في علم الفلك تقاس السنة بدوران الأرض حول الشمس، والتاريخ هنا بالنسبة لنا كسكان لهذه الأرض من الناحية الفلكية هو تتالي لهذه الدورات وتعاقب وتراكم للسنوات، فالكل يعرف متى سيحل العام الجديد والكل يعرف متى يبدأ قرن جديد والعمليات الحسابية الدقيقة وبأرقام كثير بعد الفاصلة هي سيدة الموقف، أما في علم السياسة فالتاريخ هنا لا يعّترف كثيراً بتلك الحركة الفلكية فهو يبدأ قرناً وينهي آخر ليس كما ترغب حركتا الأرض والشمس، وإنما تبعاً لمنعطفات الأحداث المفصلية.
فنهاية الحرب العالمية الثانية في أيلول/ سبتمبر 1945، كانت فرصة للمنتصرين لتأسيس نظام دولي على مقاسهم، وخاصة كبيري المنتصرين الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد السوفياتي حيث بدأ عصر العالم ثنائي القطبية فظهرت الأولى كقائدة للمعسكر الغربي في حين ظهر الثاني كقائد للمعسكر الشرقي آنذاك، وكانت أهم تجليات هذا العصر هي الحرب الباردة بين المعسكرين وترويج لأفكار الرأسمالية و“الديمقراطية” وحرية السوق من أحد الأطراف بالمقابل الترويج لأفكار الشيوعية والاشتراكية من قبل الطرف الآخر، وحروب بالوكالة بين الطرفين على أراضي الغير، لكن الأهم من هذا وذلك هو سباق تسلح غير مسبوق في التاريخ حيث تكدست من جرائه الكثير من الأسلحة النووية والأسلحة غير التقليدية لدى كل من المعسكرين مما خلق ذلك الاستقرار القلق في العالم كله.
لم يلبث هذا العصر طويلاً فسرعان ما انهار الاتحاد السوفياتي في 26 كانون الأول/ ديسمبر من العام 1991، منهياً بذلك نمراً من ورق مخيف من الخارج لكنه فارغ ومتعب من الداخل، وطوي عصر العالم ثنائي القطبية، الذي استمر ما يقارب 46 سنة.
بدأ بعدها عصر القطب الواحد والأوحد للعالم بقيادة الولايات المتحدة الامريكية، التي ملأت أساطيلها جهات العالم الأربع وبعد أن جادل البعض بأن قيم الديمقراطية ستعم العالم معلنة انتهاء الأنظمة الديكتاتورية والشمولية على اعتبار أن الولايات المتحدة هي “سيدة العالم الحر” وحامية حمى “الديمقراطية” لكن ما حصل أن هذه القوة المنفلتة من كل عقال أصبحت ليست شرطي العالم كما كان يحلو للبعض تسميتها تعبيراً أنها أصبحت تتدخل في كل صغيرة و كبيرة، بل أصبحت قاطع طريق يفرض الاتاوة على الجميع ويشن الحرب التي يريد في الوقت الذي يريد، وبدل أن تسود قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان سادت سياسة الكيل بمكيالين والنظرة الأحادية وساد المبدأ الذي عبر عنه جورج بوش الابن “من ليس معنا فهو ضدنا”.
و يبدو أن هذا العصر أو القرن الأمريكي لن يدوم لوقت طويل فربما دق “طوفان الأقصى” في 7 تشرين الاول/ أكتوبر المسمار الأول في نعش العالم الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، لا أَدَلَّ على ذلك من تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة حيث من أصل 193 دولة وقفت 10 دول فقط مع الولايات المتحدة الامريكية ضد قرار وقف إطلاق النار في غزة، إضافة للفيتو الامريكي الأخير في مجلس الأمن حيث كانت المعترض الوحيد على قرار وقف اطلاق النار، هذين التصويتين بداية أفهمت الشعوب الامريكية والاوربية أن الضرائب التي تُدفع من قبلهم تستخدم في جرائم حرب ضد الفلسطينيين، وأن قيم الحضارة الغربية وحقوق الإنسان هي ليست للجميع وبنفس القدر، فقيمة حياة الطفل الفلسطيني ليست متل قيمة طفل أبيض.
ومع اقتراب نهاية شهرها الثالث- وستدخل مطلع العام الجديد مرحلة استنزاف حادة مع احتمال تغير نمطها من خلال الاستنزاف المتوقع- لا زالت تأتي الصور غزيرة من غزة وكأنها واردة من سورية؛ أجسادٌ محطمة، دمارٌ كاسح، وانهيارٌ متفاقم للحياة المدنية، حتى أن بعض الصور السورية فعلاً نُسبت إلى غزة، بما في ذلك من قبل مساندي آل أسد، مع الفارق في كثافة إنتاج الموت والدمار بين سورية وغزة، فإن إسرائيل حققت بسلاح متفوق ودعم غربي، فاجر بلا حدود، ما احتاج إلى سنوات من الحكم الأسدي وحُماته، مع الفارق بالمساحة وقوة النيران ونوعيتها، لكن وصف المحصلة لا يختلف؛ استباحة للبشر بلا حدود، كأنما المُستباحون خارج العالم، فمن يدري ربما يكون السابع من تشرين الأول/ أكتوبر انعطافاً تاريخياً ليس للقوة والغطرسة الأمريكية والغربية وحسب بل وحتى للصراع العربي الإسرائيلي أيضاً، وربما ينهار نمر آخر من ورق.
لعل تداعيات “طوفان الأقصى” كشفت المخبوء وصحّحت الالتباس في المفاهيم وتأكدت لنا فطرة الإنسان السليمة؛ ولا سيما فطرة العدل، وخير دليل ما تشهده الولايات المتحدة الأميركية على صعيد جيل الشباب (الصغير) الجديد الذي يسمونه الجيل “Z” الذي يُعبّر معظمه عن الإنحياز لصالح القضية الفلسطينية، بفضل الإعلام البديل ووسائل التواصل، وكذلك في بريطانيا من خلال تقصي مفتوح عبر المشاركة في التظاهرات الداعمة لغزة، وأمام البيت الأبيض، جسّد مواطنون أميركيون المجازر التي ترتكبها إسرائيل بشكل تمثيلي ورفع المتظاهرون أعلام فلسطين منددين بوحشية وعنصرية الاحتلال؛ وهناك أيضاً اجتمع العديد من النشطاء السود للتنديد بالموقف الأميركي المساند لا بل الممول لإسرائيل في حربها ضد أهل غزة.
وصدّح صوت الناشطة والكاتبة السياسية الأميركية السوداء “أنجيلا ديفيس” أمام المتظاهرين بقولها “إن فلسطين هي الاختبار الأخلاقي للعالم”، وكانت سبقتها الشاعرة الراحلة “جون جوردان” وهي أيضاً من الأميركيين السود في التعبير عن موقفها حيال أهمية قضية فلسطين بالنسبة لحركات العدالة الاجتماعية، ما يشير إلى تاريخ من العلاقة التضامنية بين الأميركيين السود والقضية الفلسطينيّة.
قديما جعل “ابن خلدون” الترف السبب الأبرز في سقوط الدول، عن طريق النخبة الحاكمة التي ترفل في النعيم ناسية أو متناسية آلام شعوبها، فتستقوي عليهم بالقوة المسلحة كلما دعت الضرورة لإسكاتهم، وأكد أن الاستبداد والسقوط الأخلاقي و“الانفراد بالمجد” هو السبب الثاني الذي يؤدي للسقوط، مع أن بؤر التوتر الجيوسياسي التي يتسلمها عام 2024، من 2023، تُحدّد إلى حد بعيد شكل النظام العالمي القادم الذي لم يتشكل بعد.