بسام شلبي
كل سنة في ذكرى وفاة والدي رحمهُ الله، كنتُ أحب أن أذكر شيئاً مما جمعَته خبرته في مجال التربية، الذي قضى فيه أكثر من ستة وثلاثين عاماً، لكن هذه السنة وبسبب ظروف العدوان الصهيوني سأذكر شيئاً م
ن خبرته العسكرية، فما لا يعرفه إلا قلة عنه أنه قضى أكثر من ثلاث سنوات من عمره في القطاع الجنوبي من الجبهة كملازم احتياط في سلاح المدفعية من أواخر عام ١٩٥٨ إلى أواخر عام ١٩٦١ قضاها متنقلاً بين “الحمة” إلى “فيق” ومن “طبريا” إلى “التوافيق” و قد كان حاضراً معركتها.
وكان لديه كنزٌ من المعلومات والأسرار لكنه لم يبُح بها حتى إلى أقرب المقربين منه حيث كان يعتبرها أسرارا عسكرية مؤتمن عليها.
والقصة أن كيان العدو اعتبر أن الوحدة بين مصر وسورية عام 1958 عمل عدائي ضده وتهديد مباشر لأمنه، فقام باستنفار سياسي وعسكري، وبدأ بتسخين الجبهة الشرقية باعتداءات واشتباكات متفرقة في مواقع عديدة، وكذلك الجيش العربي السوري قام باستنفار واستعداد الاحتياط، ومن ضمنهم كان والدي رحمهُ الله، فقد كان رامي مدفعية متوسطة المدى، وقد حضر كثير من هذه الاشتباكات، ومعظمها كانت قصيرة لا تتجاوز اليوم الواحد عدا معركة التوافيق التي وقعت مطلع عام ١٩٦٠ و استمرت عدة أيام متواصلة.
وشهادة والدي تقول أن الاوامر جاءت لكتيبتهم للتحرك من “كفر حارب” الى “التوافيق” بعد رصد قوات مُهاجمة تتقدم نحوها وعندما وصلوا إلى “التوافيق” كان فيها استحكامات جيدة وبدأوا التمركز وتطوير الخنادق، ولكن ما لبث أن بدأ هجوم قوات العدو عصراً بقصف مدفعي كثيف جداً استمر طوال الليل، إلى الدرجة التي ظن فيها أنه لم يبق سواه حياً في الكتيبة، وكذلك كان هذا الشعور لدى الآخرين.
ومع خيوط الصباح بدؤوا بالتحرك من الخنادق لإحصاء الضحايا وتبين له أن أثار القصف المرعب في الظلام كانت أقل بكثير مما توهموه، رغم أنه خَلفَ دماراً وعدداً قليلاً من الضحايا الذين استشهدوا في اليوم الأول، وقد استخلص أن هذه عقيدة العدو العسكرية باستخدام قوة نارية مفرطة لبث الرعب الذي يدمر الروح المعنوية ويُخمد إرادة المقاومة. اليوم الثاني كان اسوأ مع قصف معادي أكثف واستخدام سلاح الطيران وكان عدد الشهداء أكبر.
و لكن من اليوم الثالث بدأت المعنويات ترتفع وقامت القوات العربية بقصف مضاد للقوى المهاجمة والمستوطنات القريبة وأوقعت فيهم خسائر مهمة، وتدخل الطيران السوري وأجبر طائرات العدو على التراجع، وفي اليوم الرابع بدأ هجوم بري مضاد بتغطية نارية مكثفة من سلاح المدفعية وأجبرت القوات المهاجمة على التراجع بعد خسائر كبيرة وصلت إلى ٢٥٠ قتيلاً وفق إحصائياتهم.
و أيضاً ارتقى عدد كبير من الشهداء في الجانب السوري وكان من بينهم ضابط برتبة نقيب مصري وقد دفنه بيديه في أرض المعركة لعدم إمكانية نقلهم وقتها.. وكذلك شهيدان اثنان مصريان برتبة صف ضابط، قاتلوا واستُشهدوا ودُفنوا في الجبهة السورية، وهذه شهادة عيان خلافاً للرواية والمزاعم الرسمية التي تم تكريسها بعد الإنفصال بأن الضباط المصريين كانوا يأتون إلى سورية للترفيه أو البقاء في مركز قيادة الأركان أو نادي الضباط وأنهم لم يخوضوا أي اشتباكات أو معارك وأنهم كانوا يتعاملون مع الضباط السوريين بفوقية واستعلاء.. وهذا كلام غير دقيق.
وأنا أنقل على ذمة الوالد رحمهُ الله أنه قابلَ خلال تواجده في عدة مراكز على الجبهة العديد من الضباط وضباط الصف المصريين وكان يشهد بالحق أنهم كانوا أكثر مهنية وانضباطاً من أشقائهم السوريين ربما بحكم أقدمية الجيش المصري واكاديميته العسكرية.. وعند الاشتباكات قاتلوا ببسالة إلى جانب أشقائهم، وهذه شهادة أنقلها كما سمعتها منه للإنصاف والحق والتاريخ، لأن الروايات الرسمية لحكومات ما بعد الانفصال حاولت طمسها أو تشويهها.
ملاحظة: معركة التوافيق، وقعت في 31 كانون الثاني/ يناير 1960 تحت قيادة العقيد الركن “جادو سعيد عز الدين” قائد الجبهة السورية أثناء الوحدة بين مصر وسورية.
المصدر: صفحة الكاتب على وسائل التواصل