خالد بريش *
كثيرة هي المقالات التي تنشر على صفحات الصحف، وتنتقد رَكاكة الأسلوب والأخطاء اللغوية والإملائية في اللغة العربية على الشبكة العنكبوتية، ووسائل التواصل الاجتماعي، التي هي في غالبيتها تستنكر ذلك دون أن تطرح السؤال الجوهري حول الأسباب التي أدت إلى هذه الفوضى اللغوية، وهذا الهبوط في المستوى اللغوي لدى هذا الجيل. وهو الأمر الذي ليس خاصا ببلد عربي بعينه، بل هو شامل مع بعض الخصوصية لكل بلد من بلداننا، إن كان من حيث الأسلوب والأخطاء الإملائية، أو من حيث إدخال وإدماج الألفاظ والتعابير غير العربية والعامية في الكتابة.. في الواقع، إن هذه المشاكل اللغوية، وهذا الهبوط في المستوى لدى الجيل الحالي، لم يولد من فراغ، وليس مُفاجئا في الوقت نفسه، لكل من كان يراقب العملية التعليمية والتربوية في بلادنا، التي تعرضت منذ عُقود من قبل لجان يقال عنها «متخصصة» إلى هندسات في المناهج التعليمية، فتم حذف نصوص بحجة أنها قديمة، ولا تلائم العصر، وأدخلوا بدلا منها نصوصا جديدة، لا تقدم للطالب ذخيرة أدبية، ولا تزيد من رصيده اللغوي.
وللأسف تمَّ ذلك دون دراسات واختبارات لغوية تُجْرى على الطلاب أنفسهم مسبقا، في المراحل التعليمية المختلفة، وتقوم بدراسة مهاراتهم وحاجاتهم اللغوية، وتقبلهم للصيغ الأدبية، والمفردات التي سوف يدخلونها في المقررات، والتي يجب أن تراعي التكوين العقلي، ومستوى التفكير لدى الطالب، على اختلاف مراحل وسنوات عمره. هندسات في المناهج فُرضت بلا أسس نظرية، ولم تتم إعادة تقييم لها بعد مدة مُحددة، وإعداد دراسات حول تأديتها للدور، والأهداف التي وضعت من أجلها، ومن ثم القيام بعملية تقويم لها، بناء على المعطيات التي نتجت عن الدراسات التقييمية. ففي كل مرة، كان يتم تطوير المناهج وتغييرها، يكلف بذلك أساتذة يُدرسون العربية ومُفتشون، لكن غير متخصصين بإعداد المناهج التعليمية، والدراسات التي تسبقها، ولا تلك التي تليها. وأحيانا يقوم بها أساتذة متخصصون، درسوا في الغرب، ويحملون أعلى الشهادات، لكنهم في الواقع منفصلون عن العملية التربوية والتعليمية في بلادنا، وغالبا ما يكون عملهم وهدفهم تقليد الغرب.. ما أدى في نهاية المطاف، إلى مناهج ضعيفة البناء من حيث المحتوى اللغوي، ذات أهداف تربوية ومعرفية غير واضحة المعالم، أو هزيلة، مما قصقص جوانح لغتنا الجميلة في مراحل العملية التعليمية المختلفة، وتحجيم أسسها وقواعدها، ودورها في حياة الطلاب أنفسهم، فأصبحت باسم الحداثة والتحديث والتطوير، هشة ومُهَلهلة، إن لم يكن قد تم القضاء عليها، وغدت لا تشبه العربية التي نريدها لهذا الجيل…
إن ما يحدث على الشبكات العنكبوتية ووسائل التواصل الاجتماعي من كوارث لغوية، هو ثمار لما تم غرسه في أجيالنا عبر المناهج التربوية، وخلال العملية التعليمية منذ سنوات وسنوات. وهؤلاء الذين يرتكبون الأخطاء اللغوية والإملائية على وسائل التواصل الاجتماعي اليوم، أو في حياتهم العملية، لم يأتوا من عالم الفضاء، بل هم أبناء تلك المناهج التي تدرس في مدارسنا، وهم تلاميذ أولئك المعلمين الذين يقومون بالعملية التعليمية، ويتضجرون من مستوى اللغة العربية! ما يعني أن هناك مشكلة عويصة، وكارثة لغوية نعيش فصولها، وتتطور بسرعة نحو الأسوأ، والكل يعرف ذلك.. فهل تم يا ترى تشخيصها ودراستها جيدا، ووضع الحلول لها، أو طرح الأسئلة حول الأسباب والمسببات، وفي ما لو كانت هذه الأزمة الكارثية تكمن في المناهج ومقررات اللغة العربية؟ أم هي في إعداد المدرسين المتخصصين في اللغة العربية؟ أم هي في الطلاب؟ وإن كانت في الطلاب، فكيف تخطوا امتحاناتهم إذن؟
الغالبية بيننا يُعْفون أنفسهم من الأسئلة حول هذا الموضوع، لأنه ليست لديهم إجابات واضحة، ولأن أي إجابة قد تكون فيها إدانة للنظام التعليمي في بلادنا برمته، وهو ما لا يرغبون فيه مطلقا، وبالتالي يُريحون ضمائرهم بأن يكتفوا بإلصاق ذلك بالعصر وبهذا الجيل مرددين: «هذا عصر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي» بينما كلنا مسؤولون في مكان ما بخصوص هذه المعضلة.. وفي الواقع علينا أن ندرك أنه لا توجد حلول سحرية لهذه المعضلة، لأن السحر قد انقضى زمانه وأوانه، بل إن الحلول تكمن في اتباع السبل والأسس العلمية، التي لا تخفى على المتخصصين في مجال مناهج تدريس اللغة العربية وإعداد مقرراتها. والتي نذكر منها للتذكير فقط:
ـ إعادة تقييم المناهج والمقررات بأسرع وقت، وإلا لاتسع الخرق على الراقع؛
ـ وضع كتب مبسطة في الإملاء لكافة المراحل التعليمية؛
ـ زيادة عدد ساعات الإملاء في الفصول الابتدائية، على أن تكون النصوص من خارج المقررات المدرسية، وتقدم للطالب جديدا على المستوى اللغوي، يكتشف الطالب من خلالها نصوصا أدبية جديدة؛
ـ دفع الطلاب وفي مختلف المراحل التعليمية إلى القراءة والمطالعة. إن الدول الغربية التي نحاول تقليدها في وضع المناهج الحديثة، يشجعون الطالب على القراءة من مرحلة الفصول الابتدائية، حيث توجد كتب لكل عمر ومرحلة تعليمية، ويتم تشجيع الطالب على التعبير اللغوي، وإبداء الرأي.. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: لماذا نقلد الغرب في النواحي الهامشية، ونترك تقليده في المفيد؟
ـ الطلب من المدرسين الابتعاد قدر الإمكان عن استخدام العامية، وكل ما هو ليس بعربي من ألفاظ، خلال القيام بالعملية التعليمية، لأن الطالب في حالة استقبال لكل ما يرسله المدرس، والذي هو في الوقت نفسه قدوته ومثاله الأعلى؛
ـ وضع حد لسلوك المدارس الخاصة، لكونها تركز على اللغات الأجنبية، وتتساهل بخصوص اللغة العربية، لأنها ليست لغة العلوم التطبيقية، فيتم التغاضي، وغض النظر عن مستوى طلابهم في اللغة العربية، وهنا مكمن المصيبة والطامة الكبرى.
وختاما، علينا أن نعي أن الموضوع ليس مجرد أخطاء إملائية ونحوية، إنما هو أكبر من ذلك، ويخفي وراءه مشكلة أهم وأخطر، تتلخص في أزمة ثقافة حادة، وانتماء إلى هذه اللغة.. وأنه آن الأوان لكي ينكب المتخصصون في إعداد المناهج التعليمية في مجال اللغة العربية، وأعضاء مراكز تعليم اللغة العربية، وكل القيمين على المجامع اللغوية على دراسة هذه المعضلة وهذا الداء، الذي بدأ يستفحل، ويأخذ أبعادا سوف يكون من الصعب إدراكها مستقبلا، إن لم نتنبه لذلك اليوم وليس غدا.. وأن تتم دراسة الأخطاء اللغوية والإملائية على الشبكات العنكبوتية، ووسائل التواصل الاجتماعي، ووضع دراسات جادة حول طرق تلافيها لتقويم ذلك، عوض مقالات النقد الدائمة الحضور، والمتكررة شكلا ومضمونا على صفحات الصحف، وعبر وسائل الإعلام المختلفة. وأمل يحدوني أن لا تصبح لغتنا كأندلسنا الذي نبكي عليه منذ قرون!
* كاتب لبناني
المصدر: القدس العربي