اتهم رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق “إيهود باراك” رئيس الوزراء الحالي “بنيامين نتنياهو” بأنه يُلحق ضرراً جسيماً بمكانة إسرائيل الإستراتيجية، وحذر في مقالة له نشرتها صحيفة “هآرتس” الصهيونية من أن التوتر، في العلاقة الأميركية- الإسرائيلية “يتراكم في الغرف المغلقة، وقد ينفجر”. ماذا تضمنت مقالة باراك التي ترجمتها مؤسسة الدراسات الفلسطينية من العبرية إلى العربية؟
بعد مرور ما يقارب الشهرين على الحرب، بتنا أقرب إلى نقطة الحسم. لقد حقق الجيش الإسرائيلي إنجازات هائلة في شمال غزة، بيْدَ أن حركة “حماس” لا تزال بعيدة عن التفكك في الجنوب، ولا تزال تحافظ على قدرات عسكرية لها في الشمال أيضاً.
إن استكمال هدف تقويض القدرات العسكرية لحركة “حماس”، هو أمر حيوي لا يضاهيه هدف آخر، حتى في ظل معارضة جهات لهذا الهدف. إن كنا نرغب في الحياة في هذه البيئة الخطِرة. فإن تحقيق هذا الهدف يتطلب شهوراً طويلة، وربما أكثر. لكن الساعة العملياتية الميدانية والساعة السياسية الدبلوماسية غير متزامنتَين. فالشرعية الدولية للعمل العسكري في قطاع غزة باتت تقترب من خط النهاية بسرعة، كما أن التوتر، في مواجهة الولايات المتحدة أيضاً، يتراكم في الغرف المغلقة، وقد ينفجر. إن رئيس الحكومة، المسؤول عن إيجاد هذا التزامن، وتوفير الوقت المطلوب، أخفق في تحقيق الأمر، وهذا ما يوصلنا إلى نقطة الحسم.
هناك تأجيلات وفقدان للحظة الحسم التاريخي المتأتية من صفقة المخطوفين، لكن هذه التأجيلات مبررة. إن إطلاق سراح الأسرى ليس أقل أهمية من تحطيم حركة “حماس”، بل هو أهم، ويجب أن يُمنح الأولوية العليا. إن فشل نتنياهو في قيادة الحرب ناجم عن عدم إدراك أنه في الحالة التي نواجهها، لا يمكننا تحقيق النصر من دون أن يكون للمرء موقف واضح ومحدد من “اليوم الذي يتلو الحرب”، ومن دون أن يملك خطة عمل لتطبيق هذا الموقف. إن مثل هذا الموقف قد يتيح تحديد الجهات الفاعلة، وكيف يمكن العمل في مواجهتها الآن، لكي تكون هذه الجهات حاضرة، حين يحين الوقت. الجهات المقصودة هنا هي الولايات المتحدة، ومصر، والأردن، الشريكة في اتفاقيات أبراهام، والسعودية، ومَن يعمل في مقابل هذه الجهات بنجاح، وحده يملك القدرة على الحصول على الشرعية الإقليمية لاستكمال تقويض حركة “حماس”.
من الصعب قبول مقترحات نتنياهو، لأن كثيراً من النظريات التي طوّرها وتفاخر بها الرجل، انهارت صبيحة السابع من تشرين الأول/أكتوبر، تتلخص هذه النظريات في المقولات التي رددها نتنياهو:
1). “تُعتبر حركة ’حماس’ مكسباً، أما السلطة فهي عبء”.
2). “يمكن ’إدارة’ النزاع من دون اتخاذ أي قرارات حسم صعبة”.
3). “من الممكن التوصل إلى سلام مع السعودية والعالم العربي، في ظل تجاهُل الفلسطينيين”.
4). “نتنياهو يمثّل مستوى آخر من العمل السياسي والدبلوماسي”. هل هذا صحيح؟ ماذا عن عمله مع بوتين، ماذا عن أوباما، أو بايدن، أو السنوار؟
5). “نتنياهو هو سيد الأمن بلا منازع”.
أهو حقاً الرجل نفسه الذي قال “إن الإرهاب حين يشم رائحة الضعف، يبدأ برفع رأسه؟
تتغلغل الشكوك الثقيلة في قلب مَن يعرف نتنياهو ويحدّق به اليوم، فيما يتعلق بأهليته لقيادة منظومة معقدة من هذا النوع. ومن اللائق أن يكرس مؤيدوه أيضاً لحظة للتفكير في هذه النقطة: هل نحن نتحدث حقاً عن إنسان مؤهل للقيام بمثل هذه المهمة؟
يتجاهل نتنياهو الجانب الحيوي والمصيري من مسألة العلاقات القائمة على الثقة مع البيت الأبيض، بهدف تحقيق أهداف إسرائيل، لقد قامت الولايات المتحدة بنشر قوات عسكرية لها في الإقليم بصورة غير مسبوقة، لكي تحذّر إيران وحزب الله، وتقديم الدعم لإسرائيل، في إطار وقوفها ضد “محور الشر”: إيران، وسورية، وحزب الله، و”حماس”، وأمثالهم، والتي تعمل بدعم من روسيا. ترى الولايات المتحدة “اليوم الذي يتلو الحرب” بمصطلحات قوة استخباراتية عربية، انطلاقاً من سياسات المحور المعتدل المذكورة أعلاه، الذي سيستلم، بعد ضمان تقويض حركة “حماس”، وضمان التسويات الأمنية، السلطة من إسرائيل لفترة محدودة، يتم خلالها خلق “سلطة فلسطينية (سلطة معززة)، ويساعدها في السيطرة على القطاع. بحسب تصوُّر جو بايدن، يُعتبر الأمر خطوة أولى على طريق تحقيق حل الدولتين. ولذا، فهو مستعد لتقديم الدعم لإسرائيل، على المستويَين العسكري والاقتصادي، في مجلس الأمن، وفي لاهاي.
لقد عقد نتنياهو حلفاً غير مقدّس مع إيتمار بن غفير، وبتسلئيل سموتريتش، وكلّ من هاتين الشخصيتين كناية عن مُشعل حرائق، ويحاولان أيضاً إضرام النار في الضفة الغربية. وهما بدورهما، يوفران له الحماية في مواجهة الأصوات التي تطالب بإقالته الفورية. لكنهما يستغلان بصورة أساسية اعتماده عليهما لفرض موقفهما بشأن استئناف السيطرة والمسؤولية الإسرائيلية الكاملة على قطاع غزة، وهي خطوة تعني، مع فرص تحقُّق عالية، الغرق في وحل غزة، والصراع، وتكبيدنا الخسائر على مدار سنوات، إلى جانب حدوث أزمة في العلاقات مع الإدارة الأميركية، وتشكيل خطر حقيقي على علاقاتنا بكلّ من مصر والأردن، وعلى اتفاقيات أبراهام، وعلى فرصة التوصل إلى اتفاق التطبيع مع السعودية.
ظاهرياً، يبدو أن هذا الأمر بعيد التحقق، لكن الجوانب المرتبطة بـ “اليوم التالي” تستوجب منذ اليوم تنسيقاً وبناء علاقات ثقة بين الأطراف، حتى من خلف الكواليس، مع الولايات المتحدة وجيراننا. لن يمكننا إرساء مثل هذه العلاقة في ظل وجود الحكومة الراهنة، لأنه لا يوجد في الشعب الإسرائيلي، أو في واشنطن، أو عواصم المنطقة، إنسان يصدق كلمة واحدة تخرج من فم هذا الرجل، فضلاً عن تصديق التزاماته المؤجلة التي ستُطرح خلف الأبواب المغلقة بشأن مواقف إسرائيل في المستقبل، عندما يكون جيراننا مطالَبين باتخاذ إجراءات مؤلمة، وفي مدى بعيد. في ظل غياب مثل هذه الخطوة، يُحتمل أننا نسير قدماً نحو الفشل في المعركة. كما يُحتمل أن نضطر إلى الاختيار بين الرهان الاستراتيجي غير المضمون بتاتاً، الذي يستند إلى جنون العظمة النرجسي الذي يعانيه نتنياهو، وبين الرؤى الميسيانية لبن غفير وسموتريتش، أو تراجُع كبير في موقفنا تحت ضغط دولي، في ظل حاضنة استراتيجية مكسورة.
سيقول الكثيرون، محتجين، ما الذي تتحدث عنه يا رجل؟ لقد أدركنا أخيراً، في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، أننا سنعيش إلى الأبد، مستلّين سيوفنا، كل العرب هم “حماس”. لا جدوى من الغرق في الأوهام. لكنني أقول إن الأمر غير دقيق. إن الغضب والسعي للانتقام هما أمران إنسانيان ومفهومان، لكن يُحظر علينا التعامل معهما بصفتهما مرشداً جيداً للعمل الدبلوماسي. لقد شهد الجيل الذي أنتسب إليه عشرات السنوات من الحروب المتكررة، والصعبة، وما لا نهاية من النشاطات، من ضمنها النشاط في مواجهة كلّ من مصر والأردن. عندما كنا شبّاناً، لم نكن نعتقد أصلاً أننا سنشهد اليوم الذي نعقد فيه معاهدات سلمية مع هذين البلدين. أما اليوم، فإن السلام الذي يستمر بيننا وبين هذين البلدين، على التوالي، مدة 45 و30 عاماً، قد صمد في اختبارات خطِرة، وبات يشمل تعاوناً أعمق كثيراً مما تعرفه العامة.
علاوةً على ما تقدّم، فإن المنطق الحديدي، الذي يدفع أشخاصاً طيبين إلى التفكير في أن أمننا يعتمد على السيطرة التامة والدائمة لإسرائيل على قطاع غزة، سيدفعهم، بالمنطق نفسه، إلى الحاجة إلى السيطرة على لبنان، ولاحقاً على سورية، ولاحقاً، ربما، على الإقليم بأسره.
الخلاصة هنا، هي أن حكومة نتنياهو تقودنا إلى ضرر جسيم، يطال مكانة إسرائيل الاستراتيجية، وإلى حرب لا نهاية لها. هذه خسارة كبيرة. على نتنياهو الاستقالة من منصبه، قبل أن تصبح عواقب ضعفه ضرراً غير قابل للإصلاح. في ظل الظروف الحالية، هناك حاجة إلى حكومة وحدة وطنية موسعة، من دون نتنياهو، أو بن غفير، أو سموتريتش. هذه الحكومة وحدها هي القادرة على التصرف بمسؤولية وحزم، بعيداً عن الاعتبارات الخارجية والمشوهة، وهي التي ستكون قادرة على قيادة إسرائيل نحو الانتصار في الحرب.
إن المجتمع المدني الإسرائيلي، الذي تكشّفت قدراته المذهلة عندما غابت الحكومة تقريباً، وجنود وضباط الجيش الإسرائيلي، الذين سرعان ما عادوا إلى صوابهم ليتصرفوا بشجاعة وكفاءة في مواجهة العدو، هم مصدر قوتنا، وهم مرتكز الأمن في مستقبلنا. هؤلاء، وأنتم، عائلات القتلى والمخطوفين، وتجمّعات المهجرين، وجميع المتطوعين في هذا الشعب، نحن جميعاً، نتوقع من القيادة السياسية أن تثوب إلى رشدها، وأن تقوم بالعمل الصحيح، وأن تعود إلى السير على طريق تحقيق أهداف الحرب، وإعادة ترميم الأمن والثقة، وفتح صفحة جديدة أفضل، من أجل مستقبل إسرائيل.
المصدر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية