إبراهيم نوار *
جاء الخطاب السياسي لحكومة الحرب الإسرائيلية عشية إطلاق ما سمته المرحلة الثانية من حرب غزة، مشبعا بروح الدم والانتقام والمحرقة ضد الفلسطينيين. الخطاب الذي ينطق به لسان تحالف «بايدن- نتنياهو»، هو في جوهره خطاب يكره السلام، ويؤجج روح الانتقام، ويستبيح دماء الأبرياء، ويعيد إنتاج نازية جديدة، في صورة أقبح ضد شعب ينزف دما وأرضا، لكنه لا ينزف كرامة وشرفا. جريمة هذا الشعب في نظر تحالف «بايدن- نتنياهو» هي الدفاع عن حقه في البقاء. نتنياهو وقيادات حكومة الحرب الإسرائيلية يعتبرون حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني، حرب حياة أو موت، ويرفعون شعار «إما نحن وإما هم»، وهو اعتراف صريح بأن الحرب التي يطلقون عليها «حرب إسرائيل- حماس» هي حرب انتقام لإبادة الشعب الفلسطيني عمدا لتعيش إسرائيل، لأن بقاء هذا الشعب يذكِّرهم بجريمتهم، ويقدم الدليل عليهم أمام العالم. إنهم يطاردون السلام، ويذبحون أشجار الزيتون في غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية. هذه الأشجار كما تقول النبوءة لا تموت، وإنما تبقى، حتى تنطق وتشهد عليهم لمحاسبتهم على جريمتهم.
ومع أن تاريخ البشرية أثبت أن غرور القوة لا يعيش، وإنه لا محالة إلى زوال، فإن الذين عميت أبصارهم، واسودت قلوبهم، ما زالوا يجهلون. ورداً على ذلك، ورغم جراح الفلسطينيين؛ فها هم من جديد يلوحون بقص الزيتون، ويعيدون طرح خطاب السلام: كل الأسرى مقابل كل الأسرى، والسلام للشعبين في دولتين مستقلتين، ليكون في ذلك حياة للناس، ونهاية لنزيف الدماء والأرواح.
ضد الرأي العام والإنسانية:
خطاب حرب الانتقام الإسرائيلية عشية دخول الحرب أسبوعها الرابع، لم يقدم للإسرائيليين ما يريدونه من تأمين حياة الأسرى والعمل على إعادتهم من غزة سالمين إليهم، وهو ما لا يمكن أن يتم إلا في سياق عملية سياسية، وليس من خلال عمليات عسكرية، أودت بحياة 50 منهم، حسبما تقول حماس. حكومة إسرائيل تعرف ذلك، والعالم يعرف أيضا. ومع أن مسألة تأمين عودة الأسرى يأتي على رأس أولويات أكثر من نصف سكان إسرائيل اليهود، فإنه ليس أولوية حكومة الحرب الإسرائيلية، وهي على استعداد للتضحية بهم، في سبيل بقاء حلف اليمين الديني الصهيوني المتطرف في الحكم. حكومة الحرب الإسرائيلية ليست لديها رؤية للحرب، وإن ما يقودها هو روح الانتقام من كل من هو فلسطيني، وكل ما هو فلسطيني، حتى يتم محو آثار الجريمة، ويزول الدليل المادي عليها، فتصبح فلسطين كلها لهم، إذا أصبحت أرضا بلا شعب. لكن الشعب الفلسطيني لا يموت، وأشجار الزيتون لا تموت، وإنما تبقى حتى تنطق وتشهد عليهم لمحاسبتهم على جريمتهم.
ولم يقدم خطاب الدم والانتقام والمحرقة الإسرائيلي ضد الفلسطينيين للعالم غير الإصرار الأحمق على إعادة إنتاج القوة الغاشمة بعدما فشلت، وإعادة إشعال روح الانتقام الأعمى بعدما عجزت، وإعادة تثبيت عقيدة الردع الإسرائيلية بعدما سقطت. لقد عميت أعينهم، فهي لا ترى حتى الآن دلالات صمود شعب يحرمونه أمام العالم كله من أبسط حقوق الحياة، الماء والغذاء والدواء والوقود والتنقل. هم لا يكتفون فقط بحرمانه من هذه الحقوق، وإنما يمطرونه بالليل والنهار بوابل من نيران جهنم، تسقط أينما تسقط، فتصيب من تصيب وتخرب بلا تمييز، وتكتب الموت على الجماد والضرع والزرع والعباد. إنهم لا يعلمون أن الموت لن يقتل روح الحياة حتى تحين الساعة، وإن الشعب الفلسطيني لا يموت، وأشجار الزيتون لا تموت، وإنما تبقى حتى تنطق وتشهد عليهم لمحاسبتهم على جريمتهم.
حرب تخريب فاشلة عسكرياً:
لقد اعتقد طغاة الحرب في إسرائيل في سكرة مفاجأة سقوط استراتيجية الردع، التي كانوا قد عاشوا في ظل وهمها لعقود طويلة، أنهم قادرون على اقتحام غزة في ساعات، وإعادة احتلالها والبقاء فيها أو تركها أرضا خرابا. وخلال أكثر من ثلاثة أسابيع قتلت إسرائيل أكثر من عشرة آلاف فلسطيني من بين المدنيين، أكثر من نصفهم من الأطفال والنساء، منهم ما يقرب من ألفين ما تزال جثامينهم تحت ما خلفته عمليات القصف من الجو والبر والبحر من ركام. كما وضعت إسرائيل في سجونها آلاف الفلسطينيين بلا تهمة غير هويتهم، وما تزال حماس قادرة على إرسال الصواريخ إلى تل أبيب، وإطلاق جنودها لمطاردة الدبابات الإسرائيلية، التي دخلت إلى مقبرة لن تخرج منها سليمة. إنها ليست حرب «إسرائيل – حماس» كما صدرت التعليمات لتسميتها، وإنما هي حرب إبادة ضد الفلسطينيين، وإن الشعب الفلسطيني لا يموت، وأشجار الزيتون لا تموت، وإنما تبقى حتى تنطق وتشهد عليهم لمحاسبتهم على جريمتهم. إن دخول القوات الإسرائيلية إلى قطاع غزة على مراحل، مع استمرار حملة الضربات الجوية ليلا ونهارا، هو دليل على تخبط أجهزة الحرب الإسرائيلية، وعلى فشلها في تقدير النتائج المتوقعة من الضربات الجوية المركزة، التي استمرت ثلاثة أسابيع بلا نتيجة عسكرية. وقد جاء دخول القوات البرية الإسرائيلية ليغطي على خلافات بين القيادتين العسكرية والسياسية، وخلافات بين الحكومة والرأي العام، ومحاولة لقطع الطريق على زيادة الضغط السياسي العالمي، الذي بدأت تمارسه بعض الحكومات سرا على إسرائيل، بعد التحولات الهائلة في الرأي العام العالمي لمناهضة الحرب والدعوة إلى السلام. مقياسنا هنا هو التصويت على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، والتغيرات المتتالية في نبرة الخطاب السياسي الأمريكي والبريطاني تجاه الحرب. إن حكومة الحرب الإسرائيلية تعرف أن الوقت ليس في مصلحتها، ولذلك فإنها استعجلت الاقتحام البري، وهو يبدو متعثرا، بدليل إنها ما تزال تعتمد أساسا على الضربات الجوية، وليس على المدفعية والدبابات. ومن المرجح أن تلجأ القوات الإسرائيلية إلى التركيز على منطقة وسط مدينة غزة، وتسوية المدينة كلها بالأرض إذا احتاج الأمر، اعتقادا أن ذلك يمكن أن يرهب الشعب الفلسطيني ويقتل إرادة المقاومة. لكن الشعب الفلسطيني لا يموت، وأشجار الزيتون لا تموت، وإنما تبقى حتى تنطق وتشهد عليهم لمحاسبتهم على جريمتهم.
غزة أقوى من دريسدن:
وقد اعترف نتنياهو وحكومة الحرب أن المرحلة الثانية ستكون صعبة، وقد تستمر عدة أشهر، وليس عدة أيام أو أسابيع. كما يدور الحديث أيضا عن إنها ربما تتركز فقط في مدينة غزة وشمال القطاع، بهدف تدمير المدينة تماما، وإقامة منطقة عازلة داخل القطاع تفصله عن إسرائيل، تكون بمثابة «منطقة موت لمن يدخلها» كما قال مئير بن شبات رئيس معهد ميسجاف لدراسات الأمن القومي، رئيس مجلس الأمن القومي السابق، الذي أمضى حوالي 30 عاما في قيادة جهاز الشاباك. وكان بن شبات قد اقترح التدخل فورا يوم 8 تشرين الأول/ أكتوبر لأن الوقت ليس في مصلحة إسرائيل، ودعا لإقامة منطقة عازلة بعمق 300 متر. لكن الآراء الآن بين العسكريين الإسرائيليين تتجه للعمل على أن يكون العمق عدة كيلومترات. هذا يعني عمليا تخفيض المساحة القابلة للسكن في القطاع بنسبة 10 في المئة على الأقل، إذا افترضنا أن عمق المنطقة العازلة سيكون في حدود 3 كيلومترات. لكن إسرائيل لا يمكنها دائما تحقيق ما تريده، خصوصا إذا تصدت لها إرادة المقاومة الفلسطينية؛ فالشعب الفلسطيني لا يموت، وأشجار الزيتون لا تموت، وإنما تبقى حتى تنطق وتشهد عليهم لمحاسبتهم على جريمتهم.
ومع بدء المرحلة الثانية من حرب الإبادة الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، اقترح بن شبات، الذي يحتفظ بعلاقة قوية مع نتنياهو وحكومة الحرب الإسرائيلية، أن يتم تدمير مدينة غزة، وأن تكرر إسرائيل بطريقتها الخاصة ما فعلته طائرات الحلفاء من تدمير مدينة دريسدن الألمانية في شباط/ فبراير 1945. عملية دريسدن تلك ما يزال بعض المؤرخين حتى الآن يعتبرونها جريمة حرب، وقد خلفت وراءها أكثر من 35 ألف قتيل، ونزح بسببها حوالي 250 ألف شخص، وكانت عملية جوية استمرت لمدة ثلاثة أيام شارك فيها الطيران البريطاني والأمريكي. وإذا عقدنا مقارنة، فإن عملية إبادة دريسدن تتضاءل أمام ما لحق بغزة من حرب الإبادة ضد الفلسطينيين، إذ تجاوز حجم ما أطلق عليها من نيران كل ما أطلقته بريطانيا وأمريكا على دريسدن، ونزح من سكانها أكثر مما نزح من سكان دريسدن. وتتعرض غزة الآن للقصف من الجو والبحر والبر، وليس من الجو فقط كما كان في دريسدن. وهي ما تزال صامدة للأسبوع الرابع، بينما سقطت دريسدن بعد ثلاثة أيام. إن غزة رغم أطنان القنابل والصواريخ والقذائف التي تسقطها عليها إسرائيل، التي تجاوزت كميتها وقوتها النيرانية التدميرية ما تعرضت له دريسدن، ستنهض من بين الأنقاض قوية شامخة جميلة كما كانت؛ فالشعب الفلسطيني لا يموت، وأشجار الزيتون لا تموت، وإنما تبقى حتى تنطق وتشهد عليهم لمحاسبتهم على جريمتهم.
* كاتب مصري
المصدر: القدس العربي