الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

المسألة الطائفية في سورية

علي الحاج حسين *

إن التستّر على المرض لا يعني أنه غير موجود، والشرخ الطائفي في سورية ليس وليدَ الأمس، فقد كانت الطائفية موجودة وممارسة في الدولة والمجتمع، لكنّها ظلّت من التابوهات التي يُمنع الحديث عن انتشارها حتى في المجالس الخاصة، وبدا أن المجتمع متجانس، شكلًا، غير أن الجمر كان يتّقد تحت الرماد، تغذيه ممارسات النظام، وما هذا الوضع الاجتماعي المزيّف سوى نسخة رديئة عن أنظمة شرق أوروبا الشيوعية سابقًا.

ومع أوّل تصدّع للسلطة المركزية في دمشق عام 2011، تهشم الشكل الخارجي للمجتمع المتناسق ظاهريًّا، وكانت الطائفية في البداية حاضرة في المشهد بشكل خجول، لكن سرعان ما تجلّت بأقبح مظاهرها، من تنكيل وذبح وتقطيع وحرق للآخر المختلف، واتضح أن السلطة ضالعة في النفخ برماد الطائفية، لتعزيز هيمنتها على مجتمع غير متماسك.

جذور الطائفية:

يتكون المجتمع السوري من خليط اثني وديني ومذهبي، أبرز مكوناته العرب السنّة والمسيحيون والدروز والشيعة والمرشدية والإيزيدية، إضافة إلى التنوع القومي ممثلًا بالأكراد، والتركمان، والشركس، والأرمن إلى جانب العرب.

تُجمِع أغلب النخب الثقافية السورية على أن الطائفية في شكلها المتشدد دخيلةٌ على المجتمع السوري المتسامح نسبيًّا، وقد ظهرت مظاهر الفرز الطائفي منذ تولي حافظ الأسد مقاليد الحكم، وعمقته عملية توريث السلطة، وسرعان ما حُوّلت الثورة ضد الفساد والاستبداد إلى شكل من أشكال الحرب الأهلية. ويستمرّ النظام في الشحن والتجييش الطائفي بأشكال مختلفة، ولم يسعَ يومًا لمكافحة الطائفية، بل أبقى عليها كواحدة من الأزمات التي يديرها ولا يكافحها، ليشعلها من جديد وقت الحاجة. وهذا ما فعله إبان الثورة. هذا وصف حالة راهنة تُرى بالعين المجردة، أما من وجهة نظر تاريخية، فيمكن القول إن جذور الطائفية ضاربة في عمق التاريخ، وقد مرّت نزعة الكراهية بمحطات هبوط وصعود، وكانت تتفجر كلما وجدت تربة خصبة لظهورها([1]).

أخذت الطائفية السياسية طابعًا دينيًا مقدسًا، مع أنها دعوة مباشرة لإفناء الآخر، أو على الأقل إخضاعه عنوة، مع “قميص عثمان” المدمى، أي أن جذور الطائفية في المجتمعات الإسلامية عمومًا، والعربية خصوصًا، هي سياسية صرف، وتمتد إلى سقيفة بني ساعدة، حيث كان الخلاف على الخلافة فحسب([2]). وتمت عملية رعاية الخلاف وتطويره حسب الحاجة في الحقبة الأموية، وتجلى في أقوى صوره في المرحلة العباسية، ثم أخذ أشكالًا مختلفة إلى أن تبلور في بداية القرن الرابع عشر، على يد تقي الدين أبو العباس الملقّب بشيخ الإسلام (ابن تيمية) وأتباعه من المتشددين السنّة، ويقابله التشيع الفارسي الذي انتهجه عباس الصفوي، بأبعاد سياسية وواجهة دينية أيضًا([3]).

بعد سقوط جدار برلين، عصفت رياح التغيير في أوروبا، وأعادت هيكلتها، وعدّلت حدودها وتحالفاتها، ولم يكن المشرق بمعزل عن هذه التغيرات، أضف إلى ذلك العامل الداخلي، وخاصة هيمنة حكومات استبداد وفساد، مما عزز نزوع الإسلام السياسي بقوة نحو العنف، كما هي الحال اليوم في العراق، ولبنان، واليمن، وسورية.

حجم الأزمة الطائفية وأبعادها وخطورتها:

تعدّ الطائفية السياسية المغلّفة بقدسية دينية أخطرَ أنواع الطائفية على الإطلاق، فهي لا تُقصي الآخر فحسب، بل تبيح سفك دمه لمجرد أنه مختلف، وتمارس عملية تفرقة وتجييش من خلال استحضار التاريخ وإعادة روايته بسردية تخدم فرض سياسة وساسة من صنف معين، مما يشجع على الكراهية، ويُحدث شرخًا في المجتمع، فينشغل المواطنون عن مساوئ الحكام ببعضهم، فيسهل التحكم والتلاعب بمصائر الشعوب، وتصبح كل طائفة دولة داخل الدولة، كالنموذج العراقي واللبناني.

ومنذ استيلاء نظام الأسد على السلطة في سورية، رعى الطائفية والتفرقة الاثنية ضمنًا، وأنكرها علنًا، مثلًا كانت الوظائف السيادية في الدولة حكرًا على طائفة معينة، وهمّش بقية المكونات([4]). وظلّ جمرها تحت الرماد، خاصة لدى بعض كبار السنّ وأغلب رجال الدين، وتجلّت خطورتها بوضوح مع بداية الثورة، حين بدأ النفخ في النزاع طائفيًا بقوة، من طرف النظام، ثم من طرف الإسلام السياسي بفرعيه السني والشيعي، فتجذرت وتعمّق الشرخُ، وانتشرت حتى في أوساط الشباب، وشاهدنا نتائج جد مؤلمة. لكن بالرغم من ذلك، يبقى جيل الشباب أكثر تقبلًا للمفاهيم العلمانية والمدنية.

تقع جميع مكونات المجتمع السوري من أتباع الأديان والطوائف والاثنيات تحت تأثير مباشر لمصادر “بؤر” الشحن الطائفي أو العرقي، وترعى هذه البؤر سلطات وجهات تنفيذية على الأرض، تتمثل بحكومة دمشق وسلطات الأمر الواقع وشراذم داعش والنصرة، يستخدم هؤلاء كل ما يتوفر من أدوات الشحن، لتأجيج النزاع، وبيدهم مقبض خفض أو رفع مستوى النزعة الطائفية والعرقية. وتؤول أبرز حوامل تصاعد النزعة الطائفية إلى:

  • جذور تاريخية يعاد استحضارها.
  • أطراف خارجية تحالفت مع الأطراف المتحاربة.
  • جرائم ارتكبتها بعض الأطراف المتحاربة فولدت نزعة الانتقام.
  • الانهيار الاقتصادي والاجتماعي بسبب الصراع المستمر.
  • انهيار البنية التحتية.
  • نقص في الموارد وتوقف الإنتاج.
  • فقدان الوظائف وارتفاع معدلات الفقر.
  • انهيار شامل ازداد تعقيدًا مع تفاقم الصراعات الطائفية والتوترات الاجتماعية في عموم أنحاء البلاد.

أمثلة وحلول:

من تجربة شخصية، شهدتُ عن قرب عملية الانتقال السياسي من الشمولية إلى التعددية في أوروبا الشرقية، ورصدتُ معالجة انتشار النزعة الطائفية المكبوتة في الحقبة الشيوعية، وبروزها أثناء عملية الانتقال السياسي لدى تلك الشعوب.

مشروع النهضة البلغاري “الطائفي”– ([5]Възродителен процес)

المشروع عبارة عن عملية قمع ممنهج، من قبل الحزب الشيوعي البلغاري، بالتواطؤ مع حزب اتحاد الشعب الزراعي، وهما متحالفان في جبهة صورية، هدفها إجبار السكان المسلمين على الاندماج (الأتراك، والبوماك، والتتار، والغجر). وقد بوشر بتنفيذ هذه الخطة في بداية السبعينيات، وأخذت شكل تدابير قسرية متسارعة بين عامي 1984م – 1989م. تمثلت تدابير تنفيذ هذه السياسة في الاستبدال القسري للأسماء العربية-التركية، بالأسماء السلافيانية، وفرض قيود على استخدام اللغة لممثلي هذه المجموعات، وتقييد عاداتهم وطقوسهم التقليدية بالقوة، وحصر ممارسة شعائرهم الدينية، وتقييد ممارسة الإسلام وزيارة المساجد بشكل جذري، واستبدال طقوس الجنازة الإسلامية التقليدية بطقوس “اشتراكية”، وتطبيق الحظر على ختان الأولاد المسلمين بصرامة، كما مُنع منعًا باتًا ارتداء الملابس التقليدية، وخاصة ملابس النساء. وقد فشلت سياسة الاستيعاب القسري تمامًا، مما دفع النظام عام 1989 إلى الشروع في عملية تطهير عرقي، قوامها التهجير قسرًا إلى تركيا، وهي الأكبر في أوروبا منذ أواخر الأربعينيات.

كانت تلك السياسة متجذرة في العقيدة الرسمية القائلة بأن “جميع الأتراك البلغار تمت أسلمتهم قسرًا، إبان الإمبراطورية العثمانية، والدماء البلغارية تجري في عروقهم“، لكن، حتى لو كانت صحيحة من وجهة نظر أنثروبولوجية، فهي لا تبرر -بأي حال من الأحوال- العنف ضد الضمير، والمضايقات الجسدية للمواطنين البلغار الناطقين بالتركية.

بعد سقوط جدار برلين، حوكم المسؤولون السابقون الذين صمموا ونفذوا “عملية النهضة” المشينة، وتم تعويض المتضررين، واستعادوا ممتلكاتهم عبر عملية “الخصخصة الشاملة”، وعادوا من تركيا إلى قراهم وبلداتهم الأصلية، واستعاد حينذاك حوالى مليون مسلم بلغاري أسماءهم العربية، ويمارس هؤلاء اليوم حياتهم الطبيعية إلى جانب مكونات المجتمع الأخرى، ويشكلون مجموعات برلمانية، تشارك بفعالية في الحياة السياسية للبلد كشركاء حقيقيين في الوطن، بأصواتهم الانتخابية يسقطون حكومات ويُصدّرون حكومات. وبهذا أُسدل الستار على قضية “مشروع النهضة” الطائفي([6]). لكن الجرح لم يندمل نهائيًا، واستمر شعار “Простихме, но не забравихме” لقد سامحنا، ولكنا ما نسينا، في المرحلة التي عقبت الانتقال السياسي في البلاد.

علاج الطائفية:

لم يخلق العهد الشيوعي مجتمعًا مدنيًا متسامحًا يتساوى فيه المواطنون، بل عولجت الطائفية بالقهر والإسكات القسري عبر الأجهزة الأمنية، فعانت الأقليات الدينية والاثنية حالة التهميش، وقلّما تجد في منصب رفيع أحدًا من الأتراك والبوماك والغجر البلغار، لكن عند بدء عملية القطع مع العهد الشيوعي، تحلّق حول الطاولة المستديرة ممثلون عن مكونات المجتمع، التي صاغت الأطر العامة لتمدين المجتمع والقطيعة مع الاستبداد، كما كفلت حرية الاعتقاد في بلغاريا، وجرّمت الطائفية وفقًا للقانون([7]). إذن، أولى أدوات العلاج تتمثل بسن تشريعات لحماية الأقليات، وأهمّها- دستوريًا- المساواة التامة بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات، وحماية خصوصية الأقليات الثقافية والدينية([8]). وجدير بالذكر أن توصيف الحالة متشابه لحد التطابق في بلغاريا ورومانيا وسلوفاكيا وهنغاريا وتشيكيا وبولندا، والتي استوفت لاحقًا شروط الانضمام للاتحاد الأوروبي، بعد العلاج والشفاء التام من الطائفية. خلاصة القول أن الممارسات الطائفية في بلغاريا كانت مثالًا نموذجيًا شائعًا عن حالات مماثلة في مجموع دول حوض البلقان، مع بعض الفوارق الطفيفة. وفي السياق ذاته، نعتقد أن أغلب أدوات وآليات علاج الطائفية في البلقان قابلة للاستخدام، بل إنها تنطبق على الحالة السورية، مع تعديل طفيف تفرضه الخصوصية. وتتمثل بحلول عاجلة وأخرى على المدى البعيد. نستعرضها معًا بتكثيف منعًا للإسهاب.

الديمقراطية في مواجهة الطائفية:

في الخطاب الرسمي، لا بدّ من التفريق بين الدين ورجال الدين، ولا سيما أن عامة الناس ينتمون إلى أديان مختلفة، وهذا حقهم الطبيعي. لكن دور جميع رجال الدين ما زال سلبيًّا في المجتمع منذ 12 سنة، وهو دور إما أن يكون تحريضيًا، وإما من نموذج أئمة وقساوسة البلاط، يعرفهم الشعب بالأسماء. أما المجتمعات الديمقراطية، فلا تحتاج إلى العسكر أو رجال الدين في الحقل السياسي. ولنأخذ مثالًا مجموع أبناء طائفة السنّة في سورية، فهم لا يحتاجون إلى دسترة دين الرئيس، لأنهم أغلبية ويمكنهم بالانتخابات إنجاح من يريدون. وهذا يعني أن الإصرار على أن يتضمّن الدستور بندًا ينصّ على أن (دين الرئيس هو الإسلام) هو مطلب سياسي، وليس دينيًا. أما في الدول التي تحكمها مؤسسات مدنية فيتم انتخاب المرشح لمنصب ما، لبرنامجه الانتخابي، وليس لدينه أو طائفته أو قوميته. مثلًا، فلوديمير زيلينسكي نجح في انتخابات ديمقراطية في دولةٍ نسبة اليهود فيها لا تتجاوز 2%، وكذلك حال ريشي سوناك، باراك أوباما، حمزة يوسف، وعشرات الوافدين صاروا قادة في مجتمعات جاؤوها لاجئين.

مشاكل خلفتها مرحلة الانتقال السياسي:

يُفترض أن جميع الأديان جاءت لتسهيل حياة الناس، وليس لتعقيدها، لكن مع مرور الوقت تم تسييسها من خلال تفصيل فتاوى تناسب مآرب حاكم كل مرحلة من المراحل، وبذلك يصحّ احتساب كل الأديان طائفية بجوهرها، وتحتاج إلى كابح مؤسسي يبرز التسامح، ويوقف تغول رجال الدين- الساسة، وسن تشريعات تكف يد رجال الدين والزعامات السياسية، لئلا توظف الدين لخدمة مشاريعهم السياسية الخاصة.

لا شك أن للطائفية آثارًا خطيرة على المجتمع، ولا يمكن لأي دولة تعاني هذا المرض أن تحقق استقرارًا وأمنًا داخليًا، قبل أن تستأصل الفكر الطائفي من عقول حامليه من مواطنيها. لقد دمر الطائفيون -جزئيًّا أو كليًّا- كل المجتمعات التي هيمنوا عليها، وتحولت إلى فرق ومزق متصارعة على الدوام، ولنا مثال في أفغانستان وباكستان والعراق واليمن ولبنان، ولا تعتبر سورية استثناء.

إذن، الطائفية فكر شرير يحث على الكراهية والفتنة، ويمهد لإشعال الحروب الأهلية، ما لم تتم معالجته أصولًا. قد يكون العلاج صعبًا وبطيئًا، لكن لا بد من اتخاذ التدابير اللازمة على الصعيدين، الرسمي والأهلي. وإن أول خطوة للعلاج هي الاعتراف بوجود المرض وتشخيصه بدقة، أما إنكار وجوده فيعتبر هروبًا مؤقتًا إلى الأمام، ويستمر صب الزيت على النار في الخفاء وتأجيل انفجاره بعنف أكبر.

استنسخ النظام السوري -كما هو معروف- أسوأ ما في دول المعسكر الشيوعي آنذاك، وقلد “КГБ” كي جي بي وتفريخاته، خاصة سيكوريتاتا الرومانية، وجهاز “سيغورنوست” البلغاري التي كانت تحصي أنفاس المواطنين، حتى في غرف نومهم([9]). وبشكل خاص مراقبة أبناء الأقليات بالتنصت حتى على محادثاتهم، ومراقبة كل ما يقال في العمل وفي البيوت. وبعد سقوط جدار برلين، تم الكشف عن جزء يسير من الملفات الأمنية “الدوسيهات”، وتبين أن الكل كان يشي بالكل رغمًا عنه([10]).

مقترحات لحلول عاجلة وآجلة:

o تحصين الحدود لمنع تدفق الموارد والمقاتلين الأجانب.

o تجفيف مصادر التمويل الأجنبي للزعماء والأحزاب الطائفية وأمراء الحرب.

o تشجيع تطوير المجتمع المدني، تحسين الحوكمة.

o تعزيز دور وسائل الإعلام المحلية.

o إصدار قانون “مكافحة الطائفية”.

o تجريم حامل ومروّج الفكر الطائفي بأقصى العقوبات.

o تحديد وظيفة دور العبادة وجعلها للشعائر الدينية حصرًا.

o منح المثقفين دورًا للتشهير بالمنظرين للعنصرية والطائفية والإرهاب، في وسائل الإعلام المتاحة.

o محاربة الإعلام التحريضي وفضح مراميه.

o تشجيع الحوار والتعاون بين جميع الأطراف المعنية لتحقيق السلام والاستقرار في سورية، وذلك من خلال برامج توعوية تقوم بها مؤسسات المجتمع المدني.

ومن المهم أن تنفّذ هذه الحلول بشكل شامل ومتواز، كما فعلت أغلب دول الكتلة الشيوعية السابقة.

دور متقدم لمؤسسات المجتمع المدني:

يعتبر دور مؤسسات المجتمع المدني محوريًا في مجمل عملية مكافحة الطائفية، ونظرًا لمحدودية نشاطها في سورية اليوم، بسبب المحددات التي تفرضها كل سلطة أمر واقع في مناطقها، وكذلك النظام، يبقى التعويل على الهامش المتاح متمثلًا في دور هذه المؤسسات والمثقفين والكتّاب، عبر الإعلام المقروء والمسموع والمرئي والإلكتروني بالدرجة الأولى.

العمل على تجريم الخطاب الطائفي، من خلال دراسة منهجية لمضامين الخطاب الإعلامي، ويجب ألا تخلو فعالية أو ندوة أو نشاط إعلامي من التنبيه بخطورة الخطاب الطائفي وذم الترويج والمروجين له.

ولتعزيز الثقة المتبادلة وترميم ما خلفته الدعاية الطائفية، يجب أن يكون قوام مؤسسات المجتمع المدني مزيجًا من مكونات المجتمع كافة، وأن توضع خطة لإقامة فعاليات وأنشطة ثقافية تنويرية وفنية مشتركة للنخب الشابة من مختلف الطوائف، والذين هم نساء ورجال سورية الغد.

ظروف سورية الحالية تفتقر إلى وسائل تواصل طبيعية، وما يتوفر هو إعلام ومواقع وندوات وبثوث ذات طابع فردي أو فئوي أو مناطقي، لذا يفترض أن تتبنى مؤسسات مدنية مشروعًا موحدًا، وتشكّل لجنة تتواصل مع أصحاب الإذاعات والقنوات والندوات والبثوث الدورية، ومن جملتها المؤسسات التي تقع في مناطق إدارة النظام، لتصنيفها وتبويبها في مجموعات متعاونة وليس متنابذة، على الأقل في هذا الجانب، حتى لا نكبر الحجر، مثلًا: فنية، أدبية، ترفيهية، اجتماعية، صحية، سياسية، حقوقية…

وضع مبادرة بإشراك مديري هذه الأنشطة والمواقع والقنوات، ووضع مقترحات لتشجيعهم بما يخدم فكرة المواطنة، ويطور عملهم من خلال العمل، مما يشدهم إلى العمل المشترك، والنتيجة نشر خطاب التسامح وطمأنة الآخر وإظهار المذنب الحقيقي للنزعة الطائفية التي زرعها النظام وخدمها رجال الدين وروّج لها مثقفو السلطة. ويمكن التواصل، حقوقيًا ومدنيًا وثقافيًا، وإن بحدود دنيا، حتى مع الزملاء تحت سلطة النظام، ما لم نتناول معهم الدكتاتورية والاستبداد. ومن لا يلتزم بخطاب وطني موحد يشار إليه بوصفه لم يلتزم.

أما معالجة الفكر الطائفي المتجذر في التراثيات الدينية التي يُعاد إنتاجها بسردية جديدة، فإنها تحتاج إلى جهود مؤسسات ودول، وخاصة تنْقية المناهج المدرسية من كل ما يدعو للتفرقة بين المواطنين على أي أساس كانت.

إجراءات ضرورية:

على ضوء ما تقدّم من تجارب لشعوب نجحت في معالجة الطائفية وحالات مشابهة للوضع السوري، نخلص إلى وجوب اتخاذ إجراءات صارمة لتحقيق الهدف:

القوانين:

يفترض وضع مقترحات وتوصيات قانونية وإدراج موضوع المواطنة والمساواة بين الأفراد، كمفهوم فوق دستوري. وتقليص دور قانون الأحوال الشخصية الديني، وحصره في الجانب الشعائري فقط.

سنّ قانون لتجريم الطائفية، كما هي الحال في المملكة المتحدة، حيث إهانة شخصٍ ما، بسبب لونه أو دينه أو منشئه، عمل شائن يحاسب مرتكبه وفقًا للقانون.

تعزيز قيم المواطنة:

تقديم قيم المواطنة على الخطاب الفئوي، وتحديد مفردات يتم اقتراحها وترويجها من خلال التوجه إلى النخب السورية، لتوحيد المصطلحات في الخطاب السياسي، ويتم تعميمه على القنوات السورية كافة والستريمينغ، وإشراك مشاهير صفحات التواصل والمواقع عامة كمبادرة غير ملزمة.

التربية والتعليم:

إيلاء المناهج التعليمية أهمية خاصة، مثلًا في بريطانيا يتم تدريس الأطفال في المرحلة الإعدادية مادة ثقافية اسمها الأديان، وتضم الأديان السماوية والهندوسية والبوذية، حتى الغنوصية. وبذلك يكون لدى كل طالب معلومات كافية عن كلّ دين، وخاصة الجوانب الإيجابية فيه.

ضرورة تدعيم المنظومة القيميّة في المجتمع من خلال المدرسة، والأخذ بالاتجاهات المعاصرة في التربية على المواطنة القائمة على أسس الديمقراطية، وتداول السلطة، والتعددية السياسية وقيم المساواة والعدالة الاجتماعية.

يفترض إخراج كل ما سبق من غرف النخب الثقافية المغلقة، وتبسيط مفردات الخطاب في برامج متخصصة عبر وسائل الإعلام كافة، ليكون بمتناول جميع المستويات، وليس حكرًا على المثقفين أو في بروج عاجية، كما هو شائع، ولا سيّما أن جيل الشباب الجديد لم تتوفر له سبل التعليم.

تشجيع منظمات المجتمع المدني للتحرك بكل أنحاء سورية، لوضع خطط تجسير بين النخب والكفاءات السورية وبين مؤسسات المجتمع المدني ووسائل الإعلام المتنوعة، لجعل المادة في متناول جميع الناس دون الاصطدام بسلطات الأمر الواقع.

الإعلام:

من يتصدّر الإعلام اليوم هم أصحاب العمائم والتنانير القصيرة. والردّ على هذا المدّ الأسود ومحاصرته ممكنٌ إعلاميًا أيضًا، بأشكاله المختلفة، وإلا فسننتظر لا أدري إلى متى، ريثما نصلح شأن المعارضة والنظام، ونقيم مؤسسات الدولة المدنية العتيدة!

صار بيّنًا أن الإعلام الكلاسيكي يلفظ أنفاسه، تتوقف كبريات الصحف عن الطباعة، والراديو يتراجع، وكذلك التلفزيون على الطريق، أما الإعلام الإلكتروني فهو الذي يستمر، لأنه يأخذ أشكالًا متطورة خاصة بدخول الذكاء الاصطناعي، وأعتقد أنه سيقتصر قريبًا على الإيجاز عبر الأدوات الاختصارية، مثل إنفوغرافيك وموشن غرافيك وصورة داخل صورة. أي أن للإعلام الحديث والعصري دورًا محوريًا في معالجة هذه الآفة الاجتماعية.

ختامًا: إن علاج الطائفية المستشرية الآن في سورية ومكافحتها يتطلبان دعمًا وتشجيعًا، معنويًا وماديًا، لمؤسسات المجتمع المدني، مع إشراك جميع الكفاءات والنخب الثقافية، برعاية القانون.

هوامش:

[1] طه حسين، الفتنة الكبرى، الجزء الأول (عثمان)، دار المعارف بمصر، نسخة إلكترونية، تاريخ النشر غير معروف.

 [2] . انظر كتاب الخلاف على الخلافة (الإمامة والسياسة)، ابن قتيبة الدينوري، ج1

[3] . نبيل الحيدري، التشيع العربي والتشيع الفارسي، دار الحكمة، لندن 2014

 [4] . عزمي بشارة، الطائفة، الطائفية، الطوائف المتخيلة، المركز العربي، بيروت، 2018، ص 364 وما بعدها.

 [5] . Възродителен процес لها عدة معان: نهضة، بعث، إحياء.

 [6] . „ВЪЗРОДИТЕЛНИЯТ ПРОЦЕС“памет и заличаване, Тематичен сборник на списание „Либерален преглед“ Берлин, 2019

 [7] . Как се гарантира свободата на религия в България

مجلة الحرية للجميع: حرية الاعتقاد والضمير والكلمة بالبلغارية:

Брой 4: Гарантиране на свободата на религия в България – Април 2005

 [8] . рамковата конвенция на съвета на Европа за защита на националните малцинства, Bulgaria, 9 April 2003

 [9] . يوجد في كل مبنى سكني مسؤول مرتبط مع جهاز الأمن، وفي كل شقة جهازا تنصّت: واحد على شكل راديو موضعي، والثاني سماعة تكون عادة معلقة على يسار مدخل الشقة على شكل أنترفون.

 [10] . في مناسبات أخرى، قد يتسع المقام لتقديم أمثلة عملية خاصة من البوسنة والهرسك وبقية أشلاء يوغوسلافيا المنحلة ومجمل سكان حوض البلقان.. ليتضح كيف تجاوزوا الطائفية بعد سقوط جدار برلين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

* إعلامي سوري

المصدر: مركز حرمون

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.