر/ تشرين الثاني 1951. وكان وزير الحربية والبحرية المصري قد أصدر الأمر رقم 227 بتاريخ 1948/9/8، القاضي بتعيين حاكم إداري عام للمناطق الخاضعة لرقابة القوات المصرية في فلسطين (قطاع غزّة) وأناط به مزاولة الصلاحيات والاختصاصات التي كانت مخوّلة للمندوب السامي البريطاني.
وقد عانى القطاع من التهميش قبل ثورة الضباط الأحرار، ونقلت الصحف المصرية طرفاً من تلك الصِعاب، حيث انخفاض مستويات المعيشة والدخل، وصعوبات جمّة تواجه اللاجئين المتدفقين. وعبّر عن تلك الأزمة وفد من أعيان فلسطين وغزّة قدم إلى القاهرة في مارس/ آذار 1950، وسُمح لهم بمقابلة ثلاثة وزراء في وزارة النحاس. ورفع أهالي غزّة عدة مطالب للحكومة المصرية، في مقدّمتها: قبول مصر ضم لواء (قطاع) غزّة لها، ولو مؤقتاً. واحتوت مذكّرة رفعها كلّ من راغب النشاشيبي ووديع الطرزي وفائق بسيسو وغيرهم على التذكير بسوء الأحوال الاجتماعية، وطلبهم تسليح أهالي غزّة وتجنيدهم تحت قيادة مصرية، علاوة على إقامة مشروعات زراعية وتنموية، أو كما جاء في المذكرة: “تعاني الأغلبية الساحقة من شظف العيش وسوء الحال والتعطّل عن العمل، وما يعجز القلم عن وصفه”، الأمر الذي اضطرّ مصر إلى السعي الحثيث إلى إشراك وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) في إدارة القطاع وتولي مسؤوليات التعليم والدعم الغذائي والصحي. وقد بدأت الوكالة، بالفعل، في تقديم خدماتها بدايةً من شهر مايو/ أيار من العام نفسه (1950). وكانت الوكالة قد رصدت في عامها الأول ما يناهز 33 مليون دولار للاجئين الفلسطينيين في غزّة والبلدان العربية، في حين خصّصت مصر ما يعادل 120 ألف دولار للإنفاق على المشروعات والتنمية في غزّة لعام 1950. وفي الوقت نفسه، أبلغ وزير الخارجية، محمد صلاح الدين، رفض بلاده طلب الضمّ، حيث أوضح للوفد الغزّي إن مصر لا يمكن أن تقع في الخطأ الذي وقع فيه غيرها “لأن سياستها هي فلسطين للفلسطينيين”.
وتفاقمت المشكلات الاجتماعية والاقتصادية للاجئين في قطاع غزّة، وكانت نقاط الصراع مع سكّانه الأصليين واضحة في بداية الأمر، وظهرت بحدّة حالة التنافس والمقارنة بين اللاجئ والمقيم. ومع الإصلاحات الاقتصادية لحكومة ثورة يوليو، نشأت في غزّة منطقة تجارية حرّة، ووفد إليها المصريون للتسوق والسياحة على شواطئ غزّة، إلا أن الحالة المعيشية كانت تزداد صعوبة، خصوصا مع تفاقم أزمة البطالة، والتي تخطت حاجز 87% عام 1959، ولم تفلح مجهودات الحكومة المصرية و”أونروا” في علاجها بشكلٍ فعّال، وصاحب ذلك تحوّل لاجئين عديدين إلى اختراق حدود غزّة لقتال الجنود الإسرائيليين؛ أو محاولة العودة إلى بيوتهم في فلسطين، ومن ثم نشأت تنظيمات الفدائيين الفلسطينيين، خصوصا بعد الهجوم الإرهابي الصهيوني على مخيم البريج للاجئين الذي تعرّض له في أواخر أغسطس/ آب 1953 ردّاً على الهجمات المحدودة لشباب المخيّم الحانقين على طردهم وتهجيرهم، وما آلت إليه حياتهم فيه، حيث هاجمته قوات إسرائيلية كبيرة بوحشية، وقتلت 50 مدنياً على الأقل، ودمّرت مظاهر الحياة فيه، واعتُبرت تلك الحادثة بداية عملية لتهجير الفلسطينيين خارج أراضيهم، خصوصاً وأنها استهدفت تدمير البنية الأساسية وجعل الحياة غير ممكنة.
وقد نشطت حركة الفدائيين الفلسطينيين ووجدت دعماً قوياً من حكومة الثورة، خصوصاً بعد حادثة الاعتداء الإرهابي على الحامية المصرية في فبراير/ شباط 1955، حيث خطّطت القوات الإسرائيلية، عقب مقتل مستوطن إسرائيلي واحد، لهجوم محكم، هاجمت فيه منشآت المياه ومعسكر الحامية المصرية، وقتلت وأصابت كل عناصر القوّة المصرية التي كانت في الحامية، وعددهم 39 جندياً، فاتخذ الرئيس جمال عبد الناصر إجراءات جديدة ومختلفة، بل واعتبر الحادثة نقطة تحوّل في المواجهة الصريحة مع إسرائيل، وذلك عبر وحدات الفدائيين الفلسطينيين وكتائبهم تحت قيادة البكباشي مصطفى حافظ، والذي اغتالته إسرائيل في 1956، وتأكد رفض عبد الناصر مشروعات التوطين التي طرحتها “أونروا” والولايات المتحدة في سيناء، خصوصا بعد أن اشتعلت احتجاجات عارمة، في فبراير/ شباط 1955، قادها الحزب الشيوعي الفلسطيني في غزّة، مع أطياف من الطبقة الوسطى الصاعدة في القطاع من طلاب المدارس والمعلمين والموظفين لرفض توطين لاجئي غزّة إلى سيناء.
ولم تتوقّف محاولات التوطين وإبعاد الكتلة السكنية خارج غزّة، وكانت البداية عقب توقيع الهدنة المصرية الإسرائيلية، حيث تصاعدت الضغوط الدولية على مصر، وعلى حكومة حزب الوفد التي رفضت بشكل قاطع أية محاولات لتوطين لاجئي غزّة في سيناء، أو نقل بعض منهم إلى عُمق الأراضي المصرية.
ويمكن القول إن المحاولات الراهنة للتخلص من سكّان غزة تعود إلى النكبة الأولى، وما تبعها من التدخّل العسكري لجيوش ست دول عربية، في مقدمها مصر والأردن، ففي نهاية الحرب وعقد اتفاقات هدنة رودس بداية من فبراير/ شباط 1949، وجدت إسرائيل فرصة في تسهيل قبولها عضواً في هيئة الأمم المتحدة عبر حضورها مؤتمر لوزان بسويسرا، والذي عُقد من نهاية أبريل/ نيسان 1949 وحتى 12 سبتمبر/ أيلول 1949، لبحث مسألة اللاجئين بشكل أساسي والتعويضات، وعرضت إسرائيل على الدول العربية المشاركة في المؤتمر مقترحاً بعودة مائة ألف لاجئ إلى فلسطين من أصل أكثر من 700 ألف، لكنها اشترطت لقبولهم أن تكون عودتهم ليست بالضرورة إلى الأماكن التي غادروها، في مقابل استيلاء إسرائيل على غزّة، أو ما عُرف وقتها “مشروع غزة”، إلا أن الدول العربية رفضت ذلك المقترح الذي ثبت أنه كان وسيلة لتمرير قبول إسرائيل عضواً في الأمم المتحدة في يوم 11 مايو/ أيار 1949، عبر ادّعائها قبول قرار الجمعية العامة 194 لسنة 1948 المعروف بـ “حق العودة”، وينص على “وجوب السماح بالعودة في أقرب وقت ممكن للاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم والعيش بسلام مع جيرانهم، ووجوب دفع تعويضات عن ممتلكات الذين يقرّرون عدم العودة إلى ديارهم وكذلك عن كل فقدان أو خسارة أو ضرر للممتلكات، بحيث يعود الشيء إلى أصله وفقاً لمبادئ القانون الدولي والعدالة، بحيث يعوّض عن ذلك الفقدان أو الخسارة أو الضرر من الحكومات أو السلطات المسؤولة”. وفي المقابل، سحبت إسرائيل عرضها لتسوية قضية اللاجئين.
وقد فشل مؤتمر السلام الأول في لوزان في التوصل إلى حل قضية اللاجئين، وعَجّلَ المندوب الأميركي، بول بورتر، بفض المؤتمر، خصوصا عندما صرح إن “المحادثات لا تُجدي في لوزان، وأن قضية فلسطين إذا أُريد لها حل سياسي وجب معالجته من الزاوية الاقتصادية”. وكان الوفد الأميركي قد ضغط بشدة من أجل تنازل مصر عن منطقة غزّة (كما كانت تُسمّى). وربط المندوب الأميركي في لجنة التوفيق بشأن فلسطين (تأسّست في ديسمبر/ كانون الأول 1948 بناء على قرار الأمم المتحدة 194) بين تنازل مصر عن غزّة وتقديم المساعدات الاقتصادية للاجئين، أو كما قال “إذا لم يُقبل اقتراح تنازل مصر عن غزّة فليس هناك أمل في نجاح الاكتتاب لمساعدة اللاجئين”، إلا أن مصر رفضت، في يوليو/ تموز 1949، تماماً، التنازل عن غزّة لإسرائيل.
ويسجل التاريخ ضغوطاً متصاعدة قامت بها الولايات المتحدة وبريطانيا لإقناع مصر بقبول اللاجئين الفلسطينيين؛ ففي أوائل يونيو/ حزيران 1949 زار السفير البريطاني في القاهرة، السير رونالد كامبل، وزير الخارجية المصري أحمد خشبة، وحاول إقناعه بقبول مصر عددا كبيرا من لاجئي غزّة (ربع مليون) وإدماجهم داخل أراضيها ومواطنيها. وأوضح السفير أن قبول مصر سيكون أسوةً بما قامت به مملكة شرق الأردن وسورية بقبول عشرات الآلاف من اللاجئين في أراضيها؛ ولم تُطرح صراحة سيناء. وتذكر التقارير أن الوزير المصري رفض تقديم إجابة على المقترح الأميركي البريطاني، بل فضل العودة إلى حكومته التي رفضت بشكل قاطع تلك المقترحات، بل وأصدرت الحكومة المصرية في الشهر التالي قراراً بإنشاء نقاط عسكرية للمراقبة على طول الحدود مع فلسطين، على أن تتألف من رجال الحدود والجمارك لمنع تسرّب اللاجئين وهجرتهم إلى أراضيها، وتَرافق ذلك مع ترحيل سبعة آلاف لاجئ فلسطيني كانوا قد لجأوا إلى مصر من يافا عبر البحر أواخر مايو/ أيار 1948، حيث أمرت الحكومة بتحديد إقامتهم في معسكر العباسية في القاهرة، ثم نقلتهم إلى معسكر القنطرة، ثم نقلتهم إلى غزة أواخر 1949.
لم تتوقّف المحاولات الإسرائيلية والغربية من أجل نقل جزء كبير من الكتلة السكانية في قطاع غزة إلى سيناء، بل ثمّة أصوات غربية لا تزال تحلم بإعادة مرحلة الإدارة المصرية للتخلّص من العبء الأمني الذي تتحمله إسرائيل، وذلك بتحميل مصر المسئولية الأمنية عن القطاع، وهو ما صرح به جون بولتون المستشار السابق للأمن القومي في إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، والذي صرح إنه “يجب إعادة الحكم في غزّة إلى مصر”. وكان بولتون قد رفض حلّ الدولتين، ودعا علناً إلى تصفية القضية الفلسطينية عبر إشراك مصر والأردن في إدارة كلٍّ من غزة والضفة الغربية بدون الحاجة إلى تهجير الفلسطينيين خارج أراضيهم.
وكان الاصطلاح “قطاع غزة” قد عُرف منذ ديسمبر/ كانون الأول 1953، عندما أصدر مجلس قيادة الثورة القانون 621 أو القانون الأساسي للمنطقة الواقعة تحت رقابة القوات المصرية بفلسطين. ومن الجدير بالذكر أن قطاع غزّة بحدوده الحالية جزء مُقتطَع من مساحة أكبر كانت تُعرف إدارياً بلواء الجنوب أو غزّة، الذي كان يضم مدينتي غزة وبئر السبع. وتمثل المساحة الحالية، بحسب دراسات وبحوث كثيرة منشورة، ما لا يزيد عن 2.5% من مساحة اللواء. ولم تكن غزّة بمساحتها المقتطعة تلك، والتي لم تتجاوز الـ 365 كيلومترا مربعا مستعدةً لاستقبال عشرات الآلاف من اللاجئين من عموم فلسطين إليها، ومن ثم نشأت مشكلة اللاجئين في غزّة، حتى صارت غزّة مجتمع لاجئين، أُجبِروا قسراً على مغادرة مدنهم ودورهم، وعندئذ أُقيمت المخيمات. وتُثبت الوثائق التاريخية الواردة عن تلك المرحلة أن عدّة آلاف من اللاجئين الفلسطينيين قد شرعوا في التدفق على الموانئ المصرية قادمين من مدن يافا وحيفا وعكا في مايو/ أيار 1948، ولم تسمح لهم الحكومة المصرية، آنذاك، بحرية دخول البلاد؛ بل جمعتهم في معسكر العباسية، ثم ما لبثت أن رحلتهم إلى معسكر القنطرة، إلى أن جرى أخيراً إعادتهم إلى مخيّمات غزّة.
وأقيمت مخيمات اللاجئين في غزّة، ثم تغيرت الخريطة السكانية لغزة ذات الثمانين ألف نسمة، لتصبح بين عشية وضحاها 230 ألفاً، لتصبح غزّة من أكثر مناطق العالم نمواً وتكدّساً بالسكان، وكذلك انخفاضاً للدخل ومستويات المعيشة وجودة الحياة، فالإغلاق والحواجز وفقر الموارد الطبيعية والممارسات الإسرائيلية القمعية تزيد من مصاعب الحياة اليومية، وتحطّم طموحات الناس وتطلعاتهم.
النكبة الثانية:
برغم كثافة الأحداث التي مرّت بالمسألة الفلسطينية، إلا أنه يمكن القول إن النكبة الثانية لغزّة، على الرغم أنها لم تنفصل عن نكبتها الأولى، تعود إلى تقلّد رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، رئاسة الحكومة الائتلافية بزعامة الليكود في مايو/ أيار 1996 حيث بدأ حكمه بإظهار سياسته الرافضة مبدأ الأرض مقابل السلام. وكان واضحاً أنه يريد تقويض ما توصل إليه الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين من اتفاقيات، بالإضافة إلى بروز نهجه الاستيطاني، والذي استأنفه في ديسمبر/ كانون الأول 1996. وشرع في فبراير/ شباط 1997 في بناء مستوطنة جبل أبو غنيم القريبة من القدس الشرقية، في إطار تهويد مدينة القدس، وبدون الاستجابة للمطالبات الدولية بتجميد الاستيطان، حتى إن جهوداً بذلتها وزيرة الخارجية الأميركية، مادلين أولبرايت، لحثّ نتنياهو على تجميد الاستيطان لم تفلح حينذاك، بل إن تقريراً أُممياً صدر ليشير بوضوح إلى أن استئناف الاستيطان في القدس الشرقية قد قلّص من الرؤى الإيجابية لدى عموم الفلسطينيين.
وعمل نتنياهو على التملص من أية التزامات تجاه الحقوق الفلسطينية، وتعطيله أية تفاهمات تتم برعاية أميركية مثل مذكّرة واي ريفر التي وقّعها في فبراير/ شباط 1998 برعاية الرئيس كلينتون، ورغم تقلد إيهود باراك رئاسة الوزراء، فإن الفشل تلو الفشل زاد من تراكم الغضب لدى الشعب الفلسطيني، ولم تفلح قمّة كامب ديفيد في يوليو/ تموز 2000 بإحراز تقدّم في عملية السلام؛ خصوصا في حل مسألتي القدس وحقّ اللاجئين بالعودة، وساهم في اشتغال الغضب الفلسطيني اقتحام زعيم المعارضة في حينه، أرئيل شارون، الحرم القدسي الشريف؛ فاندلعت الانتفاضة الفلسطينية الثانية، واستخدمت فيها إسرائيل ترسانتها المسلحة، وقصفت بالطائرات الحربية مواقع كثيرة في الضفة الغربية وقطاع غزّة، وزادت عمليات الاغتيال للنشطاء الفلسطينيين والردّ الفلسطيني بعمليات استشهادية، ولم تفلح قمّة طابا أواخر يناير 2001 في نزع فتيل الأزمة، بل كانت مسألة حقّ عودة اللاجئين القشّة التي قصمت ظهر البعير وفشلت القمّة على إثرها، أو كما قال ذلك تقرير صادر عن معهد راند عام 2014 “التوتّرات الناجمة عن تضييق الخناق المستمرّ من إسرائيل على الفلسطينيين، فقد بلغ السيل الزُبى واندلعت الانتفاضة الثانية”.
ولم تُثمر أية مجهودات سياسية في تغيير الأوضاع السياسية أو المساهمة في تخفيف معاناة الشعب الفلسطيني، خصوصا في قطاع غزّة، حيث اتضح حجم القوّة التي صارت المقاومة الفلسطينية تتمتّع بها هناك، ولم تفلح إسرائيل في تدميرها، أو تقليص قدراتها التي كانت تتصاعد بعد كل عملية عسكرية، وهو ما أوضحه معهد راند في 2014 عندما أكّد أن الجيش الإسرائيلي قد أساء تقدير قوة حركة حماس، رغم أنه جار ملاصق لها”. وزادت خطّة فك الارتباط التي أقرّها أرئيل شارون في 2005 من التصميم على عزل قطاع غزّة واستبعاد سكانه وإحكام حصاره، وذلك عقب عملية ” أيام الندم” التي أطلقها شارون شمال قطاع غزّة 17 يوماً أسفرت عن مقتل 14 جندياً إسرائيلياً مقابل 140 شهيداً فلسطينياً، وتحوّل بعدها قطاع غزّة إلى قاعدة للمقاومة الفلسطينية كلها. وجدير بالذكر أن نتنياهو عدّل خطّة فك الارتباط لتسمح بعودة المستوطنات الأربع إلى شمال الضفة الغربية استجابة للوزير اليميني المتطرّف بن غفير.
وعاد شارون بقوّاته بعد عشرة أشهر من فك الارتباط لتحرير جلعاد شاليط، ولم تفلح عملية أمطار الصيف، يونيو/ حزيران 2006، في الوصول إلى مكان احتجازه، ولم يطلق سراحه إلا عام 2011 بعد صفة تبادل ضمنت خروج 1027 أسيراً فلسطينياً، في مقدّمهم يحيى السنوار، مقابل شاليط.
واستمرّت السياسة الإسرائيلية في الاغتيالات، فبعد أن عزلت قطاع غزّة، عملت على استهداف نشطاء المقاومة عبر غارات جوّية، وهو ما حدث في غزّة 2008 عندما جرى استهداف ستة نشطاء من حركة حماس واغتيالهم، وتداعت الأحداث وشرعت إسرائيل في عملية عسكرية أطلقت عليها “الرصاص المسكوب”. وكانت وزيرة الخارجية الإسرائيلية آنذاك، تسيبي ليفني، قد صرّحت قبيل بدء العملية في 25 ديسمبر/ كانون الأول 2008 أن “إسرائيل لن تسمح باستمرار سيطرة (حماس) على غزّة وستغيّر الوضع”. وما زالت إسرائيل تطلق ذلك التصريح مع كل عمليةٍ عسكريةٍ على غزّة.
وكانت عملية الرصاص المسكوب العملية الدموية التي دمّرت آلاف المباني السكنية، وقتلت ما لا يقل عن 1200 شهيد، سقط منهم 250 شهيداً في أول يوم من أيام القصف الجوي، كما سقط 437 طفلاً من إجمالي الشهداء، علاوة على ارتكاب مجازر بحقّ المدنيين الفارّين إلى مقار “أونروا”، مثل حادث قصف مدرسة الفاخورة في 6 يناير/ كانون الثاني 2009 في مخيم جباليا شمال القطاع، حيث استشهد 41 مدنياً من المحتمين بالمدرسة، رغم تأكيد “أونروا”، آنذاك، أنها سلّمت إسرائيل إحداثيات المدارس التابعة لها لتجنّب قصفها، وهو الأمر الذي تكرّر في العدوان الإسرائيلي الحالي أكتوبر 2023 (السيوف الحديدية)، الذي لم يتورع عن قصف المدرسة مفسها، وسقوط ما يزيد عن الـمائتي شهيد من المحتمين بالمدرسة، على الرغم من إعلان “أونروا” والأمم المتحدة أنها أيضاً سلّمت إسرائيل إحداثياتها.
وانتهت عملية الرصاص المسكوب التي استغرقت 22 يوماً من دون القدرة على تحرير شاليط، أو تدمير حركة حماس والقضاء عليها، لتعود الحرب في 2012 والتي استهلتها إسرائيل باغتيال القيادي الأبرز في كتائب عز الدين القسام، أحمد الجعبري، ولم تنجح في تحقيق ما كانت تصبو إليه، رغم نجاحها في اغتيال عديدين من كوادر حركة حماس، إلا أن تلك الحرب قد أظهرت قدرات المقاومة بشكل مميز، عندما نجحت صواريخ المقاومة للمرة الأولى في الوصول إلى تل أبيب.
وتعد عملية الجرف الصامد، في يوليو/ تموز 2014، نموذجاً يمكن القياس عليه، إذ تألفت العملية، والتي استمرذت ما يقارب ال51 يوماً من مرحلتين: الأولى، كانت حملة جوية استغرقت ثمانية أيام تقريباً، حيث نفذت ما يزيد عن ستة آلاف غارة جوية، وكانت تقارير أممية قد دانت نتائج تلك الغارات وتأثيرها على المدنيين، إذ ذكر تقرير “أن إسرائيل لم تعدّل ممارستها للضربات الجوية، حتى بعد ما اتضحت آثارها الوخيمة على المدنيين، بما يثير التساؤل عما إذا كان هذا جزءاً من سياسة أوسع”.
كانت الثانية عملية برّية تقدّمت عدّة كيلومترات، حيث واجهت مقاومة شرسة، وبرغم الخسائر البشرية والمادية العالية، حيث استشهد 2250 فلسطينياً، وتضرّر 55 ألف منزل، من بينها 17 ألف منزل جرى تدميره كاملا، فإن الأخطر اضطرار أكثر من نصف مليون من سكان قطاع غزّة إلى النزوح إلى أماكن أكثر أماناً، حيث كانت تلك التجربة التي راهنت إسرائيل وعزمت عليها في عملية السيوف الحديدية أو طوفان الأقصى التي أطلقتها إسرائيل منذ 7 أكتوبر 2023 من أجل القضاء نهائياً على “حماس”، والأنفاق واستعادة الرهائن، وبما يتيح لها تنفيذ خططها في تسليم قطاع غزّة إلى سلطة جديدة تتيح لإسرائيل صلاحيات التحكّم والرقابة، غير أن أخطر ما في تلك العملية، بالإضافة إلى دمويّتها غير المسبوقة في الصراع العربي الإسرائيلي، حيث قُتل أكثر من 14,532 فلسطينياً في قطاع غزّة منذ يوم 7 أكتوبر؛ 74% منهم من النساء والأطفال، أنها عازمة على تصفية القضية الفلسطينية عبر زيادة الضغوط على سكّان القطاع لمغادرته إلى سيناء المصرية، إذ نزح ما يقرب من 1,7 مليون شخص (أو ما يقرب من 80% من السكان) في مختلف أنحاء قطاع غزة منذ 7 أكتوبر، يعيشون في ظروفٍ غير آدمية، واتجه مئات الآلاف منهم نحو الجنوب، حيث تطمح إسرائيل إلى تصدير المشكلة عبر الضغط المكثف وغير المحتمل على سكّان القطاع حتى تفرض واقعاً جديداً، وهو ما لا يبدو واقعياً أو ممكناً، خصوصاً مع إصرار الشعب الفلسطيني على تحرير أرضه، ورفض الحكومة المصرية القاطع؛ واعتباره خطّاً أحمر لا يمكن تجاوزه، فالحصار والاستبعاد وتهويد الأرض أساس الصراع. ويمكن للمراقب المحايد أن يبصر كيف أن أية حلول مؤقتة أو طرد للسكان لن تُجدي في تحقيق الاستقرار والأمن.
ولا تزال عقيدة الدولة الصهيونية تُظهر لنا صورتها الحقيقية، فهي ترفض التعايش أو مجرّد وجود السكّان الفلسطينيين، وهي تسعى جادّة إلى التخلص منهم، حتى تكون الأرض خالصة لها”، وهو الأمر الذي عبّر عنه بشكل مبكّر وزير الخارجية المصري، محمد صلاح الدين، عام 1950 بقوله عن مأساة اللاجئين الفلسطينيين: “بل هم اليوم بين أمرين كلاهما الهلاك المحقق: إن بقوا مشرّدين قتلهم الجوع والمرض والبرد، وإن عادوا أو أُعيدوا إلى ديارهم قتلتهم فظائع اليهود”.
* كاتب مصري
المصدر: العربي الجديد