الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

فلسطين المنشأ والقضية

د- عبد الناصر سكرية

حفلت أحداث الشهرين الأخيرين في فلسطين والمنطقة العربية بجملة دلالات وحقائق هامة ذات صلة مباشرة بالصراع العربي- الصهيوني وما يتمحور حوله من معان ووقائع، فقد فجرت حرب غزة والعدوان الصهيوني المستمر عليها لتدمير إنسانها وبنيانها، وما صاحبها من تهافت الغرب الاستعماري، سلسلة متلاحقة من الحقائق التي تستوجب التذكير بها والتركيز عليها.

١ليس الصراع بين الشرق والغرب جديداً.. فمنذ آلاف السنين والغرب بكياناته الإمبراطورية التي كانت قائمة ورأسها الإمبراطورية الرومانية؛ يتطلع لاستعمار الشرق العربي بكل أبعاده؛ استطاعت روما احتلال الأراضي العربية، ورغم نشوء دعوات عربية استقلالية أقامت دولاً حرة انفصلت عن روما وهددت سيطرتها على العالم بل هددتها في قلب كيانها، إلا أنها عادت وغلبتها واستعادت سيطرتها التامة على الأرض العربية، وليست مملكة زنوبيا العظيمة في تدمر والتي حررت الأرض العربية من المحيط إلى الخليج، أو دولة هانيبعل الفينيقي العظيم الذي حاصر روما ذاتها ولم يخسر الحرب إلا بسبب ظروف الطبيعة القاهرة، إلا تعبيراً ميدانياً لذلك الطمع الاستعماري الغربي على الشرق- والعربي منه تحديداً- وهو الطمع الذي تجدد بعد قيام الدولة العربية الإسلامية وامتدادها في زمن الأمويين حتى بلغت قلب أوروبا والغرب ذاته، وعند أول فرصة سنحت بضعف الدولة العربية تجدد الغزو الاستعماري لبلاد العرب وقلبها فلسطين يوم أن تحالفت قوى السلطان والنفوذ في الغرب في حرب الفرنجة ضد العرب، وهي الحرب التي أسماها الغرب ذاته “صليبية” لتغطيتها بطابع ديني وهي استعمارية المنطلق والغاية وليست دينية بأي حال.

ثم بعد ذلك كانت حروب ذات القوى الغربية لإنهاء دولة الحضارة العربية في الأندلس، وبسقوطها قبل خمسة قرون، بدأ عصر الهيمنة الغربية الاستعمارية على العالم، والمستمر إلى اليوم.

هذه القوى الغربية ذاتها هي التي أقامت دولة الكيان الغاصب في فلسطين وحاربت كل محاولة عربية للتحرر والنهضة والبناء والتقدم.

وما عدوان الغرب ورأس حربته دولة العدو إلا استمرار لذك الطمع الاستعماري في السيطرة على الأراضي العربية وما فيها من موارد وممرات وقيم وحضارة وبشر، ومن يملك وعياً ومعرفة بالتاريخ يعرف هذا جيداً ولم يتفاجأ من مشاركة الغرب الميدانية لدولة الصهاينة عدوانها الوحشي على غزة وفلسطين.

مؤتمر”دعم الإنتفاضة الفلسطينية” يعيد البوصلة باتجاه فلسطين

٢قضية فلسطين.. وعلى الرغم من أنها قضية عربية قومية تستهدف كل الوجود العربي وما يحمل من قيم وثقافة وحضارة، إلا أنها أصبحت لدى كل شعوب العالم، قضية إنسانية وتحررية معا، إلى جانب كونها قضية عربية.

أ- فمن حيث هو عدوان صهيوني وحشي مجرم على كل مظاهر وأسباب الحياة في فلسطين إلى حد إستهداف وجود الإنسان ذاته فيها، فهي قضية إنسانية تثير مشاعر التعاطف في كل إنسان حر شريف لا يزال يمتلك مشاعر إنسانية تعززها الفطرة الإنسانية السليمة، وكثيرون ممن خرجوا وتظاهروا في مجتمعات الغرب ذاته، إنما دوافعهم إنسانية هالها ما شاهدوه من وحشية الإجرام الصهيوني بحق شعب فلسطين، فلم يسلم منها حتى الأطفال والمرضى والمستشفيات والمدارس وكل ما يدب على الأرض أو يرتفع فوقها من بناء.

ب- وحيث أن ذات القوى التي اغتصبت فلسطين وزرعت فيها دولة الكيان الصهيوني، وتحارب إلى جانبها اليوم وتمدها بكل أسباب القوة والتفوق العسكري والتقني، هي ذاتها القوى التي شكلت الاستعمار الحديث وتُعادي كل شعوب الأرض وتحارب كل تطلع إلى التحرر والاستقلال والتقدم بعيداً عن هيمنة الغرب أو بعيداً عن نموذجه اللاأخلاقي الربوي الفاسد، بحيث يستشعر كل حر شريف في هذا العالم أن معركة فلسطين هي معركته أو هي جزء أساسي في معركته من أجل التحرر والتقدم والتخلص من ربقة الاستعمار وآثاره، فيرى نفسه ملزمة بالتضامن مع نضال شعب فلسطين ومقاومته، فهي قضية تحرر عالمي عام وليس فقط عربي.

٣أما فيما يخص المجتمعات الغربية فيثور السؤال: لماذا يتضامن كثيرون مع قضية فلسطين فيتظاهرون ويتحدون سلطات بلادهم المؤيدة للعدوان الصهيوني؟

فقد ساهمت الهيمنة الرأسمالية الشاملة على مرافق الحياة الإنسانية في كل مجالاتها وميادينها وتفردها بالسلطة والسلطان على مقدرات الشعوب والأمم جميعها تقريباً، وما يصاحبها من فساد واستغلال وتفاوت طبقي اجتماعي مُرعب وما يلازمها من فقر عميم وبؤس وشقاء كبيرين وتكدس للثروات البشرية في أيدي قلة محدودة جداً من البشر، ومن كذب وخداع وتدليس ومخادعة وصل حد التلاعب بصحة البشر بمن فيهم أبناء المجتمعات الغربية أنفسهم، ساهمت في تسريع انكشاف أفعالها الوحشية بحق الإنسان، وبُعدها عن الحق والعدل والمساواة والحرية الحقيقية وابتعادها عن أدنى متطلبات الفطرة الإنسانية السليمة والطبيعية والمقبولة، الأمر الذي يستجمع العداء لها في كل يوم، مزيداً من البشر الأسوياء والأحرار والذين يدركون أبعاد وخطورة استمرار سيطرتها على العالم وفقاً لنهجها الرأسمالي العنصري، المفترس المتوحش الخالي من أية قيمة إنسانية اعتبارية أو اجتماعية. وحيث أن سلوكها وهيمنتها تطال المجتمعات الغربية ذاتها وتجمح في مزيد من استغلال إنسانها وتسخيره لجشعها المادي الاستهلاكي الذي لا حدود له، فقد تصاعدت درجة الوعي لدى كثيرين من أبناء تلك المجتمعات وتعمقت معرفتهم بحقيقة القوى الرأسمالية المُعولمة، فباتوا يقفون إلى جانب كل من يتصدى لهيمنهم تلك وعدوانهم المستمر عليه وعلى أمثاله من بني البشر، وفي طليعة من يتصدى لهم ولعدوانهم شعبُ فلسطين، لذا باتت قضية فلسطين تعني كل إنسان واعٍ حر من أبناء المجتمعات الغربية يدرك خطورة الهيمنة الرأسمالية وتفردها بالسيطرة وتلاعبها بمصائر الأمم والشعوب، فيقف متظاهراً متضامناً مندداً بعدوان الصهاينة ووحشيتهم الفائقة.

٤البعد الديني.. وحيث أن فلسطين تكتسب طابعاً دينياً تاريخياً يجعلها تحتل مكانة دينية تحمل طابع الخصوصية والقداسة لدى المسلمين لوجود المسجد الأقصى وبيت المقدس فيها، كما لدى المسيحيين لولادة وحياة السيد المسيح ومهده ووجود كنيسة القيامة فيها؛ لذا نرى متضامنين كثيرين من أبناء المجتمعات الإنسانية مع قضية فلسطين وشعبها فيتظاهرون أو يعبرون بوسائل متنوعة عن تأييدهم لها ضد الاغتصاب الصهيوني وعدوانه المستمر عليها.

٥الزيف الصهيوني.. استناداً إلى الممارسات الإسرائيلية الإجرامية الوحشية بحق شعب فلسطين وعدوانها المستمر عليه وحرمانه من أبسط حقوف الإنسان ومقومات الحياة، واستناداً إلى تمسك شعب فلسطين العربي بأرضه ودفاعه المستميت عنها وتشبثه بوجوده عليها، فقد انكشفت ادعاءات الحركة الصهيونية التي روجتها منذ تأسيسها في الوسط اليهودي أولاً ثم في الأوساط العالمية ثانياً، وأول هذه الادعاءات أن فلسطين بلا شعب وهي أرض “إسرائيل” التاريخية وأن دولة “إسرائيل” قلعة الديمقراطية الوحيدة في الوسط العربي “الإرهابي”، ثم اتضحت معالم الدور الاستعماري الذي تنفذه “إسرائيل” كقاعدة متقدمة للمشروع الإستعماري وذراعاً طويلة من أذرعه، إضافة إلى ما اكتشفه كثيرون من النخب اليهودية عن كذب كل المزاعم الدينية والتاريخية الصهيونية وأحقيتها في أرض فلسطين كدولة “قومية” لليهود في العالم، إلى جانب ارتباطها المصيري الوثيق بالمصالح الرأسمالية الرَبوية والاحتكارية والاستعمارية وبُعدها عن أي جانب إيماني توراتي سليم، كل ذلك ساهم في انكشاف طبيعة الصهيونية كأداة للسيطرة الاستعمارية وليست بحال فكرة دينية أو منطلقاً دينياً رغم محاولاتها الدائمة لتغطية وظيفتها الاستعمارية بعناوين دينية مزيفة، وكما سقطت كل الأقنعة الدينية للحروب الاستعمارية في القديم- كما حال حروب الفرنجة- وفي الحديث الراهن كما في حروب الصهيونية وأدواتها، انكشف زيفها الديني وبانت حقيقتها الوحشية حتى بات كثيرون من اليهود ضدها فيما ينخرط فيها كثيرون من المسلمين والمسيحيين والهندوس والعلمانيين والملحدين في كل أنحاء العالم…

٦تهافت الرأي العام الشعبي العربي.. لا يعني هذا أبداً تخلي الشعب العربي عن فلسطين وقضيتها فهي قضيته المصيرية، ومستقبله رهن تحررها أو فشلها في إسترجاع عروبتها، وفي المقابل تبدو ردات الفعل الشعبية العربية أدنى بكثير مما هو مطلوب ومتوقع منها، فهي صاحبة المصلحة الحقيقة في ردع العدوان الصهيوني وفي تحرير فلسطين لأنه المقدمة الأساسية للتحرر والتقدم الحقيقي، فيما يبدو أن القهر الذي تعيشه قوى الشعوب الوطنية والحرة من قبل نظامها الإقليمي السائد والتفكك الذي يصيب كثيراً من المجتمعات العربية بالمذهبية والطائفية والنزعات الفردية والمصلحية، وحروب طويلة مزمنة لتزييف وعيه وتاريخه ووأد ثقته ورموزه وقيمه وربطه بمشاريع وولاءات مشبوهة، إلى جانب إلهاء الإنسان العربي في كثير من بلدانه بالهم الحياتي المعيشي اليومي، وحيث تضمحل صلاحيات الدولة ومسؤولياتها تجاه المواطن، هذا فضلاً عن ارتباط معظم أصحاب المصالح المحلية الكبرى بأدوات النفوذ الأجنبي أو بأطراف في النظام السائد مما يجعلهم يقفون في صفوف أعداء الوطن سواءً بالتخلي أو بالمشاركة الفعلية، ولا يغيب عن الذكر أعداد كبيرة من النخب العربية المرتبطة مصلحياً أو غريزياً أو ثقافياً بالمشروع الغربي وأطماعه العدوانية، فمن إعلاميين مرتهنين إلى موظفين في مراكز وجمعيات، إلى مرتهنين لمؤسسات خفية باطنية، لعدد كبير من أصحاب النفوذ والسلطان يضاف إلى صفوف أعداء الوطن، أما الأحزاب الوطنية والحركات الشعبية فقد توقفت عن مواكبة النبض الشعبي فشاخت وعجزت أو انحرفت أو تم شراؤها وإستيعابها إلى جانب قوى القهر المحلية والعالمية، وهكذا نجد الإنسان العربي الحر مُقعداً عن الحركة والفعل والتأثير، ورغم ذلك لا يزال مُلحاً تفعيل دور الحركة الشعبية وتثوير وعيها، وعلى أحرارها استنباط الوسائل المناسبة والأدوات اللازمة لذلك.

٧معاداة السامية.. للأمانة الموضوعية فإن الإنسان الغربي يستطيع أن يُعبر بحرية عن رأيه ويتظاهر ويستنكر دون خوف كبير على وجوده أو مصالحه الحياتية أو وظيفته، وهي حرية يوفرها له النظام السائد فيه بضمان سيادة القانون واحترام حرية التعبير، اللهم فيما لا يتعدى التعرض لما يمت  لدولة “إسرائيل” بالنقد، حيث يواجهه قمع عنيف وتهديد مصلحي ووجودي شديد وفقاً لقانون معاداة السامية الذي فرضته أدوات النفوذ الصهيوني في الغرب كمادة في القانون العام.

ومع التغيرات التي تحصل على مستوى العالم وما يرافقها من ممارسات وانكشاف للحقائق فقد ضعفت سطوة القانون الصهيوني ويرتفع مزيد من الأصوات في كل يوم تأييداً لقضية فلسطين وتنديداً بممارسات الصهيونية البشعة، ومن آثار هذا ما نشاهده من مظاهرات شعبية عارمة في معظم المجتمعات الغربية تأييداً لحق شعب فلسطين في أرضه ومصيره.

وهي فرصة للفعاليات الشعبية العربية للتفاعل والتواصل والتحشيد لمزيد من دعم القضية وبيان حقوقها ومتطلباتها.

٨سقوط الغرب الأخلاقي ..لم يكن خافياً عدم التزام الغرب الاستعماري في تعامله مع الشعوب والأمم الإنسانية، عدم التزامه بأية معايير إنسانية أو أخلاقية تردعه عن ممارسة أي عدوان على أي شعب أو افتعال حرب في أي بلد إذا كانت مصالحه المادية والاقتصادية تستدعي ذلك، كان هذا نهجه وسلوكه منذ قيام النظام الغربي الرأسمالي مسيطراً على العالم قبل خمسة قرون إثر سقوط دولة الحضارة الإنسانية في الأندلس وبداية الهيمنة الأوروبية البرتغالية أولاً ثم الإسبانية ثم الفرنسية والبريطانية والإيطالية والهولندية وبعد ذلك الأميركية، إلا أن ما شهدته العقود الثلاثة الأخيرة من تكثيف دعائي تسويقي للنظام الرأسمالي وقيمه، من حرية التعبير والديمقراطية إلى حقوق الإنسان وحق تقرير المصير مروراً بالإعتراف بالآخر والتعدد الثقافي وسواها من شعارات ليبرالية، جعلت الكثيرين يروّن في الغرب نموذجاً يجب الإقتداء به والتماهي مع قيمه ومفاهيمه إلى الحد الذي جعل كثيرين من الأحرار يتطلعون إلى مساعدة أمريكا أو فرنسا أو سواها للتخلص من أنظمة القهر والإستبداد المحلي وبناء مجتمع متقدم .

ومع العدوان الصهيوني على غزة وما صاحبه من مشاركة غربية ورعاية له، فقد سقطت كل نتائج ذلك التسويق وتعرى النظام العالمي الرأسمالي أمام الجميع بمن فيهم أولئك الذين انبهروا فانساقوا وراء دعوات الغرب ومفاهيمه الليبرالية سواءً في العلمانية أو الحريات الفردية أو الديمقراطية وحقوق الإنسان بعد أن انكشفت أكاذيب الغرب وخيانته لتلك الشعارات التي كان يسوقها فإذا هي مجرد شعارات جوفاء يستخدمها لتمرير تدخلاته وسياساته في دول العالم.

تلك كانت جوانب من متغيرات رافقت الأحداث الجارية في غزة، تحتاج إلى تأصيل وتنتظر إطارات عربية شعبية تستثمرها وتوظفها في خدمة قضية فلسطين والعرب…

المصدر: كل العرب

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.