(الحرية أولاً) ينشر حصرياً الكتاب المفقود «في الفكر السياسي» بجزئيه، للمفكرين “الأربعة الكبار”، وهذه الحلقة الحادية والعشرون من الجزء الأول– (13). العلاقات بين الأمم الاشتراكية؛ بقلم الأستاذ “الياس مرقص”
(13). العلاقات بين الأمم الاشتراكية
1- المصلحة القومية والأمم الاشتراكية
في كتابه « المسألة القومية واللينينية، الصادر عام ۱۹۲۹، أضاف ستالين إلى نظريته فكرة جديدة هي التمييز بين نوعين من الأمم: الأمم البرجوازية (أو الرأسمالية) والأمم الاشتراكية. فالأمم البرجوازية تزول مع سقوط النظام الرأسمالي وتحل محلها الأمم الاشتراكية.
وبما أن المصلحة القومية مصلحة برجوازية، لذلك فان التناقض بين الأمم يزول بزوال الأمم الرأسمالية وقيام الأمم الاشتراكية التي تُحقق فيما بينها الانسجام التام. وإن هذا الانسجام ينشأ، إن صح القول، تلقائيا وآلياً. ولا يعترض الانسجام المطلق إلا رواسب النزعة القومية البرجوازية في ذهنية بعض الناس، وهي، على كل حال، رواسب تحدّها وتلجمها المثل العليا العامة للأمم الاشتراكية وستزول سريعاً بانتشار التربية والثقافة..
و مما يساعد على زوال النزعات القومية المحلية وروح الشك وعدم الثقة لدى الشعوب التي كانت ترزح سابقاً تحت نير استعمار الأمة الكبرى، العون النزيه الذي تقدمه لها هذه الأمة، في ظل الاشتراكية.
وهذا الانسجام التام والتعاون الأخوي الوثيق في العالم الاشتراكي يفسح المجال لتفتح وازدهار جميع الأمم تمهيداً لاندثارها واندماجها في أمة واحدة تتكلم لغة عالمية واحدة تنشأ من اندماج اللغات الحية، وتقتبس من كل لغة خير ما فيها من حيث المفردات والقواعد وهكذا يتحقق للعالم سلم أبدي وحياة رغيدة.
تلك هي آراء ستالين حول الأمم الاشتراكية ومستقبلها كما عرضها في كتابه «المسألة القومية واللينينية» عام ۱۹۲۹، وزادها شرحاً ووضوحاً في كتابه «الماركسية وعلم اللغة» الصادر عام 1950.
إن نبوءات ستالين عن المستقبل البعيد لا تهمنا بقدر ما يهمنا موقفه من الأمم الاشتراكية وعلاقاتها في الحاضر، نقصد في الفترة التي عاصرها ستالين.
هل الانسجام تام بين الأمم الاشتراكية؟
إن تاريخ الاتحاد السوفياتي والدول الاشتراكية يثبت العكس.
فقصة الشركات المختلطة والفحم البولوني، والصدام مع يوغسلافيا، وإعدام أقطاب ما سمي «بالشيوعية القومية»، الخ… هذا كله يدل على أن الاتحاد السوفياتي في ظل القيادة الستالينية « قد سقط في مواقف توسعية استعمارية»، دون أن يكون الاتحاد السوفياتي دولة استعمارية الطابع، وبالرغم من كونه دولة اشتراكية تناوئ الرأسمالية والاستعمارية.
أجل: «إن البروليتاريا لن تصبح قديسة ومعصومة عن الأخطاء والزلات بمجرد أنها حققت الثورة الاجتماعية، ولكن الأخطاء المحتملة (والمصلحة الأنانية ومحاولات الجلوس على ظهر الآخرين) ستدفعها حتماً إلى إدراك هذه الحقيقة» (لينين حركة التحرر الوطني في الشرق ص۱۱۰).
هذا ما حذّر منه لينين في عام 1916: أخطاء، زلاّت، أنانية، جلوس على أكتاف الغير … مع العلم بأن لينين لم يكن ليتصور مدى هذه الأخطاء ولم يكن ليتصور آنذاك احتمال تسلط فرد معين، وصفه بالروح الشوفينية والتوسعية والبيروقراطية، على حركة العمال.
والحقيقة إن القضية لا تنحصر في تسلط فرد وأوصاف هذا الفرد. إنها قضية موضوعية تستمد جذورها من وضع الشعوب وتطورها الاجتماعي والاقتصادي، فالاشتراكية بمجرد انتصارها، لا تحقق بصورة مباشرة وبين عشية وضحاها، التفاهم والانسجام الكامل بين الأمم .- هذا أقل ما يمكن أن يقال بعد 45 عاما من التطبيق الاشتراكي !-.
لماذا?
الجواب الذي يخطر على البال للوهلة الأولى، الجواب الذي ألفنا سماعه والذي يعتمد على نظرية ستالين في الأمم الاشتراكية، هو أن ذلك يعود إلى الرواسب الذهنية السياسية والفكرية البرجوازية، تلك الرواسب التي لا تطبع الأشخاص فحسب بل تطبع الجماعات الإنسانية أيضاً. أي أن السبب سبب ذاتي لا يرتكز على أساس موضوعي، فالأمر يتعلق «بتخلف الوعي عن الوجود». (ما دامت مصالح الأمم، كما يقال، واحدة في ظل الاشتراكية).
هذا التعليل لا يكفي. والقول بأن مصالح الأمم واحدة في ظل الاشتراكية قول خاطئ، من الوجهة العملية: الشركات المختلطة، الفحم البولوني الخ… وهو خاطیء من الوجهة النظرية أيضاً.
لنرجع إلى قول لينين. إن لينين لم يحذّر من قلة الوعي، أو من قلة الوعي فقط. بل حذّر أيضاً من المصلحة الأنانية، وأشار إلى أن البروليتاريا لن تصبح قديسة الخ…
فالقضية هي قضية مصلحة، وإن إشارة لينين الصريحة إلى المصلحة الأنانية وإلى محاولات الجلوس على ظهر الآخرين تعني أنه قد أدرك تماماً أن مصالح الأمم ليست متماثلة في ظل الاشتراكية. فلو كانت متماثلة، لما كان ثمة أي مجال للتحدث عن الأنانية.
إن مصالح الأمم ليست متماثلة تماماً في ظل الاشتراكية. والخلاف بين الأمم ممكن.. وموضوعه توزيع الانتاج الاجتماعي.
إن البشر، في حياتهم وتاريخهم، يخضعون لقانون أساسي هو قانون التناقض . والتناقض على أنواع: التناقض الذي يقوم على أساس التنافي والتناقض الذي لا يعني التنافي (راجع ماوتسي تونغ: حول التناقض).
ويتجلى التناقض بين البشر في الصراع بشتى أشكاله: صراع الطبقات وكذلك صراع الأفراد وصراع القبائل والشعوب والأمم.. ويدور هذا الصراع بالدرجة الأولى حول توزيع فائض العمل، منذ أن وُجد هذا الفائض أي منذ أن انقسم المجتمع إلى طبقات.
عند ما تبلغ أدوات الإنتاج درجة معينة من التطور- عصر المعادن، عصر الحديد، ظهور الزراعة والتعدين- يصبح بإمكان الفرد العامل أن ينتج احتياجه وفائضه عن هذا الاحتياج، هو فائض العمل، عندئذ يصبح استخدام الرقيق عملية مربحة. فينشأ نظام الرق: ويكون الشكل الأول لظهور الرقيق تحويل أسرى الحرب إلى عبيد، بدلاً من قتلهم كما كانت تفعل من قبل. ولا ينحصر ظهور وتوسع نظام الرق في هذه الصورة، بل يسلك طرقاً أخرى كتحويل المُزارع العاجز عن تسديد الدين إلى عبد، بموجب القانون.. (راجع مؤلف أنجلس: أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة).
إن ظهور فائض العمل، بنتيجة تقدم القوى المنتجة ولا سيما أدوات الإنتاج، يؤدي إلى انقسام المجتمع إلى طبقات، وهو يؤدي في الوقت نفسه إلى التنازع على توزيع فائض العمل، ومن الواضح أن هذا التنازع لا يقتصر بالضرورة على صراع الطبقات، إنما نجد، إلى جانبه وبالتشابك معه، صراع القبائل والشعوب والأمم.
إلا أن صراع الطبقات يلعب الدور الأساسي بشكل عام ويقرّر، إلى حد كبير، صراع الشعوب والأمم.
إن فضل كارل ماركس يكمن في أنه قد أبرز، من بين أشكال الصراع المختلفة، صراع الطبقات، موضّحاً ما يتصف به الانقسام الطبقي من عمق وشمول وقِدم، مبيّناً الأساس الاقتصادي للصراع الطبقي في علاقات الانتاج.
إلا أن كارل ماركس لم ينفِ، ولو مرة واحدة ، أشكال الصراع الأخرى. ولم ينفِ، على وجه التحديد، الفوارق القومية واختلاف المصالح- أي التناقض- بين الأمم. بل كان يعارض «النيهيلستية القومية»(13)، ويتخذ موقفاً محدداً من كل مسألة قومية: قضية المجريّين والبولونيين والتشيكيين في عام 1849، وقضية إيرلندة، والحرب الفرنسية- الألمانية عام 1870 الخ…
ومن المعروف أن كارل ماركس انتقد بشدة النظرية الاقتصادية الكلاسيكية السائدة في عصره، والتي كانت ترى أن تقسيم العمل- أي تقسيم الفعاليات الاقتصادية- على النطاق الدولي، الناتج عن نظام التبادل الحر أمر يتفق مع مصلحة جميع الأمم.
أجل. ثمة من يقول: أن ذلك يتعلق بالنظام الرأسمالي، ولا علاقة له بالاقتصاد الاشتراكي. ولكن الواقع أن تقسيم العمل بين الأمم الاشتراكية ينجم، إلى حد بعيد، عن ظروف العهود السابقة، وهو، إلى حد بعيد ولفترة طوية استمرار لتقسيم العمل في عهد الرأسمالية.
إن مصالح الأمم ليست واحدة في ظل الاشتراكية. والخلاف ممكن حول توزيع الانتاج، ما دام المجتمع الإنساني لا يزال بعيداً عن سد كل حاجاته. ويعود اختلاف المصالح بالدرجة
الأولى إلى تفاوت درجات التطور الاقتصادي للأمم .
إن اختلاف أو تناقض المصالح يبقى في المجتمع الاشتراكي، على الرغم من أن الأمم الاشتراكية تجمعها مصالح اشتراكية مشتركة. وقد تظهر الخلافات، في مجتمع اشتراكي متعدّد القوميات، حول مسألة كيفية إدخال وتوزيع وسائل وامكانيات الإنتاج الجديدة، وبالتالي وفي نهاية التحليل، حول مسألة توزيع الدخل الاجتماعي.
وهذا التناقض الذي يقوم بين الأمم، قد يقوم أيضاً داخل الأمة الواحدة بين المناطق والأقاليم.
لقد انقسم المجتمع الإنساني، منذ ظهور فائض العمل، إلى طبقات تتنازع على توزيع الإنتاج الاجتماعي. ويزول هذا الانقسام بانتصار الاشتراكية.
إلا أن نهاية النزاع الطبقي لا تعني بالضرورة نهاية كل نزاع ونهاية النزاع القومي بالذات.
إن تعارض الطبقات في المجتمع الطبقي، يطغى على كل ما عداه، ويحجب التناقضات القومية النوعية. وبما أن نشوء الأمم في أوروبا يتم مع تشكل الطبقة البرجوازية، فان الأمة تظهر كإطار لنشوء ونمو الرأسمالية. وهذا ما يدفع إلى الاعتقاد بأن ليس ثمة تناقضات قومية خاصة وأن التناقضات القومية ليست إلا تعبيراً خادعاً عن التناقضات الطبقية.
ولكن انتصار الاشتراكية يبدّد هذا الاعتقاد الخاطئ، وذلك بقدر ما يقضي على الطبقات والتناقضات الطبقية، دون أن يقضي على التناقضات القومية.
والتناقضات القومية تعني، أول ما تعني، اختلاف المصالح القومية.
القومية والأممية
2- الاتحاد السوفياتي
إن الاتحاد السوفياتي ليس دولة اشتراكية فقط. إنه أيضاً دولة لها مصالح حكومية وقومية محددة، اقليمية واقتصادية وثقافية.
في عام 1939- 1940، وفي عام 1945، ضم الاتحاد السوفياتي عدداً من المناطق إلى أراضيه:
منطقة فلنيوس والأجزاء الغربية من بيلوروسيا ومنطقة غاليسيا (من بولونيا)، بیسارابيا وبوكو فين الشمالية من (رومانيا)، روثينيا (من تشيكوسلوفاكيا)، نصف بروسيا الشرقية (ألمانيا)، منطقة بتشنغا- بتسامو- وفيبورغ- فيبوري (من فنلنده)، جزر كوريل وجنوبي ساخالین (من اليابان).
وإن هذه التعديلات الإقليمية قد تمت باسم المصلحة القومية. وقد كانت تعديلات مشروعة.
ولكن هذا يعني أن هناك مصالح قومية للدولة الاشتراكية ولكل دولة اشتراكية.
وقد تكون هذه المصالح القومية مشروعة أو غير مشروعة. وقد تتفق مع مصلحة الحركة البروليتارية في العالم وقد لا تتفق معها. وقد تصطدم، بل ومن طبيعة الأمور أن تصطدم، بمصالح قومية لدول أخرى، اشتراكية أو غير اشتراكية، مشروعة وغير مشروعة.
وباسم المصالح القومية، طالب الاتحاد السوفياتي بقارص وأرضهان، وأقام شركات مختلطة في رومانيا والمجر والصين الشعبية.
وبالإضافة إلى المصالح المادية، لا بأس أن نذكر المصالح الثقافية والأدبية.
ففي فترة 1948- 1953، أعلن الاتحاد السوفياتي أسبقية الروس في عدد من الاختراعات والاكتشافات العلمية:
فأول من عبر المضيق الفاصل بين آسيا وأمريكا هو الكوزاك الروسي دجنیف وليس بهرنغ، وأول من وطأت أقدامهم قارة المتجمد الجنوبي هم الملاحون الروس بقيادة بلغهاوزن ولازاريف، وأول من اخترع الآلة البخارية هو عامل روسي في مصانع الأورال قبل جيمس وات، وأول من اخترع الدراجة هو عامل روسي من مدينة بنزا، وأول من اكتشف قانون حفظ المادة هو العام الروسي لومونوسوف وليس الفرنسي لافوازییه، وأول من اخترع الإناره الكهربائية هو الروسي لاديغين وليس الأمريكي إديسون، وأول من اخترع الراديو هو الروسي بوبوف قبل الإيطالي ماركوني، والطائرة صنعها الروسي جوكوفسكي قبل الأخوة رایت، وأول من اكتشف الفيروس العالم الروسي ايفانوفسكي، وأول من اخترع التلفزيون الروس أيضاً الخ…
وهكذا لم يترك السوفيات اختراعاً ذا شأن للشعوب الأخرى. ومن المطالبة بحقوق أدبية مشروعة(14) انتقلوا، في آخر أيام ستالين إلى السعي وراء احتكار حقيقي لتاريخ الاختراع والاكتشاف، مبتعدين عن الروح العلمية والأممية.
………………
الهوامش:
(13) أي العدمية القومية أو اللاقومية.
(14) تلك هي الحال، على ما نعتقد، بالنسبة إلى لومونوسوف، بلنغهاوزن ولازاريف، بوبوف، ايفانوفسكي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يتبع.. الحلقة الثانية والعشرون بعنوان: (14). القومية والأممية؛ بقلم الأستاذ “الياس مرقص”