الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

الخصوصية الأمريكية.. وانتخابات 2024

الخصوصية الأمريكية تعني أن الولايات المتحدة بلد استثنائي من الناحية الأخلاقية، والأخيرة لا تعني أن الشعب الأمريكي متفوق أخلاقياً، لكن أن بلاده قوة من قوى الخير في العالم. في ضوء ذلك، نشر موقع Project Syndicate مقالاً للأستاذ بجامعة هارفارد، “جوزيف ناي“، تناول فيه عوامل الخصوصية الأمريكية، كما تحدث عن وجود ثلاث فرق متنافسة الآن داخل أمريكا وهي (ليبرالية- مُتقشفة- أنصار أمريكا أولاً)، تحاول كل منها تحديد الطريقة المثلى التي يجب أن تتعامل بها أمريكا مع بقية العالم، مؤكداً أن الصراعات بأوروبا والشرق الأوسط ستتأثر بحسب الفريق الذي سيفوز برئاسة 2024… نعرض من المقال ما يلي:

مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية لعام 2024، بدأت تظهر في الولايات المتحدة ثلاث فرق كبيرة تناقش كل منها الطريقة التي ينبغي للولايات المتحدة أن تتعامل بها مع بقية العالم: الأمميون الليبراليون الذين هيمنوا منذ الحرب العالمية الثانية؛ والمتقاعسون الذين يريدون الانسحاب من بعض التحالفات والمؤسسات؛ وأنصار مبدأ «أمريكا أولاً» الذين لهم وجهة نظر ضيقة، وانعزالية في بعض الأحيان، فيما يتعلق بدور أمريكا في العالم.

  • • •

لطالما نظر الشعب الأمريكي إلى بلاده على أنها استثنائية من الناحية الأخلاقية. إن المقصود هنا ليس تفوق الشعب الأمريكي أخلاقياً؛ بل المسألة هي أن العديد منهم يريدون أن يتمسكوا بالاعتقاد الذي مفاده أن بلادهم هي قوة من قوى الخير في العالم. ولطالما اشتكى الواقعيون من أن هذه النزعة الأخلاقية في السياسة الخارجية الأمريكية تتعارض مع تحليل القوة الواضح. ومع ذلك، فالحقيقة هي أن الثقافة السياسية الليبرالية الأمريكية أحدثت فرقاً هائلاً في النظام الدولي الليبرالي الذي كان قائماً منذ الحرب العالمية الثانية.

ويرجع الاستثناء الأمريكي إلى ثلاثة عوامل رئيسية. منذ عام 1945، ظل إرث عصر التنوير هو السائد، وخاصة الأفكار الليبرالية التي اعتمدها مؤسسو أمريكا. وكما قال الرئيس “جون ف. كينيدي”: «إن القوة السحرية التي تخدم قضيتنا هي رغبة كل شخص مِنا أن يكون حراً، ورغبة كل الدول في أن تكون مستقلة.. ولأنني أعتقد أن نظامنا أكثر انسجاماً من غيره مع أساسيات الطبيعة البشرية، أؤمن أننا سننجح في نهاية المطاف. وترى الليبرالية التنويرية أن مثل هذه الحقوق عالمية، وأنها ليست مقتصرة على الولايات المتحدة».

ومن المؤكد أن أمريكا كانت دائماً تواجه تناقضات في تنفيذ أيديولوجيتها الليبرالية. فقد أُدرجت العبودية في الدستور، ومضى أكثر من قرن بعد الحرب الأهلية قبل أن يُصدر الكونجرس قانون الحقوق المدنية لعام 1964. وما زالت العنصرية عاملاً رئيسياً في السياسة الأمريكية حتى يومنا هذا. كما اختلف الساسة الأمريكيون أيضاً بشأن كيفية تعزيز القيم الليبرالية في السياسة الخارجية. إذ يرى البعض أن المشروع العالمي أصبح ذريعة لغزو دول أخرى وفرض أنظمة صديقة. ولكن آخرين يعتقدون أن الليبرالية كانت القوة الدافعة لإنشاء نظام للقانون الدولي والمؤسسات التي تحمي الحرية المحلية بالتخفيف من الفوضى على المستوى الدولي.

يتمثل الجانب الثاني للاستثناء الأمريكي في الجذور الدينية البيوريتانية (التطهرية)! للبلاد. فقد كان الأشخاص الذين فروا من بريطانيا لعبادة الله عبادة أكثر نقاء في العالم الجديد، يعتبرون أنفسهم شعباً مختاراً. وكانت مهمتهم أقل عدوانية، بل كانوا يعتمدون نهجاً يتسم بالقلق والاحتواء، على غرار نهج «المتقشف» الحالي المتمثل في تحويل أمريكا إلى مدينة على تلة لجذب الآخرين.

يشكل العامل الثالث للاستثناء الأمريكي أساساً للعوامل الأخرى: إن حجم أمريكا الهائل وموقعها دائماً ما يمنحها ميزة جيوسياسية. ونظراً لكونها محمية بمحيطين، ويحدها جيران أضعف منها، كانت قادرة على التركيز بدرجة كبيرة على التوسع غرباً طوال القرن التاسع عشر، وتجنب الصراعات المتمحورة حول أوروبا على القوة العالمية.

ولكن عندما أصبحت الولايات المتحدة أكبر اقتصاد في العالم في بداية القرن العشرين، بدأت تفكر في المسائل المتعلقة بالقوة العالمية. فعلى أي حال، كان لديها الموارد، ومجالاً للتصرف، وفُرصاً وافرة تمكنها من تحقيق مصالحها، سواء كان ذلك على نحو إيجابي أو سلبي. وكان لديها الحافز والقدرة على أخذ زمام المبادرة في خلق المنافع العامة العالمية، فضلاً عن الحرية في تحديد مصلحتها الوطنية بطرق شاملة. وكان ذلك يعني دعم نظام تجاري دولي منفتح، وحرية البحار والمشاعات الأخرى، وتطوير المؤسسات الدولية. ويشكل الحجم أساساً واقعياً مهماً للاستثناء الأمريكي.

كانت الانعزالية هي الرد الأمريكي على توازن القوى العالمي في القرن التاسع عشر. وكان بإمكان الجمهورية الأمريكية الضعيفة نسبياً أن تكون إمبريالية تجاه الدول الصغرى المجاورة لها، لكن كان عليها أن تتبع سياسة واقعية حذرة في التعامل مع القوى الأوروبية. ومع أن مبدأ «مونرو» أكد على الفصل بين نصف الكرة الغربي والتوازن الأوروبي، فإنه كان ممكناً الحفاظ على هذه السياسة لسبب واحد وهو أنها تزامنت مع المصالح البريطانية وسيطرة البحرية الملكية على البحار.

ولكن مع تنامى قوة أمريكا، زادت خياراتها. وحدثت نقطة تحول مهمة في عام 1917، عندما خالف الرئيس، وودرو ويلسون، التقاليد وأرسل مليوني أمريكي للقتال في أوروبا. ومع أن عصبة الأمم الليبرالية التي أنشأها «ويلسون» في نهاية الحرب قوبلت بالرفض من جانب زملائه الأمريكيين، فإنها أرست الأساس للأمم المتحدة والنظام الليبرالي بعد عام 1945.

  • • •

اليوم، يقول الرئيس جو بايدن وأغلب الحزب الديمقراطي إنهم يريدون الإبقاء على النظام القائم والحفاظ عليه، في حين يريد دونالد ترامب وأنصار مبدأ «أمريكا أولاً» التخلي عنه، ويأمل المتقشفون في كلا الحزبين أن ينتقوا المزايا المتبقية في النظام. وسوف تتأثر الصراعات الجارية في أوروبا، وآسيا، والشرق الأوسط بشدة بالنهج الذي سيسود في انتخابات العام المقبل.

…………….

النص الأصلي

ــــــــــــــــــــــ

المصدر: الشروق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.