(الحرية أولاً) ينشر حصرياً الكتاب المفقود «في الفكر السياسي» بجزئيه، للمفكرين “الأربعة الكبار”، وهذه الحلقة الثالثة والعشرون من الجزء الأول– (15). خالد بكداش ۱۹۳۹: أمة سورية ناشئة؛ بقلم الأستاذ “الياس مرقص”
(15). خالد بكداش ۱۹۳۹: أمة سورية ناشئة
ألقى موریس توریز خطابه في مدينة الجزائر بتاريخ ۱۱ شباط ۱۹۳۹.
وفي دمشق في أواسط نبسان ۱۹۳۹، فرغَ خالد بكداش من وضع دراسة بعنوان «العرب وأبحاث ستالين في المسألة الوطنية»، وهي مقدمة الكتاب «طريق الاستقلال» (ص 5- 24)(19).
مقدمة « طريق الاستقلال»
وإليكم ما ورد في هذه المقدمة:
«… أذكر أنني مرة كنت مع بعض الشباب العرب في دمشق نبحث في تعريف القومية العربية. فاقترح أحدهم التعريف التالي: « القومية العربية هي مظهر الشعور الشامل للشعب القاطن في البلاد العربية المرتبطة بجامعة اللغة والتاريخ والثقافة والبيئة الجغرافية والآلام والأماني». فاحتج احد الحاضرين على كلمة البيئة قائلاً بأن وضعها يُخرج من التعريف سكان أفريقيا الشمالية الذين يفصلهم وضعهم الجغرافي فصلاً تاماً عن سكان الشرق العربي. ثم اقترح آخر حذف كلمة التاريخ أيضاً إذ أن ذلك يخلق بعض المشاكل لأن للعراق مثلاً تاريخاً يختلف عن تاريخ سوريا أو مصر… وكان لهما ما أرادا. ومن الواضح أن التعريف المقترح القائل بأن القومية العربية هي مظهر الشعور الشامل هو تعريف باطل من أساسه ولا يدل على شيء. ولكن الكثير من الحاضرين لم يعلقوا عليه أهمية كبرى وكانوا يريدون الانتهاء منه كيفما كان الأمر حتى ينتقلوا إلى البحث الأساسي حول الأهداف العملية للحركة القومية العربية أي حركة التضامن بين العرب على اختلاف أقطارهم.
وقد أوردنا هذا المثال ليرى القارئ بأن أكثر ساستنا وكتابنا لايزالون بعيدين كل البعد عن بحث قضايانا الوطنية على ضوء العلم، ويعتقدون بأن إجماعهم على حذف كلمة الوضع الجغرافي من التعريف يؤدي فعلاً إلى إلغاء الوضع الجغرافي في تطور الأمم وتكوينها، ولا يلاحظون بأنهم في اعتقادهم هذا أشبه بالنعامة تخفي رأسها حتى لا ترى العدو وتظن بأن العدو لا يراها مادامت هي لا تراه… فالوضع الجغرافي الذي يفصل بين سورية والجزائر أو بين العراق ومصر سيظل فاصلاً بينها، وهو قد أثر ويؤثر على تطور كلا القطرين وعلى ثقافة كل منها وحياته الاقتصادية وعقليته وبنيانه النفسي، سواء وضعوا كلمة الوضع الجغرافي في التعريف أم لم يضعوها. ولم يلحظ كذلك صاحبا الاقتراحين المذكورين أن اللغة المشتركة ووحدة الآمال والأماني، اللتين أرادا بقاءهما وحدهما في التعريف، لو كانتا كافيتين لتأليف الأمة، لأصبح الإنكليز وأميركيو الشمال أمة واحدة، بالرغم من المحيط الأطلنطيقي الواسع الذي يفصل بينها، إذ أن كلا الشعبين يتكلمان اللغة الإنكليزية ولها ( أي الشعبين لا الحكومتين ) آمال وأماني واحدة هي بلوغ حياة تؤمن لهما السلام والحرية والخبز. ومن هنا يتبين بوضوح أن ما قاله ستالين في تعريف الأمة وتحديد العلائم التي تميزها ذو أهمية كبرى لتنوير أذهان العرب حول القضايا التي يجابهونها تبعاً لخصائصهم القومية التي تكونت وتتكون في كل قطر من أقطارهم…» (طريق الاستقلال ص 6- 8).
يمكننا أن نوجز مضمون هذا الكلام على النحو التالي:
أولاً– الأرض المشتركة غير متوفرة عند العرب بتاتاً. «فالوضع الجغرافي في سورية والجزائر» و«بين العراق ومصر»، وسيظل فاصلاً بينهما. وهو قد أثر ويؤثر على تطور كلا القطرين الخ الخ ..». وهذا أمر بديهي يتفق عليه الجميع وحتى غلاة القومية العربية الذين تجاهلوا الوضع الجغرافي تمسّكاً منهم بفكرة القومية العربية. إلا أن سلوكهم هذا كسلوك النعامة التي تُخفي رأسها متجاهلة الواقع .
ثانياً– التاريخ المشترك غير متوفر بين الأقطار العربية، «للعراق تاريخ يختلف عن تاريخ سوريا أو مصر». وهذا أيضاً أمر بديهي أدركه حتى غلاة القوميين العرب فحذفوا من التعريف المقترح كلمة «التاريخ».
ثالثاً– كذلك الأمر بالنسبة للتكوين النفسي، خاصة بسبب الفاصل الجغرافي الذي يلعب دوراً حاسماً في الماضي وفي المستقبل. أما وحدة الآمال والأماني فهي تجمع الانكليز وأميرکيي الشمال، لأن كلا الشعبين يطمح إلى «بلوغ حياة تؤمن له السلام والحرية والخبز»؛ وعلى هذا الأساس يكون جميع شعوب العالم آمال وأمانٍ مشتركة !!
إن وضع العرب كوضع الانكليز، وأميرکيي الشمال: شعوب مختلفة (رغم اللغة المشتركة) لها خصائص قومية مختلفة «تكونت وتتكوّن في كل قطر من أقطارهم»…
والحال، إن هذا التكوّن لم يكتمل بعد. والشعب السوري ليس أمة تامّة المعالم. إنما السوريون يسيرون في طريق التكوّن كأمة، في ظل «التحالف» السوري- الفرنسي وبفضل المعاهدة السورية- الفرنسية لعام 1936.
يقول خالد بكداش: «فأمتنا لاتزال في طريق التطور والتكوّن، أي في طريق استتمام العلائم التي تميز الأمة ويتوقف مستقبل هذا التطور والشكل الذي سينتهي إليه على عدة عوامل خارجية وداخلية. وقد رأينا في المعاهدة السورية- الفرنسية خطوة إلى الأمام من ناحية سيرنا في طريق التطور القومي أيضاً، لأنها، إذا تنفّذت، تقيم دولة متمركزة تضعف نفوذ الاقطاعية الرجعية، في مختلف المناطق وتؤدي إلى تلاحم أجزاء الوطن وتقوية العلاقات الاقتصادية والثقافية فيما بينها، أي تسهل إتمام وحدة الوطن وتكامل الأمة» (المرجع نفسه، ص14).
إذاً، لا توجد أمة عربية. بل ولا أمة سورية متكوّنة. وإنما أمة سورية في طور استكمال مقوماتها. ومن شأن المعاهدة السورية- الفرنسية أن تساعدها على استكمال مقوماتها.
ولكن ثمة أكثر من ذلك. نرجو القارئ أن يتلو النص المذكور قبلاً مرة ثانية.
يقول بكداش إن «مستقبل هذا التطور والشكل الذي سينتهي إليه «يتوقف» على عدة عوامل. وهو يرى بالطبع في معاهدة 1936عاملاً رئيسياً. فهل يتصور بكداش احتمال نشوء عدة أمم في سورية? وهل يعتقد أن نشوء أمة سورية واحدة يتوقف على تنفيذ المعاهدة? وإنه، إذا لم تنفّذ، فإن الامة السورية- التي هي ليست في حالة وجود بل في حالة «إمكانية وجود»، على حد التعبير الستاليني والمنطق البكداشي- سوف تتفتّت إلى أمم دمشقية وحلبية وعلوية ودرزية..؟
إن تأييد خالد بكداش لمعاهدة 1936ليس تأييداً تكتيكياً، بل هو تأييد مبدئي عقائدي يرتكز على «نظرية» محددة.
واذا تذكرنا أن فرنسا كانت قد سلخت لواء الإسكندرون وسلمته إلى تركيا، يمكننا أن نحكم على مدى الانحراف. ولكن ما قيمة لواء الإسكندرون إزاء المهام التاريخية الكبرى: «تلاحم أجزاء الوطن» و«تقوية العلاقات الاقتصادية فيما بينها»؟!. وما دُمنا قد خسرنا الإسكندرون، فلنعمل على تلاحم ما تبقى من أجزاء الوطن، بفضل فرنسا والمعاهدة !!
هكذا نقل خالد بكداش نظرية موریس توريز عن الجزائر بحذافيرها. فرفع بونسو والكونت دي مارتيل إلى مصاف بسمارك وغاریبالدي. ووضع أكاليل الغار على جباه فرسان الأمة السورية.
و هكذا كان بكداش أول من عمّم التعليم التوريزي على العرب والبلاد العربية، نافياً وجود الأمة العربية، ومؤكداً استحالة وجودها(20).
ثلاث دعوات الى التعاون:
ويختتم خالد بكداش مقدمته بالدعوة ثلاث مرات «للتحالف»(!) مع فرنسا، فيقول:
«ولكن المسألة لا تقتصر على الاتحاد مع حركة العمال والحركة الشعبية في الغرب. فقد تقضي مصلحة النضال الاستقلالي بالسعي للتحالف مع إحدى الدول القوية.. إن مصلحتنا الوطنية تقضي علينا بأن نوطّد عرى التحالف مع إحدى الدول الديمقراطية الكبرى، وهذه الدولة لا يمكن أن تكون بالنسبة إلينا، نحن السوريين واللبنانيين، إلا فرنسا الديمقراطية.
لذلك يضع الشيوعيون في سوريا ولبنان، وجميع الوطنيين الواعين، مسألة التحالف السوري اللبناني الفرنسي في مقدمة المطالب الوطنية التي تناضل بلادنا في سبيلها. ويرون أن أحسن وسيلة لتحقيق هذا التحالف في عقد معاهدة مع الديمقراطية الفرنسية، تسمح لبلادنا بتقوية نفسها، وربط أجزائها، وتثبيت كيانها الوطني، وتكون المعاهدة سداً منيعاً امام مطامع الوحش الفاشستي في الشرق الأدنى.
.. لذلك أصبح شعار التحالف بين سوريا ولبنان وفرنسا الديمقراطية، في الوضع الدولي الحاضر، في مقدمة الشعارات الوطنية الثورية التي يناضل في سبيلها السوريون واللبنانيون» (ص۲۱، ص۲۳).
لا حاجة للتعليق. نلاحظ فقط أن فرنسا الديمقراطية هذه كانت قد سلّمت تشيكوسلوفاكيا إلى « الوحش الفاشستي»، قبل أشهر (معاهدة ميونخ أيلول 1938)، وأن الجِزَم الهتلرية كانت تضرب شوارع براغ قبل صدور كتاب خالد بكداش بأسابيع قليلة(21).
أما قول ستالين في عام 1925 أن الحركة القومية هي بالدرجة الأولى حركة الجماهير الكادحة وخاصة جماهير الفلاحين. فلم يسمع به خالد بكداش.
وبقى الحزب الشيوعي السوري ذيلاً للبرجوازية والكتلة الوطنية، يقف على يمينها. وبدلاً من أن يعمل على تعبئة الجماهير وقيادة النضال الشعبي، سعى إلى وقف كل نضال باعتباره «تخريباً».
حتى أن البرنامج، الذي أقره مؤتمر الحزب في 2 كانون الثاني 1944، جاء خالياً من أي ذكر للإصلاح الزراعي أي للثورة الديمقراطية، بَلْهَ الثورة الاشتراكية.
وكان ذلك من الأسباب الأساسية التي أدّت إلى بقاء الحركة الوطنية في سورية تحت قيادة الطبقة البرجوازية، مما أدّى إلى ضعف هذه الحركة وانقسامها وتذبذبها.
ولو أن الأمر اقتصر على ذلك كله، لهانت المصيبة.. ولا يمكننا في إطار هذه الدراسة القصيرة، أن نستعرض كل مواقف الأحزاب الشيوعية- الستالينية. ويكفي أن نذكر بعضاً منها، على أن نعود إلى هذا الموضوع مفصلاً في بحثٍ آخر.
لقد ساند الحزب الشيوعي السوري- اللبناني سياسة الاستعمار الفرنسي في المغرب العربي، وأيّد بقاء بريطانيا في فلسطين ومشروع هربرت صامويل في إقامة دولة سورية الكبرى، كما أيّد نظام الحكم القائم في المملكة السعودية وتسرب شركات النفط الأميركية إلى جزيرة العرب، ووافق على اغتصاب لواء الإسكندرون (۱۹۳۷- ۱۹۳۹).
واتخذ الحزب الشيوعي الفرنسي موقفاً مخزياً من مجزرة أيار 1945 في الجزائر ، ودعا إلى اعتقال الزعماء الوطنيين الجزائريين، بينما اتخذ الحزب الشيوعي السوري موقفاً متخاذلاً من العدوان الفرنسي على سورية وفي قضية الجلاء.
وبعد الجلاء، تعاون الحزب الشيوعي السوري مع عملاء الاستعمار الفرنسي في سورية، وسكت عن النفوذ الفرنسي، وقلّل من خطورة مشروع تقسم فلسطين تمهيداً للموافقة عليه.
أما الموقف النظري من الأمة العربية والقومية العربية فلم يتبدّل بشكل أساسي حتى عام 1955.
أجل لم يقل خالد بكداش، بعد الجلاء، صراحة وكتابة، بنظرية الأمة السورية ولم ينكر، صراحة وكتابة، وحدة العرب القومية، كما فعل في عهد الانتداب الفرنسي.
إلا أنه لم يقل طيلة المرحلة الممتدة حتى شهر تشرين الأول 1955، ما يخالف هذه التعاليم، ولم يستعمل ولو مرة واحدة تعبير «الأمة العربية»، حتى في مرحلة ما بعد الجلاء (1946- 1955).
………………
الهوامش:
(19) يجمع كتاب «طريق الاستقلال» أربعة أبحاث مترجمة لستالين في المسألة الوطنية وبحثاً لموريس توريز. وقد سعى بكداش أن يختار من مؤلفات ستالين ما يتفق مع السياسة التي يسير عليها والتي يُفصح عنها في مقدمته. ومع ذلك فإنه ثمة انقطاعاً بين الأبحاث الستالينية والمقدمة البكداشية.
(20) يتساءل الإنسان كيف كان خالد بكداش يُنكر الأمة العربية، ويؤمن بالقومية الكردية، مخالفاً نظرية ستالين التي تشترط توفر رابطة اللغة ورابطة الاقتصاد!
هذا السؤال مطروح أيضاً على أحزاب وهيئات القوميين الأكراد، التي تؤمن جميعاً بنظرية ستالين.
(21) اكتفينا هنا بنقد ما قاله خالد بكداش عن القومية العربية وعن سورية. ولم نعلق على ما ورد في مقدمته حول المسألة الوطنية بشكل عام.
إن قول بكداش «قبل نشوء الأمم، أي قبل نشوء الرأسمالية واندثار الاقطاعية، لم يكن هناك اضطهاد قومي، إذ لم يكن هناك أمم وقوميات»، وقوله «ما دام هنالك نظام رأسمالي يكون هنالك أيضاً اضطهاد قومي، ولا يمكن القضاء على هذا الاضطهاد القومي إلا بالقضاء على الرأسمالية وبناء النظام الاشتراكي» ( ص۱۱، ص۱۳) آراء خاطئة من الوجهة النظرية، وهي تتعارض مع تعاليم ماركس ولينين. أما من الوجهة العملية فهي تؤول إلى التقليل من شأن المسألة الوطنية في بلد يناضل ضد الاستعمار.
إن هذه الآراء تكشف لنا ما تنطوي عليه نظرية ستالين من بذور انحرافية، تبلغ مداها الأقصى عندما تصل إلى يد خالد بكداش وأقرانه، كما أنها تفضح انعدام الفهم الديالكتيكي للواقع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يتبع.. الحلقة الرابعة والعشرون بعنوان: (16). خالد بكداش 1955: أمة عربية كاملة؛ بقلم الأستاذ “الياس مرقص”
يرجى المتابعة في هذا الحقل..
فانني من الذين يعتقدون باهمية اعادة الالق الى المفهوم القومي والعمل بموجبه للدفع نحو بناء قوة امتنا ومجابهة تحديات الاستعمار الحديث وخاصة بعد العري الذي اصاب هذا الاستعمار…بعد ثورات الربيع العربي…واحداث غزة…البطلة