الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

تراجيديا (7 تشرين الأول/ أكتوبر) ستقسم تاريخ إسرائيل إلى ما قبل وما بعد

رسلان عامر *  

خاص «الحرية أولاً»:

لقد رأى العالم كله في (7 تشرين الأول/ أكتوبر) ليس ضعف أجهزة المخابرات الإسرائيلية والجيش الإسرائيلي فحسب، بل رأى أيضا أن دولة إسرائيل لا تستطيع حماية مواطنيها. عن أسباب فشل المخابرات الإسرائيلية، وعدم استعداد الجيوش الحديثة لهجمات مفاجئة، ولماذا، من الناحية الأخلاقية، يخسر الإسرائيليون هذه الحرب، ففي مقابلة أعدت خصيصاً لبرنامج “المراجعة الدولية” في قناة روسيا 24، أجراها السيد “فيودور لوكيانوف(Feodor Lukyanov)”(**) رئيس تحرير مجلة “روسيا في الشؤون الدولية”، مع السيد “رسلان بوخوف (Ruslan Pukhov)”(***) عضو المجلس العام التابع لوزارة الدفاع في الاتحاد الروسي، ومدير “مركز تحليل الاستراتيجيات والتقنيات (CAST)”، حول طوفان الأقصى وتداعياته بشكل خاص على الكيان الصهيوني… كان هذا الحوار:

لوكيانوف: للأزمة في الشرق الأوسط جانب سياسي ولكن هناك أيضا جانب عسكري؛ فهل هناك فهم ما لكيف يمكن أن يحدث ذلك، وأن يتم تفويت عملية جيدة التحضير بوضوح من تحت أنف الإسرائيليين؟

بوخوف: في الواقع، على الرغم من جميع الانتقادات المثيرة للجدل حول هذا الفشل في مجال الاستخبارات، هناك العديد من الأمثلة في التاريخ؛ والأمر يتعلق بأن النشاط الاستخباراتي هو ليس فقط جمع المعلومات، حيث كانت الاستخبارات العسكرية الأمريكية والسوفيتية دائماً قوية في هذا الجانب مثلاً، ولكنه أيضاً يتعلق بتفسير ونقل هذه المعلومات إلى القيادة السياسية العليا، وهنا تنشأ المشاكل في كثير من الأحيان، سواء على مستوى استيعاب القيادة السياسية العليا (يمكننا أن نتذكر ستالين في عام 1941، الذي كان يرفض ببساطة المعلومات الاستخبارية التي لم تعجبه)، أو على مستوى كيفية قيام قيادة الاستخبارات بتعبئة هذه البيانات للقيادة السياسية العليا.

في العمل الكلاسيكي للعالِم السياسي الأمريكي المشهور “روبرت جيرفيس” “لماذا تفشل الاستخبارات: دروس من الثورة في إيران وحرب العراق”، هناك هذه الجُمل: “إذا كان توقع دقة المعلومات الاستخبارية يجبر السياسيين على البحث عن تقديرات تعزز مواقفهم وتمنحهم الثقة، فإن معرفة أن المعلومات الاستخبارية تخطئ في كثير من الأحيان تسمح لهم برفض أو تجاهل التقارير غير المريحة”؛ أي أنه يمكنك تحويل الأمر بالطريقة التي تريدها.

الإسرائيليون كانوا يركزون بشدة على حزب الله والضفة الغربية وإيران، وبدا لهم أن حماس هي الحلقة الضعيفة، وأنهم يعرفون كل شيء في غزة، ومن المؤكد أن غزة كانت مليئة بعملائهم، لذلك كانوا متأكدين تماماً من أنهم لا ينبغي أن يتوقعوا هجوماً من هناك.

لوكيانوف: هل كان هناك شيء آخر بالإضافة إلى المفاجأة؟ هل كان هناك أي ابتكار من جانب حماس؟

بوخوف: المدهش ليس حقيقة أن حماس تصرفت بشكل إبداعي، رغم أن المرء لا يستطيع أن ينكر وجود قدر معين من البراعة وسعة الحيلة لديها، لكن المدهش هو كم كان الإسرائيليون ضعفاء، ومن الواضح أن حماس وأولئك الذين قدموا لها الاستشارة درسوا عيوب النظام في الدفاع الإسرائيلي على مدى عدة أشهر، إن لم يكن سنوات.

لو كان الإسرائيليون صلبين مثل الصخرة فعلاً، لما تمكن أحد من مس هذه الصخرة، ولكن الماء سيجد الثقوب، وهذا بالضبط ما حدث في هذه الشقوق حيث تسرب الماء، وتمزقت “الصخرة” المزعومة، ولذا فإن الجميع ذُهل من ضعف الإسرائيليين، على الرغم من أن أولى علامات ضعفهم ظهرت في عام 2006، عندما لم تسرِ العملية ضد لبنان وفقًا للسيناريو المرسوم في تل أبيب.

لوكيانوف: الضعف هنا ليس تكنولوجيا، وليس من حيث المعدات، بل هو عقلي، على ما يبدو؟

بوخوف: أعتقد أن الضعف الرئيس يكمن في عدم تقدير الإسرائيليين لحقيقة أن العرب الذين كانوا يهزمونهم منذ عام 1948 وحتى عام 1982 لم يعودوا هم أنفسهم الذين يحاربونهم الآن؛ المجتمع العربي تطور بشكل كبير، خاصة العرب الذين يعيشون بالقرب من إسرائيل، وهم اليوم إلى حد كبير مجتمعات صناعية وما بعد الصناعية، ولم يعودوا تلك التجمعات من الفلاحين التي كان من السهل تفريقها بواسطة الجيش الإسرائيلي والقوات الخاصة الإسرائيلية الأكثر تنظيماً، فتخيلوا للحظة أنه بعد عشر سنوات في غزة، كل ساكن يمتلك طائرة مروحية مسيرة مزودة بقنبلة، ماذا سيفعل الإسرائيليون في ذلك الوقت؟

لوكيانوف: بخصوص الطائرات الرباعية المزودة بقنابل، والطائرات الشراعية، والدراجات النارية، وكل ما رأينا هنا، أنا لست خبيراً ولا أستطيع الحكم، ولكن لدي شعور بأن التطور العسكري والتقنيات المكّلفة بشكل مجنون التي تستخدم، والأسلحة قد تجاوزت مرحلة ما، بحيث لم يعد لها أي دور، عندما يكون هناك في جهة مئات الملايين من الدولارات لإطلاق طلقة واحدة، وفي الجهة الأخرى هناك دراجة نارية؛ هل هذا صحيح حقًا؟ أم أنه مجرد وهم؟

بوخوف: أي جيش، وأي قوة مسلحة، حتى القوة الانتفاضية، يجب أن تعمل، بشكل مبدئي، على مستويين من الحركة، فيجب عليك بالتأكيد أن تمتلك كمية معينة (ويفضل أن تكون بأكبر قدر ممكن) من الأسلحة التكنولوجية العالية التكلفة، ولكن هذا لا يلغي حقيقة أنه يجب عليك أيضاً أن تمتلك كمية هائلة من الأسلحة التكنولوجية المنخفضة التكلفة التي يمكنك استخدامها دون النظر إلى تكلفتها؛ من وجهة نظر التكلفة الفعلية، كم كلفت هذه العملية لحركة حماس؟ 20- 25 مليون دولار؛ وأعتقد أن العمل الواحد يكلف إسرائيل أكثر بكثير، ويصل إلى مئات الملايين من الدولارات، وإذا أرادوا احتلال غزة، التي أصبحت الآن ليست قرية بل مدينة كبيرة تضم مليوني شخص، فستكون هذه عملية مكلفة بشكل هائل، وأنا بعدُ لا أتحدث بالفعل عن الإصلاحات التي ستلي هذا الفشل في الخدمات الاستخباراتية والقوات المسلحة، والتي ستتطلب أيضاً استثمارات كبيرة وزيادة في الميزانية العسكرية.

لوكيانوف: القرن الحادي والعشرين قد عرض علينا عدداً كبيراً من الحروب بالفعل؛ لكن بشكل ما غير ملحوظ، الخبرة قد تراكمت بشكل كبير، فهل يمكن القول، بناءً على ما حدث الآن وسابقاً (سواء في أوكرانيا أو سوريا أو اليمن وغيرها)، أن هناك اتجاهات عامة لتطور فن الحرب؟

بوخوف: نعم ولا.. فمن جهة، كانت الطائرات بدون طيار تُصنع بالأساس قبل عشر سنوات فقط في مصانع عسكرية، وحصراً بأمر من وزارات الدفاع أو مؤسسات أمنية أخرى؛ لكن الآن الأمور مختلفة تماماً، وجميع المقاتلون يفعلون الشيء نفسه، حيث يمكنك تأخذ طائرة بدون طيار لمصور زفاف من شركة دي جي (DJI)، أو يمكنك أن تأخذ شيئاً أرخص أو أشبه به وتربط عليه قنبلة وها هو السلاح القاذف؛ ولاحظ أنه ليس الأوكرانيون هم الأوائل الذين فعلوا ذلك، بل قام به مقاتلو تنظيم “الدولة الإسلامية” (المحظور في روسيا)؛ وهكذا يمكن لقنبلة تكلف عدة مئات من الدولارات أن تدمر دبابة “ميركافا” التي تبلغ تكلفتها عدة ملايين من الدولارات؛ وفي مجال التجسس، يتيح التكبير بمعدل عشرة أو عشرين مرة متابعة ساحة المعركة في الوقت الفعلي وإزالة ضبابية الحرب، لذلك هناك ثورة معينة.

ومن ناحية أخرى، لا يوجد شيء جديد تحت القمر، وهذا النجاح غير المتوقع الذي حققته حماس هو، مع بعض التعديل، مماثل للانتفاضة البولندية في وارسو عام 1944، التي تم تنظيمها وفقًا لنفس الأنماط تقريبا؛ لقد رأينا ذلك مرات عديدة: هجوم مفاجئ يهدف إلى إضعاف معنويات العدو؛ وأيضاً دعونا نتذكر على الأقل الهجوم المسلح على غروزني في آب/ أغسطس 1996، عندما دخل المهاجمون بشكل غير متوقع المدينة التي كانت تسيطر عليها القوات الحكومية؛ إن مثل هذا الهجوم، خاصة إذا رافقه تغطية إعلامية جيدة، يهدف إما إلى كسر معنويات العدو وإسقاطه، أو إلى إلحاق ضرر لا يمكن إصلاحه بصورته، وهو ما حدث بالفعل مع إسرائيل؛ لقد رأى العالم كله ليس ضعف أجهزة المخابرات الإسرائيلية والجيش الإسرائيلي فحسب، بل رأى أيضا أن دولة إسرائيل لا تستطيع حماية مواطنيها، وأعتقد أن مأساة السبت هذه ستقسم تاريخ إسرائيل إلى ما قبل وما بعد.

لوكيانوف: هناك أيضاً نقطة هامة مفادها أن حجم رد الفعل ونقص معين في الفرامل قد يكون أيضاً حافزاً لمزيد من التطور الكارثي إلى حد ما.

بوخوف: من المدهش أن نقتبس من أردوغان، لكنه أشار بشكل مناسب للغاية إلى أنه إذا كانت دولة إسرائيل تتصرف الآن كمنظمة، على غرار حماس، فيجب أن نتعامل معها كمنظمة، وليس كدولة.

إن الهياكل غير الحكومية، التي، بشكل عام، لا تطالب بأية قيم عالية، يمكنها أن تسمح بشيء كهذا، لكن آلة العنف التابعة للدولة لا يمكنها أن تنحدر إلى هذا المستوى, ويبدو أن الإسرائيليين يخسرون من الناحيتين الأخلاقية والمعنوية.

………………

 (**) فيودور لوكيانوف (Feodor Lukyanov): رئيس تحرير مجلة “روسيا في الشؤون الدولية” منذ تأسيسها عام 2002؛ رئيس هيئة رئاسة مجلس السياسة الخارجية والدفاعية لروسيا منذ عام 2012؛ مدير العمل العلمي في نادي فالداي الدولي للمناقشة؛ وأستاذ باحث في “المدرسة العليا للاقتصاد” في “الجامعة الوطنية للأبحاث”.

(***) رسلان بوخوف (Ruslan Pukhov): عضو المجلس العام التابع لوزارة الدفاع في الاتحاد الروسي، ومدير “مركز تحليل الاستراتيجيات والتقنيات (CAST)”.

ــــــــــــــــــــــ

* مهندس وباحث ومترجم سوري

المصدر الأصلي على موقع مجلة “روسيا في السياسة الدولية” (Russia in Global Affairs) في 20\10\2023

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.