يضع “أودي ديكل” الباحث في “معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي” أسئلة اليوم التالي في قطاع غزة على مشرحة الفرضيات الإسرائيلية وأبرزها قيام أجهزة تنسيق مدنية مع سلطات الإحتلال من دون القطع أو الربط المُحكم مع السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس، وذلك في مقال ترجمته مؤسسة الدراسات الفلسطينية كما يلي:
على الرغم من أن حكومة إسرائيل تمتنع من طرح أي رؤية لمرحلة ما يسمى “اليوم التالي” لسيطرة “حماس” على قطاع غزة، فإنه يمكن تشخيص مبادىء الفكرة التي توجهها في هذا السياق: نزع قدرات “حماس” على الحكم في المنطقة؛ وتشكيل عنوان سلطوي “مصحح” في القطاع، غير متطرف ولا يدعم “الإرهاب”؛ وألّا تشكل غزة أي تهديد لإسرائيل وقتاً طويلاً؛ والحفاظ على غزة منزوعة السلاح وإغلاق الحدود بينها وبين مصر؛ وحرية حركة عسكرية لإسرائيل في القطاع، لمنع تطور تهديدات، ومنع نمو البنى “الإرهابية” و”حماس” مستقبلاً؛ وتدخُّل دولي إقليمي إيجابي في القطاع، يركز على المساعدات الإنسانية وإعادة الإعمار ودعم جهات محلية تشكل عنواناً بديلاً، بشكل لا يجعل إسرائيل مسؤولة عن حياة السكان في قطاع غزة.
صورة هذا المستقبل المأمول لا تتضمن إمكان عودة السلطة الفلسطينية للسيطرة في المنطقة. وأكثر من ذلك، فإن حكومة إسرائيل تعارض بشدة إمكان سيطرة السلطة الفلسطينية على قطاع غزة، بعد إخضاع حُكم “حماس”، هذه السلطة التي يتم وصفها بأنها فاشلة وفاسدة وتدعم “الإرهاب”، كما أنها دعمت هجوم “حماس” على النقب الغربي يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر. التقديرات الإسرائيلية تشير إلى أن عودة السلطة إلى القطاع ستفتح الطريق من جديد لعودة “حماس”، وحتى لسيطرتها على النظام السياسي الفلسطيني. وعلى الرغم من ذلك، فإن إسرائيل لا تزال ترى في السلطة الفلسطينية عنواناً في الضفة الغربية على الصعيدين الأمني والمدني، حيث يجري التنسيق أمنياً معها، وتهتم بحاجات نحو 3 ملايين فلسطيني. وفي الوقت نفسه، تتبنى إسرائيل في مناطق سيطرة السلطة رؤية أمنية قائمة على القتال الدائم ضد “الإرهاب”، عبر حرية الحركة العسكرية في الميدان.
وفي الوقت الذي لا تكشف إسرائيل أوراقها بشأن “اليوم التالي”، فإن الإدارة الأميركية تعود إلى طرح بديل واحد، وهو سيطرة السلطة الفلسطينية على القطاع من جديد. مستشار الأمن القومي جيك سوليفان، خلال زيارته لإسرائيل يوم 14 كانون الأول/ديسمبر، قال إن الإدارة ترى أمامها هدفاً واضحاً: توحيد الضفة الغربية وقطاع غزة تحت قيادة فلسطينية واحدة، وهي السلطة المجددة التي لا تشكل أي تهديد “إرهابي” لإسرائيل. وبحسب رؤيته التي تمثل رؤية الرئيس بايدن، فإن السلطة المجددة (Revitalized)، معناها قيادة تغييرات وتحديث رؤيتها للحكم. وخلال جهود التجديد هذه، بحسب سوليفان، فإن دول المنطقة ستساعد هذه السلطة اقتصادياً.
تتخوف الولايات المتحدة وحلفاؤها من أن يدفع استكمال الخطوة العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة إلى الفوضى، وهو ما سيسمح لـ”حماس” بالتمركز من جديد. لذلك، في نظرهم، يجب أن يكون هناك جهة قوية في المنطقة تضمن الاستقرار. وإلى جانب التصريحات العلنية، تعمل الولايات المتحدة من وراء الكواليس لبناء قوة تفرض النظام العام، وتستند إلى أجهزة أمن السلطة الفلسطينية: مصدر أميركي قال إن الإدارة تؤمن بأن قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية يجب أن تكون نواة أجهزة الأمن المستقبلية في قطاع غزة، ويجب تقويتها. وبحسب مصادر أُخرى، فإن ممثلين للإدارة الأميركية بحثوا مع جهات في السلطة الفلسطينية في إمكان تجهيز 1000 وظيفة جديدة في أجهزة الأمن التابعة للسلطة سابقاً في قطاع غزة، بالإضافة إلى ما بين 3000 و5000 في الضفة الغربية، سيتم نشرها في غزة بعد الحرب.
وعلى عكس الإدارة، فإن إسرائيل لا تطرح أي بديل من الذي تطرحه الولايات المتحدة، يكون قادراً على تحمُّل المسؤولية عن إدارة القطاع مدنياً. ففي إطار نقاش في لجنة الخارجية والأمن يوم 11 كانون الأول/ ديسمبر، قال رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو إن “غزة ستكون تحت السيطرة العسكرية الإسرائيلية. وبعد الحرب، سيكون في غزة إدارة مدنية تقود إعادة الإعمار بقيادة دول الخليج”. هذا بالإضافة إلى أن رئيس الحكومة ينوي توسيع “اتفاقيات أبراهام” في “اليوم التالي”، وتجنيد دول الخليج التي وقّعت اتفاقيات مع إسرائيل من أجل إعادة إعمار القطاع، بالإضافة إلى السعودية. وعلى الرغم من آماله، فإنه لا يوجد أي دولة عربية، وضمنها مصر، تقبل إدارة القطاع بعد إخضاع حُكم “حماس” وأن تتحمل مسؤولية السكان في المنطقة. وكما الولايات المتحدة، فإن جميع الجهات المعنية في المجتمع الدولي والدول العربية المعتدلة، لا ترى إلا السلطة الفلسطينية كجهة يمكنها السيطرة على قطاع غزة (وجميعها تدعم فكرة السلطة الفلسطينية المجددة).
هناك 3 إسقاطات ممكنة لمعارضة حكومة إسرائيل لأي فكرة تتضمن دمج السلطة الفلسطينية وتجهيز أجهزتها الأمنية لتحمُّل مسؤولية القطاع: أ). الأسوأ– سيكون على إسرائيل السيطرة على القطاع؛ ب). والأسوأ من الأسوأ– الفوضى التي ستدفع إلى نمو “حماس” من جديد، أو احتلال إسرائيل القطاع؛ جـ). والأقل سوءاً– أن تفرض الولايات المتحدة والمجتمع الدولي على إسرائيل فكرة السلطة المجددة، وبشروطهما.
لذلك، فمن المفضل لإسرائيل أن تتبنى توجّهاً إيجابياً، يكون في مركزه وضع شروط ومطالب لـ”السلطة الفلسطينية المتجددة”. ويمكن أن يكون لهذا التوجه الإيجابي نتيجتان: الأولى، إسرائيل تندمج في إطار الإجماع الإقليمي والدولي على “السلطة المتجددة” كفرصة للقيام بتغييرات عميقة في السلطة وتجهيزها لتحمّل المسؤولية – عن قطاع غزة أيضاً، في حال تم تطبيق التغييرات في الضفة الغربية. والثانية، سيكون على إسرائيل وضع شروط أفضل لتحويل السلطة إلى إمكانية واقعية للسيطرة على القطاع. وبسبب فشل محاولات الماضي بإجراء تغييرات في السلطة، ما دام محمود عباس في الحكم بصورة خاصة.
ولتحقيق ذلك، سيكون على إسرائيل أن تطلب إقامة هيئة خارجية بقيادة الولايات المتحدة، تضع شروطاً لـ”تجديد” السلطة وشكل إدارة أجهزتها الأمنية، وتراقب مسار تطبيق الأهداف: (1) سلطة مستقرة ومسؤولة، تعمل بفاعلية، ولا فساد فيها؛ (2) خلق الظروف الملائمة لعمل السلطة بفاعلية في اليوم التالي لمحمود عباس، وضمنها صوغ مسار منظّم لتبدّل الزعامات فيها؛ (3) اعتراف رسمي من السلطة بدولة إسرائيل كدولة قومية للشعب اليهودي، ووقف التحريض على العنف والتطرف، والمصادقة على جميع الالتزامات التي وقّعتها منظمة التحرير في إطار “أوسلو”، والالتزام بتطبيقها؛ (4) تركيز احتكار القوة في يد السلطة، وأيضاً استمرار التنسيق الأمني الوطيد مع إسرائيل.
وبالتفصيل أكثر:
(-) الأمن- على السلطة المجددة إعلان معارضة كل مقاومة مسلحة أو عنيفة لإسرائيل، وتطبيق مبدأ “السلطة الواحدة، القانون الواحد والسلاح الواحد”- تفكيك كل قوة مسلحة في مناطقها، ومنع حمل السلاح، وجمع السلاح غير القانوني. أجهزة الأمن الموحدة للسلطة ستكون القوة الوحيدة المسلحة بسلاح شرطي فقط. المنسق الأمني الأميركي هو مَن يقرر كيف تكون خطة تجهيز أجهزة أمن السلطة المطلوبة.
(-) التعليم ومنع التحريض- تحديث المناهج التعليمية، بحيث لا تتضمن أي مضامين ضد إسرائيل واليهود، ونشر التعليم عن التعايش. هذا بالإضافة إلى منع التحريض في وسائل الإعلام والمساجد ووسائل التواصل الاجتماعي.
(-) منظومة القضاء- مأسسة استقلالية القضاة في القانون، والسعي للعدالة، وخلق ثقة بين النظام القضائي والحكم.
(-) الاقتصاد والميزانيات- يتم تشكيل منظومة تمنع توزيع الأموال على الأسرى وعائلات “المخربين” والأهداف الإرهابية. يتم توزيع الرواتب على الموظفين فقط، وذلك عبر رقابة فاعلة لمنع الفساد. تستطيع السلطة توقيع اتفاقيات تجارة حرة، وأن يكون لها عملة خاصة، وأيضاً نظام ضرائب مستقل، بالإضافة إلى إدارة سياسات اقتصادية.
(-) إطار دولي- وقف السلوك العدائي للسلطة إزاء إسرائيل وملاحقتها في المحافل الدولية، وفي الأساس، وقف الشكاوى في المحاكم الدولية.
تستطيع إسرائيل أن تتبنى طريقتَي عمل لبناء النظام السياسي الفلسطيني برمته:
1). اختبار السلطة الفلسطينية المحسّنة أولاً في الضفة الغربية، وذلك لتتأكد من أن السلطة قادرة فعلاً على تطبيق التغييرات. وفي حال كانت النتيجة إيجابية، وبعد تحسين أدائها وسلوكها، يتم منحها المسؤولية عن قطاع غزة. حتى ذلك الوقت، يكون هناك فترة انتقالية تحتل فيها إسرائيل القطاع، أو السيناريو الأكثر إيجابية بالنسبة إلى إسرائيل، هو قوة إقليمية ودولية تتحمل المسؤولية الموقتة عن إدارة الحياة المدنية في المنطقة. إلا إن هذا السيناريو ينطوي على مخاطر واحتمالات نجاح ضئيلة، ويمكن أن يُغرق إسرائيل في الوحل الغزي وقتاً طويلاً.
2). بدء صوغ “اليوم التالي” في قطاع غزة- من دون انتظار استكمال مسار تصحيح وتجديد السلطة الفلسطينية. وبدلاً من التركيز على فحص السلطة الذي من المتوقع أن تفشل فيه، تقوم إسرائيل بالتنسيق مع الولايات المتحدة والمجتمع الدولي والدول العربية المعتدلة، للمساعدة على بناء أجهزة سيطرة مدنية في القطاع، وذلك من دون قطع الاتصال بالسلطة. معنى هكذا سياسة هو الاستمرار في مأسسة الإدارة المدنية الخاضعة للسلطة في مجال تنسيق العمليات المدنية، وفي الوقت نفسه، تشجيع نمو أجهزة سيطرة محلية – سلطات محلية وعشائرية قيادية. هذا بالإضافة إلى أنه يجب تعيين إدارة تكنوقراط لإدارة القطاع، تكون أجهزة الأمن خاضعة لها، وتستند إلى موظفين من غزة، يتم تدريبهم في مصر، بالتنسيق أمنياً مع الأميركيين. هذه الإدارة التكنوقراطية ستعمل بالتنسيق مع السلطة الفلسطينية، وتكون هي الأداة لنقل الميزانيات الحيوية لإدارة القطاع. المعنى هو إقامة فيدرالية فلسطينية، تكون غزة فيها محافظة منفصلة عن الضفة.
هذا التوجه الإيجابي، على الرغم من أنه معقد، فإنه يمكن أن يقلل الضغوط الدولية على إسرائيل كي تعترف بإمكان سيطرة السلطة الفلسطينية على قطاع غزة. هذا بالإضافة إلى أنها تتضمن احتمال قيام الدول العربية بالدعم ودفع القطاع إلى الاستقرار. وفي حال نجح تطبيقها، فسيكون من الممكن نسخها إلى الضفة الغربية- بما معناه إعادة صوغ النظام الفلسطيني برمته- بشكل لا يتناقض مع المصالح السياسية- الأمنية لإسرائيل.
المصدر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية