وليد حبّاس *
بينما ينصب الاهتمام عادة على الجانب التفاوضي من صفقات تبادل الأسرى، فإن هناك جانباً آخر لا بد من استعراضه في هذه المقالة، وهو “كيف تتخذ إسرائيل القرار داخليا؟”.
بالنسبة لإسرائيل، تعتبر صفقات تبادل الأسرى من أكثر الأمور تعقيداً من ناحية اتخاذ القرار، وتبريره للمجتمع الإسرائيلي، وفق موازين الربح والخسارة. هذه المقالة تستعرض هذه الديناميكيات بإيجاز.
ما هو المدخل الذي تستخدمه إسرائيل لمعالجة قضية الأسرى؟
في الدين اليهودي هناك نصان أساسيان عادة ما تتم العودة إليهما، الأهم بينهما نص منسوب إلى موسى بن ميمون (الرمبام) ويقول فيه: “ليست لديك فريضة دينية أعظم من فدية أسير [أي تحريره مقابل فدية /صفقة تبادل]”. وقد استحضر بنيامين نتنياهو هذه العبارة في حديثه إلى الإعلام قبيل اجتماع الحكومة الإسرائيلية بتاريخ 21 تشرين الثاني الحالي لإقرار صفقة التبادل. ومع ذلك، هناك نصوص أخرى في مشناة التوراة (الشروحات الدينية التي كتبها موسى بن ميمون في بداية القرن الثالث) تدعو إلى تحرير الأسرى اليهود لكن ليس بأي ثمن.
وهذان النصان الدينيان يقعان في صلب النقاش الدائر حاليا في المجتمع الإسرائيلي، ويساهمان في تشكيل رأي الدولة، المجتمع، الإعلام والمؤسسات الدينية في إسرائيل. لكن التعامل الرسمي للحكومة الإسرائيلية بالإضافة إلى المنظومة الأمنية-الاستخباراتية لا يضع الخطاب التوراتي الديني كمرجع أساسي، وإنما كخطاب ثانوي يظل في خلفية النقاش. في المقابل، ترى الباحثة كيرن راز، التي درست صفقات التبادل التي قامت بها إسرائيل، أن الحكومة الإسرائيلية تعالج قضية تبادل الأسرى ليس من منطلق ديني وإنما سياسي من خلال إطارين اثنين:
1). نظريات المفاوضات: وهي إطار يركز على أساليب المساومة، والضغط على الآخر (في هذ الحالة حركة حماس).
2). نظريات الأمن والعلاقات الدولية: أي علاقات القوة وجدلية الربح والخسارة والقنوات الدبلوماسية وموقف الرأي العام من القضية.
في كل مرة، يتفاعل هذان الإطاران أثناء اتخاذ القرار المتعلق بإتمام صفقة التبادل.
ما هي اعتبارات الربح والخسارة التي تضعها الحكومة الإسرائيلية أمامها؟
هناك وجهان لجدلية الربح والخسارة، بالنسبة للحكومة الإسرائيلية: أولا، ترى إسرائيل أن الإفراج عن أسرى فلسطينيين محددين قد يشكل تهديدا قوميا لها. ففي صفقة تبادل العام 1985، تحوّل العديد من قيادات الحركة الأسيرة الذين أفرج عنهم، بعد عامين، إلى القادة الميدانيين للانتفاضة الأولى. أما يحيى السنوار، الذي تتهمه إسرائيل بتخطيط وتنفيذ هجوم 7 أكتوبر الماضي، فقد تم الإفراج عنه في صفقة تبادل العام 2014. وبالتالي، أحد أهم الاعتبارات التي تضعها المؤسسة الأمنية الإسرائيلية أمامها هو منع تكرار مثل هذا السيناريو، لكن قد لا تنجح باستمرار، وذلك للسبب الثاني: وهو الخوف على حياة الأسرى الإسرائيليين ومصيرهم. ففي العام 1986، وقف الطيار رون أراد الإسرائيلي في قبضة تنظيم أمل في لبنان، وأفشلت إسرائيل صفقة تبادل لاستعادته في أثناء محاولتها استخدام أسلوب تفاوض غير مرن، إلا أن النتيجة كانت أن الاتصال مع خاطفيه انقطع، ثم انقطعت الأخبار عنه حتى اليوم. ويعيد الإسرائيليون استذكار هذه الحادثة ويخشون من تكرارها مع حركة حماس. ولا بد من الانتباه بأن العلاقة بين الدولة والفرد في إسرائيل تقوم على ادعاء “أن دولة إسرائيل هي الملاذ الأكثر أمانا ليهود العالم”.
كيف تتفاعل اعتبارات الربح والخسارة، إذن؟
ثمة العديد من المتغيرات والعوامل التي تؤثر بلا شك على جدليات الربح والخسارة. هناك ثلاثة سيناريوهات تضعها الحكومة الإسرائيلية أمامها: أولا، إطالة أمد عملية التفاوض قد تؤول إلى فقدان حياة الأسير الإسرائيلي أو انقطاع السبل لإعادته. ثانيا، إطالة عملية التفاوض وإدارتها وفق اعتبارات أمنية وسياسية إسرائيلية قد تساهم في تعميق التصدع داخل المجتمع الإسرائيلي، خصوصا من طرف عائلة الأسير. مثلا، في الحرب المفروضة على قطاع غزة، تطالب عائلات الأسرى الإسرائيليين حكومتها بإبرام صفقة تبادل فورية تحت شعار “الجميع مقابل الجميع”، وهذه العائلات ترفض أن يتحول أبناؤها إلى مادة مساومة وفق الاعتبارات الأمنية والعسكرية التي تضعها القيادة الإسرائيلية. ثالثا، في المقابل، ترى الحكومة الإسرائيلية بأن “الخنوع” لمطالب الجهات الخاطفة نزولا عند مشاعر أهالي الأسرى الإسرائيليين قد يشير إلى نقطة ضعف ستكون الفصائل الفلسطينية قادرة على استغلالها في المستقبل وتكرار عمليات الخطف. وقد عالجت أطروحة ماجستير في الجامعة العبرية هذه المعضلة في دراسة شملت ثلاث حالات كان فيها هذه التناقض في صلب النقاش داخل المجتمع الإسرائيلي. وللتذكير، فقد اختطفت حركة حماس في القدس الجندي الإسرائيلي نحشون فاكسمان العام 1994، ورفضت إسرائيل التعامل معه ضمن منطق “التبادل”، الأمر الذي أدى إلى مقتله وظلت الحادثة عالقة في الذهن الإسرائيلي.
كيف تزيد إسرائيل من حظوظها المتعلقة بحسابات الربح والخسارة؟
تتعلق الاعتبارات أعلاه بالثمن الذي تكون إسرائيل على استعداد (أو مرغمة) على تقديمه. في المقابل، ثمة ثلاث أدوات عادة ما تستخدمها إسرائيل في إدارة ملف تبادل الأسرى. هذه الأدوات قد نجدها في العديد من صفقات تبادل الأسرى التي لها بعد سياسي (لتميزها عن مفاوضات الرهائن في سياقات غير سياسية).
أولا: إلى جانب اللاعبين الرئيسيين في مفاوضات تبادل الأسرى (في حالتنا: الحكومة الإسرائيلية وقيادة كتائب عز الدين القسام في قطاع غزة)، هناك العديد من اللاعبين الآخرين الذي قد يكون إشراكهم في المفاوضات عاملا مهما. حاليا، تستخدم كل من إسرائيل وحركة حماس قنوات إضافية مثل الوسيط القطري، والقاهرة، والمخابرات الأميركية. بعض هؤلاء اللاعبين على علاقة بطرف واحد وبعضهم على علاقة بطرفين. إسرائيل تستخدم قنواتها الدبلوماسية، ومنظومتها الأمنية- السياسية، لجعل دور أي لاعب إضافي بمثابة (game changer) لصالحها، وذلك بحسب قدرتها.
ثانيا، التفاعل الإعلامي مع قضية الأسرى. في حالة الجنديين الإسرائيليين أورن شاؤول وهدار غولدين واللذين أسرتهما حماس في حرب العام 2014 (وغير معلوم ما إذا كانا على قيد الحياة)، فإن إسرائيل استطاعت أن تضبط التفاعل المجتمعي مع قضية إطلاق سراحهما من خلال تقييد الاحتجاجات، تقنين عمل وسائل الإعلام للحيلولة دون إبراز القضية بشكل مستمر. وبالتالي منحت إسرائيل نفسها مساحة مريحة للتفاوض مع حماس بعيداً عن ضغط الشارع. في ما يخص قضية الأسرى الإسرائيليين بعد 7 أكتوبر، فإن قدرة إسرائيل على ضبط الشارع تكاد تكون صفراً، خصوصاً لأن هناك أطفالاً ونساء من بين الأسرى، كما أن عددهم الكبير يجعلهم قضية رأي عام غير قابل للضبط.
ثالثا، ومع فتح القنوات الجانبية للتفاوض غير المباشر، فإن إسرائيل تستخدم الآلة العسكرية لتقييد قدرات حماس على التفاوض بشكل مريح. فقد أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، بالإضافة إلى معظم قادة الأجهزة الأمنية، بأن للمناورة البرية هدفين: ليس فقط إنهاء قدرات حماس، وإنما أيضا توفير شروط أفضل بالنسبة لإسرائيل لاستعادة أسراها. قد يكون التوغل البري، والتدمير شبه الشامل للبنية التحتية للقطاع، وتواجد عشرات الآلاف من الجنود الإسرائيليين داخل أرض المعركة، عوامل ضغط على حركة حماس- وهذه قضية تحتاج إلى تحليل عسكري، للوقوف على دلالاتها ومعانيها، ليس هنا مجال عرضه.
* كاتب وباحث رئيسي في المركز الفلسطيني للدارسات الإسرائيلية (مدار)
المصدر: “مدار” (المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية)