حسين عبد العزيز *
“هي مكانٌ غامض، موحشة وجميلة في الوقت ذاته، بسبب التناقضات الهائلة فيها، لم تعرف أرضُها هدوءا تاريخيّا قط، كثرة الغُزاة وكثرة الأعراق والقوميات والأديان والمذاهب واللغات، جعلت منها مكانا مختلفا عن باقي العالم، ومكانا يأمل العلماء والمؤرّخون والأدباء معرفته عن قرب”. … هذا ما كتبه عالم النفس الفرنسي غوستاف لوبون عن الهند في مقدّمة كتابه “حضارات الهند”.
يمكن تلمّس تناقضاتها هذه على صعيد سياستها الخارجية، سواء في علاقتها بين الشرق والغرب بشكل عام، أو على صعيد موقفها من القضية الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي بشكل خاص، وهو موضوع هذه المطالعة.
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ومع موجة التحرّر الوطني العالمية، اتّجهت أنظار العالم إلى الهند أكثر من غيرها، لا باعتبارها إحدى أكبر الدول من حيث عدد السكان، ولا لأنها درّة التاج البريطاني فقط، بل لأن طريق نضالها نحو التحرّر كان فريدا على مستوى العالم في ظلّ زعامة موهانداس كرمشاند غاندي (المهاتما غاندي 1869ـ 1948)، فيلسوف اللاعنف (الساتياراها)، ثم تحت زعامة جواهر لال نهرو (1889ـ 1964) في مرحلة ما بعد الاستقلال.
كتب غاندي، في عام 1938، مقالة في صحيفة “الهاريجان” الهندية، أكّد فيها أن فلسطين للفلسطينيين مثلما إنكلترا للإنكليز وفرنسا للفرنسيين، وأن ما يحاول اليهود فرضه في فلسطين لا يمكن تسويغه بأي قانون أخلاقي، وتحويل أرض العرب الأباة الذين تمتلئ بهم فلسطين، إلى اليهود، كليا أو جزئيا، على أنها وطنهم القومي، إنما هو جريمة ضد الإنسانية. وقد شكّل موقف غاندي الأساس الثابت لموقف الهند من الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين على مدار العقود التالية، وهو الموقف الذي حافظ عليه نهرو. وكان الاختبار الرسمي الأول على المستوى الدولي، حين صوّتت الهند عام 1947 ضد تقسيم فلسطين في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وقال مندوبها آنذاك إن بلاده تعارض إنشاء دولة على أسس دينية، في إشارة إلى مشروع تأسيس دولة إسرائيل اليهودية المطروح للتصويت.
وبسبب تحوّل الاحتلال الإسرائيلي إلى أمرٍ واقعٍ معترفٍ به دوليا (اعترفت الهند بإسرائيل عام 1950)، قدّم جواهر لال نهرو مقترحا يقضي بحلّ مشكلة فلسطين على أساس دولة واحدة لكل مواطنيها بمختلف أديانهم، مع الاستمرار بدعم القضية الفلسطينية، وهو ما تمثل في الاعتراف بمنظمّة التحرير الفلسطينية ممثلا وحيدا وشرعيا للشعب الفلسطيني عام 1974، والتصويت عام 1975 مع قرار الأمم المتحدة باعتبار الصهيونية من أشكال العنصرية، والاعتراف بدولة فلسطين عام 1988.
وعلى الرغم من الضغوط الغربية والصهيونية الهائلة على الهند منذ المهاتما غاندي وفي مرحلة نهرو، ظل الموقف الهندي من فلسطين راسخا لثلاثة أسباب رئيسية: الأول، أخلاقي، نابع من رؤية غاندي ـ نهرو إلى القضية الفلسطينية باعتبارها قضية شعب احتلت أرضه غصبا، وإلى الصهيونية باعتبارها حركة استيلابية عنصرية. الثاني، سياسي، مرتبط بوجود الهند وإسرائيل في طرفي نقيض على المستوى العالمي، وخصوصا في مسألتي التحرر الوطني والانقسام بين الغرب الرأسمالي والشرق الشيوعي. الثالث، محلي، متعلق بوجود مسلمين في الهند يشكل عددهم نحو خُمس السكّان، ومن شأن الموقف الرسمي الداعم لفلسطين أن يطمئن المسلمين في الهند ويجعلهم يثقون بحكومة الاستقلال بزعامة حزب المؤتمر.
بالنسبة للمسألة الأولى، كان طبيعيّا أن تقف الهند ضد إسرائيل باعتبار الأخيرة كيانا احتلاليا. وبالنسبة للثانية، رفضت الهند أن تكون تابعا لأحد المعسكرين، وهو ما دفعها مع دول أخرى مثل مصر (جمال عبد الناصر) ويوغسلافيا (تيتو) إلى تشكيل حركة عدم الانحياز، الاسم الذي اختاره وزير الدفاع الهندي آنذاك، فينجاليل كريشنا مينون. أما بالنسبة للمسألة الثالثة، فالأمر لا يتعلق بالاستغلال الانتخابي كما في حالة أنديرا غاندي إلى حدّ ما، بل يتعلق الأمر بتجسيد موقف سياسي يعكس رغبة السكان ومواقفهم كما في حالتي غاندي ـ نهرو.
بعد وفاة نهرو:
استمرّ الموقف الهندي من فلسطين بعد وفاة نهرو عام 1964 وتسلم ابنته أنديرا غاندي (1917ـ 1984) رئاسة الوزراء، حيث حافظت على خطّ إرث غاندي- نهرو في دعم القضية الفلسطينية ورفض التطبيع مع إسرائيل.
ومع بدء ظهور أصوات داخل الهند تطالب بالانفتاح على إسرائيل، نجحت أنديرا غاندي والجناح اليساري من حزب المؤتمر في كتم هذه الأصوات، مستفيدةً من تطورين: الأول، حرب 1967 التي نظرت إليها الهند أنها توسيع للاحتلال القائم بما يخالف الشرعة الدولية. والثاني، متعلق بانتصار الهند على باكستان في الحرب التي جرت عام 1971 (حرب تحرير بنغلادش).
وقد شكّل اغتيال أنديرا غاندي عام 1984 ما يمكن تسميتها نهاية مرحلة حزب المؤتمر الذي قاد الهند نحو الاستقلال وحكمها حتى مطلع تسعينيات القرن الماضي. في هذه المرحلة، بدأت تظهر أيديولوجية قومية هندوسية (هندوتفا) تسعى إلى إقامة ما يعرف بـ “الهند راشتر”، أي نظام سياسي تسيطر عليه الهندوسية، ووضع سلطة الدولة في أيدي الأغلبية. ولتحقيق هذا الهدف، كان لا بد من التقارب مع الولايات المتحدة وإسرائيل حتى لا يتم الضغط على الهند إثر انقلابها على إرث العلمانية والتسامح الديني الذي وسم تاريخ حزب المؤتمر. ومثل هذه الأيديولوجية حزب بهارتيا جاناتا (BJP) الذي حصل على مقعدين في الانتخابات البرلمانية عام 1984، والمرتبة الثانية في انتخابات 1991، وعلى قمّة الائتلاف الحاكم بحلول 1998.
وإذا كانت مسألة السيطرة الهندوسية قد ارتبطت فقط بحزب بهاراتيا جاناتا، فإن تراجع الاتحاد السوفييتي وانتصار المشروع الرأسمالي من جهة، وحاجة الهند إلى تطوير قدراتها العسكرية في مواجهة الصين وباكستان بعد تراجع الاتحاد السوفييتي من جهة أخرى، كانت سببا لدى “بهاراتيا جاناتا” وحزب المؤتمر للتوجه نحو الولايات المتحدة… لم تأت الخطوة الأولى باتجاه الانفتاح على إسرائيل من حزب “بهاراتيا جاناتا”، وإنما من حزب “المؤتمر” مع راجيف غاندي (1944ـ 1991) ابن أنديرا غاندي، عندما قرّر لقاء نظيره الإسرائيلي، في سابقةٍ من نوعها، على هامش مؤتمر الاجتماع السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة.
لم تتبادل الهند السفارات مع إسرائيل إلا في العام 1992، أي بعد 14 عاما من سلام مصر وإسرائيل، ولم تتخذ الهند ذلك القرار إلا في أعقاب مؤتمر مدريد للسلام عندما اقتربت إسرائيل ومنظمة التحرير من التوقيع على اتفاقية أوسلو في العام 1993. وخلال الأربعة عشر عاما بين 1984 ـ 1998، ظلت العلاقة الهندية ـ الإسرائيلية تتطوّر ببطء شديد إلى أن حدثت ثلاثة تحوّلات مهمة: الأول، وصول حزب بهاراتيا جاناتا إلى السلطة عام 1998 عبر فوز كاسح على حزب المؤتمر. والثاني، ارتبط بفرض الولايات المتحدة حظرا مؤقتا على التعاون العسكري مع الهند بسبب تجاربها النووية العسكرية الذي خرقت بموجبه اتفاقية حظر انتشار السلاح النووي. وارتبط التحول الثالث بالحاجة الهندية الملحّة لتطوير تقنياتها العسكرية بعد أن أظهرت الحرب مع باكستان عام 1999 عيوبا في قدراتها العسكرية، مقارنة بباكستان التي حصلت على دعم أميركي وصيني، كلّ لأسبابه.
نارندرا مودي في السلطة:
بدأ التقارب الهندي ـ الإسرائيلي يتصاعد منذ تلك الفترة مع محافظة الهند على دعمها حقّ الشعب الفلسطيني وضرورة إقامة سلام عادل، إلى أن وصل نارندرا مودي إلى السلطة عام 2014، وهو الذي يعتبر أحد أهم الأعمدة في القومية الهندوسية التي تكنّ كرها شديدا للإسلام والمسلمين. ولم تكن فترة حكمه ولاية غوجارات، بين عامي 2001 ـ 2014، عابرة، فقد شكّلت الأساس لسردية هندوسية قديمة ـ جديدة عن تاريخ الهند وهويّتها، وسردية جديدة للتعامل مع قضايا الإسلام في الداخل والخارج على السواء. في فترة ولايته تلك، أطلق مودي عملية التقارب مع إسرائيل من البوابة الزراعية والاقتصادية، وقد ساعده ذلك برفع المستوى الاقتصادي للولاية، ما جعله يحظى بدعم شعبي هندوسي، بسبب رؤيته الهندوسية إلى هوية الهند، وبسبب تحسّن الوضع الاقتصادي للولاية في فترة حكمه.
وإذا كانت فترة ولايته لغوجارات تمثل العداء الشديد للإسلام وبداية الانفتاح نحو إسرائيل، فإن وصوله إلى رئاسة الحكومة الهندية عام 2014 نقل العلاقة بين الجانبين إلى مستوىً أكثر تطوّرا، وكان تعيينه سوشما سواراج، رئيسة المجموعة البرلمانية للصداقة الهندية الإسرائيلية سابقا، وزيرة للخارجية، مؤشّرا واضحا على السياسة الجديدة للهند من فلسطين وإسرائيل.
وفي خطوة كانت الأولى من نوعها، زار وزير الداخلية راجنات سينغ أواخر عام 2014 إسرائيل في سابقة من نوعها تعاكس التقليد الدبلوماسي الهندي بعدم زيارة إسرائيل من دون زيارة السلطة الفلسطينية. وفي 2015، زار رئيس الهند ذو المنصب الشرفي برناب موخرجي إسرائيل، ثم تبعه مودي بعد عامين في 2017 بزيارة رسمية إلى إسرائيل، قبل أن يبادله إياها رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو في العام التالي.
ولم تتخلّ الهند مع مودي عن موقفها الداعم للقضية الفلسطينية رغم التقارب مع إسرائيل، فقد ظلت تدعم إعطاء الشعب الفلسطيني حقه في تقرير المصير. ولا يرتبط تفسير ذلك بقناعة حزب بهاراتيا جاناتا بالحقوق الفلسطينية، وإنما يعود ذلك إلى أمرين: الأول، أن الهند لا تريد الانقلاب على الشرعة الدولية المتمثلة بالقرارات الدولية بشأن فلسطين منذ قرار الأمم المتحدة رقم 181 عام 1947 الخاص بتقسيم فلسطين وما تلاها من قرارات دولية (242، 338)، وخصوصا أنها كانت من الدول التي دعمت هذه القرارات على مدار العقود السابقة. والثاني، براغماتي متعلق بالعلاقة مع الدول الإسلامية والعربية، خصوصا دول الخليج العربي التي ترغب الهند بشدّة في المحافظة على علاقة اقتصادية متينة معها، ليس بسبب التبادل التجاري بين الجانبين، ولا بسبب العمالة الهندية الكبيرة في دول الخليج فحسب، بل أيضا بسبب الممرّ الاقتصادي الذي أُعلن عنه في 9 سبتمبر/ أيلول الماضي على هامش قمة مجموعة العشرين، أي مشروع الممر الاقتصادي بين الهند والخليج وأوروبا، والذي يفترض أن يمتد من الهند إلى الإمارات، ثم السعودية والأردن وإسرائيل، قبل أن يصل إلى أوروبا.
ويمكن إضافة سبب ثالث يتعلق بعدم رغبة صنّاع القرار في نيودلهي الظهور بأنهم أعداء للإسلام، سيما في الداخل مع تدهور العلاقة بين الدولة ومسلمي الهند منذ وصول حزب بهاراتيا جاناتا إلى الحكم، حيث ازداد وضع المسلمين سوءا: إهمال الصوت الانتخابي المسلم، إهمال مناطق المسلمين من حيث دعم البنى التحتية، توسّع حملات ملاحقة المسلمين واعتقالهم تحت عنوان “مكافحة الإرهاب”، ازدياد البؤس الاجتماعي والسياسي في كشمير الهندية التي يقطنها مسلمون. لكن مودي أخذ يدفع بالعلاقة مع إسرائيل إلى أبعاد استراتيجية، خصوصا بعد فوزه بولاية ثانية عام 2019، مستغلا انفتاح الإمارات والبحرين نحو إسرائيل والصمت السعودي.
أيديولوجيّتان متشابهتان:
كشفت عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر حقيقة الموقف الهندي، فبعد ساعات قليلة من شنّ حركة حماس ذلك الهجوم على إسرائيل، كان رئيس وزراء الهند من أوائل زعماء العالم الذين دانوا في بيان شديد اللهجة الهجوم ووصفه بأنه إرهابي. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل تعدّاه إلى موقف بدأ غريبا ليس عن تاريخ الهند السياسي فقط، بل أيضا بالنسبة لقضية فلسطين، فقد رفضت الهند في 27 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي دعم قرار الأمم المتحدة بشأن هدنة إنسانية في غزّة، واختارت الامتناع عن التصويت.
لا يمكن ربط الموقف الهندي من إسرائيل والقضية الفلسطينية باعتبارات السياسة والاقتصاد فحسب، بل أيضا بالاعتبارات الدينية ـ الأيديولوجية، فالأخيرة تعتبر محورا رئيسا في الرؤية الهندية مع حزب بهاراتيا جاناتا. فلدى كلٍّ منهما، الهند وإسرائيل، سردية تاريخية ومستقبلية لهويتهما، وهما بذلك يندرجان ضمن رؤية كولونيالية لها موقف من طبيعة الدولة وطابعها الديمقراطي، والعلاقة بين الكثرة والقلة والعلمانية.
تعتبر “هندوتفا” أن الهند تلوثت وحادت عن تاريخها، أولا، بفعل الاختراق الإسلامي لبلادٍ ظلت هويتها تاريخيا محكومة بالثنائية البوذية ثم الهندوسية، وثانيا بفعل السياسة العلمانية لحزب المؤتمر الذي وضع الهويات الدينية على قدم المساواة أمام القانون، ما أضعف الهوية التاريخية للهند. ومن هنا، تتشابه استراتيجية “بهاراتيا جاناتا” مع الأيديولوجية الصهيونية في استرجاع الماضي البعيد بنقاوته الهوياتية، وتخليصه من الشوائب التي أصابته عبر عمليات إقصائية للهويات الأخرى المُهددة. وعليه، لا يختلف قانون المواطنة الذي أقرّته حكومة مودي عام 2019 عن “يهودية الدولة” الذي تبنّته الحكومات الإسرائيلية، ففي الحالة الثانية دولة إسرائيل يهودية بحكم تعريفها، لا بحكم أن أكثريتها يهودية، فمسألة الكثرة والقلة السكانية متغيّرة مع الزمن، في حين أن تعريف الدولة باليهودية غير متغيّر. وفي الحالة الهندية، أعطى قانون المواطنة الحقّ لكل شخص غير هندي في البلدان المجاورة للهند بأخذ الجنسية الهندية بناء على خلفيته الدينية (هندوسية)، وهذا فعلٌ يعيد تعريف الهوية الهندية بلغة هندوسية تشابه كثيرا يهودية الدولة.
وعلى الرغم من وجود بقايا يسار هندي وأصوات ليبرالية تحذّر من مخاطر السياسة الهندية على علاقة الهند بالعرب والمسلمين في الخارج، وعلاقة الهندوس بالمسلمين في الداخل، إلا أن مرحلة العودة إلى زمن غاندي ـ نهرو قد انتهت نهائيا، كما جرى في كل أنحاء العالم، بما فيه العالم العربي ذاته: من لاءات الخرطوم عام 1967 إلى الصمت والعجز العربيين مع الحرب الجارية على قطاع غزّة.
* كاتب وإعلامي سوري
المصدر: العربي الجديد