الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

من يجرؤ على حضور حصّة الدرس السوري؟.. ردّ على “نيكولاوس فان دام” ودروسه التي رأى فيها أن على الثورة السورية تعلّمها قبل فترة طويلة


زياد عدوان *
في مقالة فان دام، بعنوان: “الدروس التي ينبغي تعلّمها من الثورة السورية والدروس التي كان يجب تعلّمها قبل فترة طويلة”، التي نشرها مركز حرمون للدراسات المعاصرة[1]، يتناول نيكولاوس فان دام المسألة الصعبة، ليشير إلى استنتاجات المأساة السورية ومعانيها. في غياب الحلول السياسية أو العسكرية أو القضائية أو المدنية، تكون الحاجة الملحّة للتوصّل إلى استنتاجات ومعان ومنهجيات أمرًا لا مفرّ منه، لأنه من الصعب قبول فكرة أنّ ما يحدث في سورية أمرٌ لا معنى له، أو الفشل في تقديم التوجيه والإرشاد بخصوص معالجة تحديات مماثلة.
وإضافة إلى ذلك، هناك جزءٌ رئيس من التحدي يتمثّل في إدراك فان دام للحساسيات التي قد تثيرها دروسه، وخاصة عندما تُوضَع في سياقها، من خلال خطابات ما بعد الكولونيالية (التي تُلقي باللوم على الغرب لنظرته إلى الشرق وفق تصوّر مسبق ثابت لصالح الغرب ومصلحته). وإن تسمية استنتاجاته “دروسًا” هي إعلان آخر محفوف بالمخاطر، يمكن أن يثير حساسيات ضد “الغربيين الذين يريدون أن يحاضِروا علينا”.
بداية، لا أنوي التعامل مع حساسيات الأجانب الذين يلقون محاضرات حول مأساة وطنية؛ لأن ما يحدث في سورية ليس أمرًا سوريًا بحتًا، ولا يقتصر على حدود البلاد، بل يمكن أن يدخل في سياق تحقيق عالميّ جاد. حيث إن عنف الدولة، والعقاب الجماعي، والسجناء السياسيين، والحجز القسري، واللاجئين، وسياسات الهوية، والدول الوليدة، والدول المتراجعة، وثورات الألفية الثالثة، والأخلاق العسكرية، وحرية التعبير، كلّها مواضيع متضمَّنة في سورية، لكنها ليست بالضرورة مواضيع سورية بحتة.
الدروس الرئيسة لفان دام هي توجيهٌ للسوريين بعدم الاحتجاج، وبناء حوار مع الأسد، لرفع العقوبات، والبدء في إعادة بناء البلاد. وأسباب هذا التنازل هي وحشية النظام والجماعات الطائفية المتحالفة مع النظام. ويدعو فان دام إلى العودة إلى اللجنة العربية، مستنتجًا أن الأسد قويّ، وأن إسقاط النظام صعبٌ أو بعيد المنال.
ولعلّ من المفارقة، على الصعيد الرمزي، أنّ الناس في السويداء -بعد أيّام قليلة من نشر دروس فان دام- بدؤوا سلسلة احتجاجات، حاملين شعارات ظهرت عام 2011. وعلى الرغم من أنهم يدركون وصف فان دام للنظام، فإنهم فعلوا الشيء نفسه: احتجّوا. فهل ستكون دروس فان دام للسويداء هي التخلّي عن مطالبهم؟ وهل هناك موضوع أكثر جدارة بالبحث والتقصّي من موضوع فهم سبب استمرار أهمية الاحتجاجات عند السوريين؟
على الرغم من أن دروس فان دام تنتهي بعبارة ملطفة: “السوريون أنفسهم هم من يتعيّن عليهم التوصّل إلى حل سياسي، لكن كثيرًا من الحلّ يعتمد على من هو الأقوى”؛ فإن فان دام لم يذكر اسم أي سوري يصلح لأن يكون مرجعًا في استنتاجاته. ما ذكره من الأصوات السورية هم السوريون الصامتون الذين لم يكن لديهم ما يقولونه عن الصراع، أما أولئك الذين اصطفوا إلى جانب النظام، وأولئك الذين احتجّوا، فلا يستحقّون الاهتمام.
أحد الأسئلة الرئيسة التي تثيرها هذه الدروس هو إلى مَن توجَّه؟ يبدو أنها موجّهة إلى السوريين المحتجين وإلى المجتمع الدولي، وأنها ليست موجّهة إلى نظام الأسد أو إيران أو روسيا، حيث يبدو أنهم يتقنون ما يفعلونه، ولذلك هم معفيون من حضور الدرس. ونقلًا عن الخبير في الموضوع السوري، ديفيد ليش، يؤكد فان دام أن الأسد لا يُحبّ أن يُقال له ما الذي عليه أن يفعله. وعلى الرغم من موافقة فان دام على هذا الفهم، فإنه يتخذ هذه الخطوة، مطالبًا النظام بما عليه فعله، على هذا النحو:
كان على النظام، إن كان يريد حلًا حقًّا، أن يبدأ تنفيذ قرار مجلس الأمن (2254) لعام 2015، من دون تأخير؛ وأن يسمح فورًا للوكالات الإنسانية بالوصول السريع والآمن دون أيّ عائق إلى جميع أنحاء سورية لمساعدة المحتاجين؛ والإفراج عن كل السجناء المحتجزين تعسفيًا؛ والوقف الفوري لأي هجمات على المدنيين والأهداف المدنية، ومن جملتها المرافق الطبية والعاملين في المجال الطبي؛ ووقف أي استخدام عشوائي للأسلحة، ومن ضمن ذلك القصف والقصف الجوي.
هذا الاقتباس هو الإشارة الوحيدة إلى ما يجب أن يفعله الأسد، في الورقة المكوّنة من أكثر من (6,000) كلمة. ومع ذلك، فإن الباقي يسرد ما يجب على العالم بأسره أن يفعله. وعلى الرغم من أن هذه المتطلبات/ الاشتراطات مختصرة ومذكورة عرَضًا، فإنها في الواقع ما دعا إليه السوريون الذين تعرّضوا لانتقاده. مع العلم أن النظام السوري لن ينظر في هذه الاشتراطات. وانطلاقًا من إدراك فان دام أن الأسد لا يحبّ أن يُقال له ما يجب فعله، يبدو أن بقية الدروس المكونة من (6,000) كلمة مفروضة على المهزومين. ووفقًا لـ فان دام، يجب أن يعيش السوريون تحت الاضطهاد والقمع، لسبب وحيد: أنّ الاضطهاد قد يزداد سوءًا. وفي هذا السياق، نتساءل: بما أن الأسد لا يحبّ أن يُقال له ماذا يفعل، فهل ينطبق هذا على العلاقات مع روسيا وإيران؟ وهل يجب على السوريين المهزومين أن يحبّوا ما يُطلب منهم فعله، وما يُطلب منهم فعله هو عدم الاحتجاج، لأنّ الأسد عنيف! وكأنه لا أحد يعرف هذه الملاحظة في سورية.
أين يحضر الدرس عن المعتقلين؟
تعدّ سورية من الدول التي تخضع لحالة الطوارئ، منذ مدة زمنية طويلة. وحالة الطوارئ هذه هي أمرٌ مفروغ منه، وأمرٌ واقع، في الحالة السورية. لم يؤثّر العيش تحت تهديد الشرطة السرية في قدرة السوريين على بناء حياة سياسية فحسب، بل أثرّ أيضًا في قدرتهم على التواصل. تصف سلوى إسماعيل في كتابها “حكم العنف: الذاتية، الذاكرة والحكومة في سورية”، نتائج فظائع النظام السوري وتأثيراته في المحاورات اليومية السورية، على النحو الآتي:
يمكن تصوّر أن التواصل الذي يستند إلى عدم الثقة يخلق أرضًا خصبة للمناقشات الكافكاوية؛ حيث تهيئ الشكوك ومختلف المستويات في التعبير والتلقي بنية التبادلات، ويمكن أن تُتوَّج باتهامات متبادلة. (إسماعيل 2018، ص 78).
إنّ العيش عقودًا طويلة تحت حالة الطوارئ هو تدمير منهجي للقدرة على بناء حوار، بل للحياة نفسها. وتؤكد ليزا ويدين، في مناقشتها للعروض والرموز والخطاب والعبادة في ظل الأنظمة الشمولية، أن إحدى وسائل التأثير الرئيسة كانت قدرة النظام السوري على “إجبار الناس على قول ما هو سخيف، والمجاهرة بالعبث/ الاعتراف بالتفاهة”. (ويدين 1999، ص 12). ولا يقتصر الأمر على السعي إلى فهم الشرعية القضائية، بل إنّ وضع البلاد في حالة استثناء، طوال عقود من الزمن، يعني أن على السكان رمي القانون جانبًا، والتعامل مع بعضهم في سياق سياسي، وليس تحت مظلة القانون. وينبغي على السوريين أيضًا أن يعيشوا في ظل حالة الضرورة التي لا قانون لها، أو على حد تعبير أغامبين: أن يعيشوا في حرب أهلية قانونية.
ومع أن فان دام لا يذكر المعتقلين سوى مرة واحدة، في الورقة الطويلة، فإنه يقترح أن العقوبات لا توصل إلى حلول سياسية، لأنها “بدلًا من أن تضرَّ بنخبة النظام السوري، تؤذي كثيرًا من السوريين الأبرياء الذين يعيشون تحت حكم النظام أكثر بكثير”، ولأن “العقوبات ضد النظام السوري التي من المفترض أن تُجبره على تغيير سلوكه، لم تحقق أي شيء إيجابي بعد، بل على العكس من ذلك”. هذه الملاحظات ملحّة للغاية، خاصة عندما لا يرغب أحد في إلحاق الضرر بالسوريين في أثناء محاولة مساعدتهم. ويتمثل خطر تحويل المناقشة إلى مجرد تفاوض على العقوبات في أنها تجعل قضية المعتقلين تدريجيًا غير مهمّة.
وجاءت أسباب العقوبات، كما ذُكِر، بطريقة تتوافق مع صور قيصر. سواء كانت هذه مؤامرة أخرى أو مصدر قلق حقيقي بخصوص المعتقلين، لا يمكن لأحد أن ينكر وجود اعتقالات عشوائية وعقوبات جماعية واحتجازات قسرية في سورية. في الواقع، كان الدافع الرئيس للاحتجاجات السورية عام 2011 هو السلوك التعسفي للشرطة السرية (المخابرات). وإضافة إلى ذلك، كانت إحدى الصيحات الرئيسة للاحتجاجات السورية: “الموت ولا المذلة”!
وبالتالي، بدلًا من تحويل مسار المناقشة إلى التشكيك في العقوبات، ينبغي ألا ننسى الأسباب التي صدرت عنها العقوبات؛ أي المعتقلين. وبينما نشعر بالقلق لحال السوريون ضحايا العقوبات، ينبغي إيجاد حلول أخرى لتحقيق العدالة للمعتقلين، وهم الضحايا الدائمون للاحتجاز القسري. وإنّ تجاهل المعتقلين هو تأكيد آخر على أن السوريين يجب أن يعيشوا في ظروف سياسية لا مكان فيها للقوانين.
في كتابه الثورة المستحيلة (2017)، يحاول ياسين الحاج صالح القيام بتلك المهمة نفسها، متسائلًا كيف يمكن للحلول والعدالة أن تتوافق، وكيف يتوق السوريون إلى تصورات عن الحيرة والارتباك الذين مرّوا بهما. وبحسب الحاج صالح، “إذا كانت البنية المصاحبة للعقل/ المنطق معطلة، أو انقلبت على الناس واستُخدِمت لتسلبهم القدرة على فهم وضعهم؛ فإنهم يميلون إلى استخدام أدوات قديمة وغير مناسبة: “اللاعقل/ اللامنطق” (الحاج صالح 2017، ص 183).
عندما فتحت أوروبا الحدود أمام السوريين، طلبوا من اللاجئين استخدام جميع الوسائل المتاحة التي توفرها السوق السوداء للوصول إلى أوروبا -وهو نهج يزيد من انفصال السوريين عن المعاملة القانونية. وبدلًا من بذل جهد إضافي في السفارات الأوروبية في الشرق الأوسط، لزيادة عدد الموظفين ومعاملة الضحايا باحترام بما يتعلّق بالتأشيرة والسفر الآمن، طُلب منهم مرة أخرى قبول جميع أنواع الظروف غير العقلانية ليبقوا على قيد الحياة.
يتّهم فان دام المعارضة بأن تفكيرها رغبوي يقوم على “التمني”، ويتّهم أولئك الذين يُطلقون على أنفسهم “أصدقاء”، بتفضيلهم “الصورة غير الواقعية التي تتغلب فيها الأفكار الصحيحة والمحقة عن العدالة، على الحقائق على الأرض”. لكن السؤال الذي لا يزال قائمًا: هل كانت دروسه تستند حقًا إلى الوقائع على الأرض؟ وهل يمكن قراءتها على أنها تمنيات أخرى أيضًا؟
مركز الفساد وموزعه:
مع تجاهل التجربة السورية الفريدة، في ظلّ حالة الطوارئ ومسألة المعتقلين، يبدو أن الشواغل الرئيسة لـ فان دام تتمركز حول الحرب، وضحايا الحرب (على وجه التحديد)، والأموال التي أنفِقت على هذه الحرب، واللاجئين. ويبدو أن هذه الموضوعات هي التي تؤثر في ما يكمن خلف الحدود السورية، وتؤثر في المجتمع الدولي. ولم يذكر فان دام، ولا التصريحات الرسمية الدبلوماسية، أنّ ما يُميز دور الأسد ويرفع من كفاءة المعارضة هو موضوع الابتزاز والفساد.
يتمثّل جزء كبير من أسباب بقاء الأسد في السلطة في قدرته على زعزعة استقرار البلدان الأخرى، سواء من خلال الميليشيات التي يدعمها النظام السوري أو التهديد الأحدث: تهريب المخدرات وتصنيع الكبتاغون. من المدهش أنّ فان دام لم يذكر هذا العامل، عندما استنتج كيف بقي الأسد في السلطة، على الرغم من أن سورية أصبحت واحدة من أكبر منتجي هذا المخدر في العالم. هذه الأسباب غير المعلنة للتصالح مع النظام هي أيضًا الأسباب التي تنطوي على كيفية تأثير سورية في ما يقع خارج حدودها، في الدول العربية وفي أوروبا أيضًا. وبينما لا يتحدث الدبلوماسيون عن ذلك علنًا، قد يتساءل المرء عن سبب إخفاء هذا في مقاربة أكاديمية!
السؤال الرئيس الذي طرح في أثناء متابعة دروس فان دام هو: لماذا قرر إنهاء دروسه في عام 2023؟ ما الذي يجعل هذا العام مختلفًا عن غيره؟ هل عام 2023 هو الموعد النهائي للتغيير السياسي في سورية؟ لقد علّمنا التاريخ أن الاحتجاجات والثورات تختلف في تحقيق أهدافها الفورية أو العمليات طويلة الأمد، وهو تطوّر يؤكد تعقيد التغييرات الاجتماعية والسياسية وتنوّعها وتقييمها. السبب الرئيس لإعطاء هذا الدرس في عام 2023 هو أن “الدول العربية التي حاولت عبثًا المساعدة في إطاحة النظام السوري، لأكثر من عقد من الزمان، تعيد الآن إقامة العلاقات الدبلوماسية مع دمشق”.
ما الذي يجعل هذه الخطوة مهمّة لدرجة أنها تستحقّ أن تعامَل كخطوة للتنبّؤ بالمستقبل؟ في الواقع، توقّفت عملية كتابتي بسبب كثير من الأحداث التي حوّلت الانتباه وانتقلت إلى استنتاجات مختلفة، من التظاهرات في السويداء إلى التوتّر على الحدود السورية الأردنية بسبب الكبتاغون، وزيادة وتيرة القصف داخل سورية، والعلاقة العربية المترددة مع سورية وغزة. لقد غيّرت هذه الأحداث كثيرًا من الاستنتاجات حول سورية، وسيكون لها آثار مستديمة على مستقبل البلاد. ولذلك فإن انتظار علامة واحدة لاستخلاص النتائج، أو تحديد إطار زمني محدد للحكم على التغييرات السياسية والاجتماعية، هو مقاربة اختزالية لسردية مستمرة تميز ما يحدث في سورية والاهتمام الدولي بالبلاد.
أصبحت سورية، التي كانت دائمًا دولة غامضة، مركزًا للفساد الدولي؛ فمعرفة النظام السوري لا تقف عند التهديد بالمخدرات فحسب، بل لديه أيضًا سيطرة فريدة على قضايا حساسة، مثل المجاهدين الذين قاتلوا في العراق، والمخدّرات في لبنان وطرق تهريبها الدولية، والنفايات النووية، والعلاقات الطيبة والقوية بالميليشيات غير الرسمية، والاغتيالات السياسية.
في عام 2005، انقلب عبد الحليم خدام، الذي كان نائب الرئيس آنذاك، على بشار الأسد، وهرب من سورية. أعادت وسائل الإعلام الحكومية ومجلس الشعب السوري فتح ملف كانت مناقشته ممنوعة في سورية، وهو عملية التخلّص من النفايات النووية في الثمانينيات. اتّهِم خدام باستيراد نفايات نووية من “الخارج” لدفنها في سورية. وسواء فعل خدام ذلك أم لا، فإنّ التصريحات أكدّت الشائعات التي اعتاد السوريون التحدث عنها في محادثاتهم الداخلية مذعورين. ومع ذلك، كان خدام هو المسؤول الوحيد عن كارثة أثرّت في صحة السوريين. لكن هل كان خدام وحده في هذه المهمّة؟ وإلى ماذا يشير هذا “الخارج”؟ من المؤكد أن مثل هذه العملية ستشمل كثيرًا من الكيانات الدولية، وأنّ ملاحقة قيادات هذه العملية الفاسدة ستشمل كثيرًا من الأطراف، من ضمنها البلدان الأوروبية. وسينطبق هذا على كثير من الحالات التي تشمل الدول الغربية المشاركة في الفساد السوري.
ومن ثمَّ، فإن السؤال الذي لم يُجَب عنه، بخصوص البديل عن بشار الأسد، يُثبت صحته عندما نعيد صياغته، باللهجة المتذمرة نفسها: ومن سيكون مسؤولًا عن هذه الملفات الحرجة للمجاهدين وتهريب المخدرات والنفايات النووية، وغيرها من ملفات الفساد الدولي التي ربّما لا نعرف شيئًا عن بعضها بعد.
تتمثل الحلول الرئيسة التي يقدّمها فان دام للمعضلة السورية، في إقامة حوار مع الأسد، ورفع العقوبات، وتوفير الأموال لإعادة إعمار البلاد. فضلًا عن تعقيد بناء محادثة مثمرة، ما هو مصير الأموال التي ستُرسَل لإعادة بناء سورية؟ هناك تعليقات عديدة على ما يُسمى بأكاذيب النظام، مصدرها ليس من جهة السوريين فحسب، بل من جهة القادة الدوليين والعرب أيضًا، من ضمنهم الروس، عندما اشتكت صحافتهم من خداعه عام 2020. من يضمن أن الأموال الممنوحة لإعادة إعمار سورية لا تتأثر بالفساد السوري سيئ السمعة؟ لقد تعلّمَ السوريون -على مدى عقود- أنّ الأموال التي تُرسَل لمساعدتهم قد تختفي من دون معرفة من استفاد من المساعدات الدولية. وسواء كانت المساعدات من أجل كارثة طبيعية، مثل زلزال 2023، أو من أجل كارثة من صنع الإنسان، مثل الحرب، لا يعرف السوريون عن المساعدات سوى سماعهم بها.
سوريا الأسد:
مثل بشار الأسد، يذكر فان دام أنّ سورية مختلفة عن مصر وتونس وليبيا. ومن الصّعب جدًا فهم المقصود بهذا التصريح. حتى الأسباب التي قدّمها فان دام، مثل التضامن القوي بين العلويين، وخبرة النظام الطويلة في قمع أي اعتراض أو معارضة، لا تُحدد كيفية اختلاف سورية، حيث إنّ النظم الأخرى قوية بالنسبة إلى رعاياها، وحكّامها أيضًا متحالفون مع الجماعات الطائفية والقبلية والقوى الدولية، فضلًا عن خبرتهم الطويلة في القمع والإبادة.
سورية ليست دولة غريبة، وما يحدث في سورية ليس بالضرورة أن يكون سوريًّا بطبيعته. وردود الفعل على عنف الدولة ليست بالضرورة سوريةً أيضًا. وسورية ليست الدولة الوحيدة التي لديها نماذج مختلفة من المعارضة والمتمرّدين والمقاتلين من أجل الحرية، ومن الإرهابيين والانتهازيين المتلاعبين والثوار. هذه المجموعات موجودة في جميع الأوقات، وفي كثير من البلدان. وليست سورية أوّلَ بلدٍ يشهد اضطرابات متتالية.
ما هو نوعيّ في سورية ربّما يكون أن بشار الأسد ليس مبارك أو القذافي أو صدام حسين. إن ما جعل سورية مختلفة عن الدول القومية الأخرى هو وجود بشار الأسد وحافظ الأسد؛ إذ لم يُضَف اسم العراق وليبيا ومصر إلى اسم رؤسائها، كما هو الحال في سورية التي أصبحت تعرف باسم “سوريا الأسد”. وعندما لم يكن أمام السوريين خيار سوى قبول هذا التعريف/ التماهي، تعامل المجتمع الدولي أيضًا مع سورية والسوريين على أنهم “سوريا الأسد”.
حتى بعد عام 2011، ارتبطت سورية بمصير بشار الأسد. أستذكر كثيرًا من التقارير التي أوضحت كيف أن سورية مختلفة، عندما تحوّل الاهتمام بالاضطرابات في البلاد إلى الأسد، ومراقبة المدة التي يمكن أن يظل فيها في السلطة. تابعت الأخبار المصريين المتمرّدين وميدان التحرير، بدلًا من احتساب مدى استمرارية نظام مبارك وتحمله، وكان هذا هو الحال عند تغطية الحركات في آسيا الوسطى وغرب أفريقيا وأوروبا الشرقية وأميركا الجنوبية، بالإضافة إلى حركات التحرير الوطني. وأذكر أنه منذ عام 2011، اعتادت عدة وكالات أنباء (عربية ودولية) اختتام تقاريرها عن سورية، بعبارات مثل “وهذه الاحتجاجات هي التحدي الأصعب الذي لم يواجه بشار الأسد مثله على الإطلاق”. حتى لو لم يذكر التقرير أو الأخبار صراحة بشار الأسد، كان هذا التصريح -في كثير من الأحيان- هو الختامي. حافظ الاهتمام الدولي بسورية على ذلك الروتين المتمثل في التركيز على بشار الأسد، كما كان الحال قبل عام 2011، عندما كان أكثر الشخصيات تحدثًا في سورية.
كذلك سُلِّط الضوء على مركزية بشار الأسد في النقاش الساخر الشهير؛ ومن سيحلّ محلّ بشار الأسد؟! وهو امتحان لم يكن على معظم الحركات العالمية الثائرة أن تمرّ به. إنّ طرح هذا السؤال يجعل بشار الأسد عاملًا رئيسًا في المأساة بأكملها التي تحدث في سورية، ومن ثم افتُرض أن السردية السورية هي قصة بشار الأسد.
ما جعل بشار الأسد مختلفًا هو صفة ورثها عن والده، الذي بدوره ربّما ورثها عن جمال عبد الناصر، في أثناء حركة عدم الانحياز في حقبة الحرب الباردة. امتلكت سلالة الأسد هذه الخاصية المتمثلة في قدرتها على التواصل مع القوى العالمية، باستخدام اللغات المشتركة معهم. وهكذا، تمكّنوا من التواصل مع الدول الاشتراكية والشركات الإمبريالية والسنّة والشيعة والمسيحيين والعرب وتركيا والصين والميليشيات غير الرسمية، بتلك الحميمية. لم يمتلك هذه الصفة بشكل مماثل لا الدكتاتوريون العرب الآخرون الذين أطيحوا خلال الربيع العربي، ولا المعارضون السوريون أيضًا.
في حين كان بإمكان الأسد التواصل مع كثير من القوى الدولية، لم يُسمَح للسوريين بالتواصل مع الجماعات الخارجية، بل لم يُسمح لهم بالتواصل بين بعضهم البعض. وأصرّت المعارضة، من جانبها، على تجنّب هذه الصفة لأسباب تراوح بين المبادئ والنفاق. وبالتالي، فإن أولئك الذين نسّقوا مع المملكة العربية السعودية لم يتمكّنوا من التواصل مع النخب الأوروبية، والعكس صحيح. كما رفضت المعارضة التواصل مع القوى المؤثرة، مثل إيران وروسيا والصين، معتقدة أن وجهة النظر هذه (عدم التواصل) هي قيمة بحد ذاتها. وكذلك فعل فان دام إذ انضمّ إلى هذا الطلب، طالبًا من المعارضة ألا تثق بالمجتمع الدولي، وألا تتواصل معه.
إن اختزال سورية في رواية بشار الأسد هو تبسيط مفرط آخر، غالبًا ما يتبنّاه الأكاديميون الغربيون في سعيهم لتحقيق أهداف عقلانية. ظلّ صبحي الحديدي ينتقد هذا التبسيط الغربي، الذي يميل إلى أن يُقدَّم مع معانٍ مبطنة إنسانية وعقلانية. حيث يشير حديدي إلى مقدّمة تشومسكي لكتاب ريس إرليش: سورية من الداخل: خلفية حربهم الأهلية وما يمكن أن يتوقّعه العالم (2014). وعلى الرغم من أن الكتاب يقدّم تفاصيل وحقائق مستفيضة عن سورية، فإن تشومسكي يبسط أوصاف إرليش الشاملة للحياة السورية، ويحوّلها إلى مجرد صراع بين السنّة والشيعة. في هذه المقاربة الاختزالية، يرى تشومسكي أنه يكفي وصف تصرفات الأسد بأنها رد فعل شرير[2].
أدّت هذه المركزية إلى انقسام منهجي بين السوريين، ومن ثّم إلى تغذية الخوف المتبادل بينهم، وأدى ذلك إلى تصاعد التوتر والحرب الأهلية الباردة. يُذكّرنا ياسين الحاج صالح، في كتابه الثورة المستحيلة، أن هذه البنية انفجرت مرتين خلال ثلاثة عقود، لأنه لا يمكن إلا أن ينتج عنها انفجارات متتالية، كونها تقوم على عزلة الشعب وتكثيف انعدام الثقة والخوف فيما بينهم، وكذلك الحيازة المركزية للموارد السورية من قبل قلّة من المستفيدين (الحاج صالح 2017، ص 252).
العلم بأحوال سورية/ معرفة سورية (سوريا- لوجي Syria-ology):
منذ عام 2011، كان الأكاديميون والصحفيون والسوريون على حد سواء، في حيرة من أمرهم وهم يحاولون وصف ما يحدث في البلاد، باستخدام مجموعة من المصطلحات، مثل الحرب والثورة والحرب الأهلية والحرب بالوكالة والمقاومة المسلّحة والحرب على الإرهاب والاحتجاجات والانتفاضة والتمرّد والاضطرابات والصراع والتآمر وغير ذلك. ويمتد هذا الارتباك بالتسميات إلى ما هو أبعد من السوريين، إذ يصل إلى الدبلوماسيين والأكاديميين الدوليين. وعلى الرغم من الدراسات والمبادرات العديدة المتعلقة بحلّ الصراعات، فإن المأساة السورية الممتدة منذ اثني عشر عامًا، وكذلك القضية الفلسطينية المستمرة، لا تقاوم الحلول فحسب، بل تستعصي على التصنيف الواضح. الغريب أن الدراسات الأكاديمية الغربية متيقنة من سياسات الهوية، وماهرة في تصنيف الهويات الجنسية وألوان البشرة، ومع ذلك يبدو أنها تائهة عند صياغة كلمات جديدة لوصف القضايا الاجتماعية والسياسية الحرجة.
يشير فان دام إلى أن التدخلات الغربية ربّما فاقمت القضايا، مشددًا على صعوبة خلق العدالة مقارنة بالواقع. والسؤال المطروح: هل خطاب المؤسسات الغربية المتردد حول سورية ينبع من التعقيدات الفريدة لسورية، أم أنه تحدٍ تواصلي أوسع في معالجة القضايا العالمية الحرجة؟

يثير التواصل المتلعثم بخصوص سورية أسئلة أوسع حول المقاربات الغربية للقضايا الحرجة، مثل المشكلة الكردية والفلسطينية. ويعكس عدم الوضوح في وصف المأساة السورية المناقشات الكافكاوية داخل البلاد، التي تخلق نمطًا من عدم اليقين وانعدام الثقة. إذا اعترفنا بأن سورية لا تشبه أي دولة أخرى، فلماذا لا تؤسس الأوساط الأكاديمية قسمًا أو فرعًا معرفيًا جديدًا يسمى (العلم بأحوال سورية Syriology)، على سبيل المثال؟ وإذا اتفقنا على أن الأحداث في سورية ليست بالضرورة فريدة من نوعها لسورية -من حيث الحرب وعنف الدولة والشعبوية وحالة الطوارئ وإعطاء الأولوية للحلول على العدالة- فكيف يمكن للأحداث والأسئلة الناجمة عن سورية أن تُسهم في فهمنا للقضايا التي قد يجلبها هذا القرن، مثل أخلاقيات الحرب، وشرعية الدول، وضرورة الدول، والثورة، والرأي العام، ومرة أخرى، حالات الطوارئ؟
على الصعيد العالمي، يبدو أن نظام التعليم متخلّف عن الركب، ويتصارع مع تحديات التكيّف مع عالمنا سريع التغير. تشهد المدارس، في أوروبا والعالم أجمع، تحوّلًا إلى بعض المؤسسات الأكثر تحفظًا التي تذكّرنا بالجيش والمؤسسات الدينية. وعلى الرغم من المحاولات الجارية لإدخال نماذج تربوية وتعليمية جديدة في المدارس، فإن الهدف هو إنشاء مجالات متعددة التخصصات، يمكن أن تعالج على نحو أفضل تعقيدات القضايا المعاصرة. إن الدعوة إلى الامتناع عن اعتماد منهجية وحيدة لفهم سورية هي دعوة لتبني مقاربة متعددة التخصصات لمعالجة الأسئلة التي لم يُجب عنها. ومما لا شك فيه أن إجابة واحدة غير كافية لفهم سورية، وكذلك حال قضايا مثل فلسطين وإسرائيل، والربيع العربي، و# MeToo، أو حركة السترات الصفراء. هذه الدعوة لا تتعلّق بالفهم فحسب، بل تتعلق أيضًا بالاستعداد للأحداث المقبلة التي يمكن أن تتكشف في أي وقت، وفي أي مكان.
لا تهدف هذه المناقشة إلى انتقاد المحاضرات الغربية، إنما تسعى إلى فتح حوارات حول القضايا التي تم تجاهلها/ إغفالها. ولا أفترض أن لديَّ حلولًا، ولا أعرف ما الذي يمكن عمله: الواقع أو العدالة. ألا يزال بشار الأسد هو الحل الأكثر أمانًا لسورية، أم أن سورية ستغيّر خرائطها، أم ستصبح محمية سياسية دولية؟ كيف يمكننا أن نحصر الكبتاغون وحق الشعب في تقرير المصير في فئة واحدة؟ لا توجد إجابة تدّعي السلامة. ويبقى السؤال: هل نحتاج إلى فهم كيف حدثت الوقائع، أم أننا بحاجة إلى فهم الحقائق غير العقلانية، ومحاولة التكيّف مع انفجار تلو الآخر؟
…………..
المراجع:
-Agamben, Giorgio. State of Exception. Tr: Kevin Attell. Chicago and London: the university of Chicago press. 2005.
-Erlich, Reese Inside Syria: The Backstory of Their Civil War and What the World Can Expect. New York: Prometheus Books. 2014.
-Haj Saleh, Yasin. The Impossible Revolution. Chicago, Illinois: Haymarket Books. 2017.
-Ismail, Salwa. The Rule of Violence: Subjectivity, Memory and Government in Syria. Cambridge: Cambridge University Press. 2018.
-Wedeen, Lisa, The Ambiguities of Domination. Chicago: The University of Chicago Press. 1999.
…………..
هوامش:
[1] – https://www.harmoon.org/?p=34870
[2] – https://tinyurl.com/5n6mu2fd
……………….
تحميل الموضوع
ــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: مركز حرمون

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.