(الحرية أولاً) ينشر حصرياً الكتاب المفقود «في الفكر السياسي» بجزئيه، للمفكرين “الأربعة الكبار”، وهذه الحلقة الثانية والعشرون من الجزء الأول- (14). العلاقات بين الأمم الاشتراكية؛ بقلم الأستاذ “الياس مرقص”
(14). القومية والأممية
واقع الأمة
ليست المصلحة القومية مصلحة برجوازية. وليست الأمة مسألة «سوق مشتركة». إنها أعمق وأبدأ.
ولأن ستالين لم يفهم أن الأمة شيء أعمق وأبدأ، فقد تصرف تصرفاً نیهیلستیاً حيال مظاهر الدفاع عن المصلحة القومية، واصطدم أكثر من مرة بما أسماه «الاشتراكية الوطنية»، و«الشيوعية الوطنية».
إن الإتحاد السوفياتي، بوصفه أول وأعظم دولة اشتراكية، قد عبَّر وهو يُعبِّر عن المصالح الاشتراكية العامة للطبقات الكادحة ولكنه أيضاً بلد محدّد له مصالح حكومية وقومية خاصة. برزت هذه الحقيقة عندما ظهرت دول اشتراكية أخرى لها مصالح قومية مختلفة. وكان الصدام الذي أدى إلى خضوع بولونیا والمجر ورومانيا وفي تمرد يوغسلافيا وفي تسوية مع الصين (وحاليا خلاف).
ومن الواضح أن التناقضات بين الأمم في ظل الاشتراكية لا تحمل طابع التناقض الطبقي الذي كانت تتسم به سابقاً، وإنما تحمل طابع حاجات تطور علاقات الانتاج والقوى المنتجة في كل بلد اشتراكي.
كان ستالين يعتبر التناقضات القومية (في ظل الاشتراكية) نتيجة تدخل «أصابع الرأسمالية العالمية»، وكل ظاهرة لها طابع قومي كانت في نظره من رواسب اتجاهات البرجوازية القومية.
وبما أن ستالين لم يجد هذه الرواسب في سياسته بالذات، فقد وجدها في الأمم التي اصطدمت بسياسته لسبب أو لآخر.
والواقع، ليس من الماركسية أن يقول الماركسي: ما أفعله أنا فهو حق (لأنني أنا أفعله)، وما تفعله أنت فهو باطل (لأنك أنت تفعله)!
إن بعض خطب ومقالات ستالين قد تدفع من يطالعها إلى الاعتقاد أن ستالين قد حارب على جبهتين: جبهة الشوفينية الروسية وجبهة القومية المحلية(15) أما الواقع فهو غير ذلك: أن نضال ستالين الفعلي، داخل الاتحاد السوفياتي وخارجه كان على جبهة واحدة فقط هي جبهة «الانحراف القومي المحلي».
فقد كانت «الشيوعية الوطنية» عقدة ستالين الراسخة: من الشيوعيين الجورجیين مديغاني وماخارادزه عام 1922 إلى تيتو وغومولكا عام 1949.
وقد حقق ستالين هذه السياسة، وهو مقتنع بأنه «يضحي بالجزء في سبيل الكل». والواقع أنه كان، في أفضل الحالات، يضحي بالجزء في سبيل جزء آخر.
وكان يصف سياسته هذه «بأنها أممية»، وينعت كل مقاومة لها بأنها «قومية برجوازية».
والحال أن الأمية البروليتارية لا تعني مصلحة الجزء أياً كان شأن هذا الجزء. ولئن كان الاتحاد السوفياتي يعبر عن المصالح الأممية للبروليتاريا، إلا أنه لا يتعادل معها، ولا يمكن لأي قطاع من الحركة الاشتراكية العالمية أن يتعادل مع مجموع الحركة.
وفي سورية والبلاد العربية، جرى أيضاً تطبيق مبدأ «التضحية بالجزء في سبيل الكل».
و لكن ثمة فرق: « الكل » في الاتحاد السوفياتي كان مصلحة الاتحاد السوفياتي. أما في سورية والبلاد العربية. فقد أثبت التاريخ أن « الكل » في عدد من المواقف الرئيسية، لم يكن يعني، موضوعياً، سوى مصلحة الاستعمار.
هذا ما سنراه الآن.
– 6 –
الستالينية والقومية العربية
ما هو موقف الأحزاب الشيوعية من القومية العربية? وكيف جرى تطبيق نظرية ستالين في الوطن العربي؟
1- موریس توریز: أمة جزائرية ناشئة
من المعروف أن الحزب الشيوعي الفرنسي هو الأب الشرعي للأحزاب الشيوعية في سوريا ولبنان وفي أقطار المغرب العربي. وهو أول من تولى مهمة تطبيق نظرية ستالين على كل بلد من البلدان العربية.
ففي عام ۱۹۳۹، عرض موریس توريز نظريته المعروفة عن الأمة الجزائرية الآخذة في النشوء والتكوّن، وفصّل هذه النظرية في خطاب ألقاه في مدينة الجزائر بتاريخ 11 شباط.
قال توريز:
«إن موقفنا نحن الشيوعيين موقف واضح. نحن نرفض كل تفاوت في الحقوق بين البشر، بين الشعوب، و نقر حق الحياة الحرة، كأفراد وجماعات، للجزائريين، لجميع الجزائريين، الفرنسيي الأصل وللعرب والبربر واليهود…
ثمة أمة جزائرية آخذة في التكون هي أيضاً بتمازج عشرين عرقاً. أفلا يمكن أن نجد بينكم هنا أحفاد تلك الأقوام النوميدية القديمة التي كانت متحضّرة حتى جعلت من أراضيها أهراء روما القديمة، وأحفاد أولئك البربر الذين أعطوا الكنيسة الكاثوليكية القديس أوغسطين، اسقف هیبون، كما أنجبوا في الوقت نفسه دونا المنشقّ، وأحفاد أولئك القرطاجين وأولئك الرومان وجميع الذين ساهموا منذ قرون عديدة في ازدهار حضارة تشهد بها اليوم مخلفات كثيرة؟ «وهنا الآن أبناء العرب الذين جاؤوا خلف راية النبي، وأبناء الأتراك الذين اعتنقوا الإسلام وجاؤوا فاتحين جدداً، وأبناء اليهود الذين استوطنوا هذه الأرض منذ قرون. هؤلاء جميعاً قد تخالطوا على أرضكم الجزائر، ويضاف اليهم الاغريق والمالطيون والاسبان والطليان والفرنسيون…
ثمة أمة جزائرية تتكوّن تاريخياً ويمكن أن تساعد على تطورها جهود الجمهورية الفرنسية»(16).
إن الكشف عن مضمون هذه النظرية وعن أغراضها بصورة مفصلة يخرج عن نطاق هذا الكتاب(17). ونقتصر هنا على النقاط التالية:
أولاً- إن زعيم الحزب الشيوعي الفرنسي يعارض فكرة القومية العربية حتى أنه ينكر الروابط العربية جملة وتفصيلاً.
ثانياً- إن زعيم الحزب الشيوعي الفرنسي ينفي وجود شعب جزائري له كيانه ووحدته وكل ما يقر به هو وجود «أمة جزائرية في طريق النشوء والتكوّن».
ثالثاً- إن هذه «الأمة»، سوف تضم الى جانب «العرب والبربر»، الفرنسيين والاسبان والطليان الخ … وهذا يعني إحلال نظرية الامة- المزيج محل مبدأ لا عرقية الأمة، الأمر الذي يتضمّن تأويلاً «خاصاً» لنظرية ستالين- إذ أين اللغة المشتركة التي توحّد ما بين الشعب العربي الجزائري وبين المستوطنين الأوروبيين؟ وأين الملامح النفسية المشتركة؟ وأين الثقافة المشتركة؟
رابعاً- إن تكوّن الأمة الجزائرية يتوقف بالتالي على انصهار المستوطنين الأوروبيين مع السكان العرب. وما لم يتم هذا الانصهار لن يكون هناك «أمة»، جزائرية و«واقع قومي جزائري»، ولا يجوز بالتالي التفكير بالاستقلال والنضال من أجله.
خامساً- إن تكوّن الأمة الجزائرية سوف يتم بمساعدة الجمهورية الفرنسية (أي الاستعمار الفرنسي). هذا، على كل حال، ما يريده موریس توريز ويتمناه. وهذا هو الخط النظري والسياسي الذي يضعه توريز للحزب الشيوعي الفرنسي ولربيبه الحزب الشيوعي الجزائري.
وقد تبنى الحزب الشيوعي الجزائري هذا الخط دونما تحفّظ وسار عليه مدة طويلة فجاء في بيانه الصادر في شهر تموز 1946: «هذه الوحدة تؤلف اساس الامة الجزائرية الآخذة في النشوء، الغنية بجهود جميع أبنائها وعلى اختلاف أجناسهم واصولهم ، والمزيج الموفّق للحضارتين الشرقية والغربية»(18).
………………
الهوامش:
(15)- هذا ما نجده مثلاً في تقريره «حول الانحرافات في المسألة القومية» الذي ألقاه أمام المؤتمر السادس عشر للحزب عام 1930.
(16) يستطيع القارئ أن يطالع هذا النص في المؤلفات التالية: ابن الشعب، تأليف موریس توریز، الطبعة الفرنسية. الجزائر حتف الاستعمار، تألیف لیون فيكس، الطبعة العربية بيروت، ص 25- 26. حقيقة الأمة الجزائرية، تأليف مرسيل اغرتو، الطبعة الفرنسية.
(17) يستطيع القارئ أن يرجع إلى كتابنا «الحزب الشيوعي الفرنسي وقضية الجزائر» دار الطليعة، بيروت. ص 22- 27 وص90- 91.
(18) الجزائر حتف الاستعمار، ص 37
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يتبع.. الحلقة الثالثة والعشرون بعنوان: (15). خالد بكداش ۱۹۳۹: أمة سورية ناشئة؛ بقلم الأستاذ “الياس مرقص”