الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

الآثار الأولية للحرب العدوانية على المرأة في قطاع غزّة

ريما كتّانة نزّال *

انسحبت إسرائيل من قطاع غزّةَ في عام 2005 من دون اتفاق. وفي الواقع، تقلّ مساحة القطاع عن مساحة أيّ من عواصم غربية عديدة، لكنها من أكثر البقع كثافة سكانية في العالم، والسمة الغالبة لأهل القطاع أنهم من اللاجئين الفلسطينيين بعد النكبة الفلسطينية عام 1948 بواقع 60% منهم.

ومن نافل القول إن قطاع غزّة يخضع لحصار وحشي منذ العام 2007 في أعقاب حسم حركة حماس الصراع على السلطة لصالحها بالقوّة، وقد تعرّض الفلسطينيون في القطاع لأقسى الظروف التي يفرضها الاحتلال بمواصلته شنّ حروبه واجتياحاته العدوانية وحصاره الخانق وتحكّمه في كل تفاصيل حياة سكان القطاع وإمداداتهم الحيوية. وتعتبر هذه الحرب الراهنة التي بدأت في 7 الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول) بعد عملية طوفان الأقصى، وهي الحرب الخامسة على القطاع منذ العام 2008، الأقسى والأكثر همجية، كونها حملت معها أجندات سياسية تصفوية، وأطماعا توسعية واستيطانية، وأهدافا تتمثل في الإبادة والتهجير وإحداث تغييرات استراتيجية في غزّة لم تتكشف كل تفاصيلها بعد.

الدعشنة وتبرير القتل الجماعي نحو الإبادة:

لم يكن جديداً على الشعب الفلسطيني وصْم نضاله بالإرهاب، فقد بذلت إسرائيل جهدها من أجل إلصاق التهمة بأعضاء الفصائل الفلسطينية، فأطلقت عليهم في البدايات مصطلح المخرّبين، ثم جاءت الفرصة الذهبية بعد الهجوم على برجي التجارة في نيويورك في 11 سبتمبر/ أيلول 2001، فسارعت إلى ربط حروبها على الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة وإدماجها في إطار الحرب الدولية على الإرهاب، لشرعنة بطشها واجتياحاتها العدوانية.

وعلى إثر عملية طوفان الأقصى التي طعنت كبرياء إسرائيل وجيشها في الصميم، ربطت دولة الاحتلال حركة المقاومة الإسلامية حماس بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) كمصطلح يعرفه العالم، واختبر عنف مسلحي هذا التنظيم وتطرفهم على نطاق واسع. ولقد منح اتهام الشعب الفلسطيني ومقاومته بالداعشية الاحتلال المساحة الكافية لتبرير انتقامه المفضوح، ومنحه المسوِّغات التي يحتاجها لارتكاب الفظائع والجرائم المنافية للقيم والأخلاق والقواعد المنظمة للحروب المنصوص عليها في القانون الدولي لحقوق الإنسان، والقانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف وبروتوكولاتها القاضية بتجنيب المدنيين انعكاسات الصراع.

ليست دعشنة الشعب الفلسطيني ومقاومته سُبّة عابرة، بل لها وظيفة سياسية وأخلاقية لنزع الصفة الإنسانية عن الشعب الفلسطيني بأسره، بما فيها مقاومته لتسويغ الإبادة والتطهير العرقي وتشريعهما، وإلى ارتكاب مزيد من الفظاعات، من دون اكتراثٍ بكونه شعبا غير جديرٍ بالتعاطف، لأن الخلاص من كائنات داعشية ليس خسارة.

ليست شيطنة الفلسطينيين سياسة منهجية اشتركت في التخطيط لها المؤسّسات الدينية والسياسية والأكاديمية الإسرائيلية، ومعروف أن الزعيم الروحي لحزب شاس المتطرّف، الحاخام عوفاديا يوسف، اعتبر أن العرب صراصير يجب قتلهم وإبادتهم جميعا، موصياً أتباعه بـ”ألا تشفقوا عليهم. يجب قصفُهم بالصواريخ بكثافة وإبادتهم، فهم جاؤوا من اللعنة كأشرار، ويتكاثرون في المدينة المقدسة كالنمل”. وفي السياق، دعا الأكاديمي في جامعة بار ايلان، مردخاي كيدار، إلى اغتصاب أخوات المقاومين وأمهاتهم، من أجل ردعهم عن النضال، وأخيرا صرّح وزير الدفاع، يوآف غالانت، بأنهم في حربٍ مع الحيوانات البشرية في غزّة.

لم تسلم المرأة الفلسطينية من التحريض، وقد خصّصت وزيرة العدل السابقة، أييليت شاكيد، من حزب البيت اليهودي (يمينا لاحقا) النساء في دعوتها إلى ذبح الأمهات الفلسطينيات مع أطفالهن، لأنهن من يلدن “الثعابين الصغار”، و”يدفعنهم إلى جهنم بالزغاريد والورود”، وقد حصد ما كتبته شاكيد على “فيسبوك” وقتها آلافا من علامات الإعجاب.

النساء في قلب بنك الأهداف:

أولا: بلغ عدد الشهداء في قطاع غزة من النساء والأطفال في ختام الشهر الأول من العدوان حوالى 6642، نصفهم من الإناث من إجمالي عدد الشهداء الكلي، وهو مرشّح للزيادة في كل دقيقة تمر، كما بلغ عدد الجرحى من الأطفال والنساء حوالى 17380، نصفهم من النساء، مع العلم أن نسبة النساء في المجتمع تبلغ 49% من التعداد السكاني العام. وفي كل قصف للوحدات السكنية أو الكنائس والجوامع وغير ذلك من أماكن ستظهر نسبة ما تشكّله المرأة في المجتمع.

وتعود حصّة المرأة من إجمالي الشهداء إلى طبيعة دورها الرعائي للأسرة، ما يتطلب منها التزام البيوت، التي ثبت استهدافها من الاحتلال، لدفع أصحابها إلى الهجرة، بتدمير 40 ألف وحدة سكنية خلال 30 يوما من الحرب، لأن الحكومة اليمينية المتطرّفة وضعت من بين أهدافها إجراء تغييرات استراتيجية في قطاع غزّة لم تظهر حدودها بعد.

ثانيا: بلغ عدد النساء المهجّرات نحو 800 ألف امرأة وطفلة، قابل للزيادة بسبب استمرار النزوح طلبا للأمان، إلا أنه ثبت العكس تماماً مع قصف النازحين في الحافلات، ثم قصف جميع المدن والمخيمات التي يقصدها النازحون في جنوب القطاع، وتم قصف مدرسة الفاخورة التي تؤوي النازحين، حيث لجأت النساء مع عوائلهن إلى مدارس وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) على افتراض أنها أكثر أمانا من غيرها، لكن الواقع يشير إلى الصعوبات الصحّية والإنسانية الصعبة والأمنية التي تواجهها النساء في مدارس الإيواء أو في الخيام، بسبب اكتظاظ الغرف الصفّية، وعدم كفاية المرافق الصحية وافتقاد الماء ومستلزمات النظافة.

ثالثاً: بلغ عدد الولادات اليومية في قطاع غزّة نحو 160 ولادة، حيث يقدّر عدد النساء الحوامل بنحو خمسين ألف امرأة، يلدن في بيوت الإيواء أو الخيام والشوارع في بيئة غير ملائمة للولادة، تفتقد إلى أبسط المتطلبات الضرورية للولادة الآمنة، عدا عن انعكاس فقدان المياه والمطهّرات والأدوية، ما أدّى إلى ظهور الأمراض الإنتانية والجرثومية والالتهابات بشكل عام، علاوة على استحالة إجراء عمليات الولادة القيصرية بسبب اكتظاظ المستشفيات بالجرحى ونفاد مواد التخدير، مع الأخذ بالاعتبار عدم القدرة على تلبية علاج المسنّات من صاحبات الأمراض المزمنة، وخصوصا السرطان والفشل الكلوي، بسبب انقطاع الكهرباء.

رابعا: لقد أدّى استشهاد الرجال إلى ارتفاع نسبة النساء اللواتي يترأسن أسرهن، بسبب انضمام ألف امرأة إلى شريحة النساء اللواتي يترأسن الأسر البالغة في قطاع غزّة 11%، وهو ما فاقم من أزمة فقر النساء في ظل توقف الحياة وانعدام فرص العمل وإغلاق المعابر.

خامساً: كان لانقطاع الكهرباء أثر كبير على المسشفيات، ما أدّى إلى تدمير النظام الصحي، وترك أثراً كارثياً على ذوات الأمراض المزمنة، ما يذكّر بالحصار الخانق على القطاع الذي تضاعف أثره بسبب منع المرضى من المغادرة إلى المستشفيات في الضفة الغربية والقدس للعلاج.

سادساً: لجوء نسبةٍ لم يتم حصرها من النساء والفتيات إلى تناول حبوب منع الحمل لإيقاف الدورة الشهرية بسبب ظروف النزوح والتنقل الدائم وعدم الاستقرار، إضافة إلى فقدان الفوط الصحية والمياه ومواد النظافة، ما سيُحدِث تأثيراتٍ صحيةً سلبيةً على صحتهن.

سابعاً: الافتقار إلى الحد الأدنى من النظافة الشخصية، بسبب قطع المياه أو نقصها الشديد، وكذلك عدم وجود مرافق صحية لقضاء الحاجة بشكل مناسب وصحي، بسبب الاكتظاظ الشديد وعدم تهيئة مرافق كافية من الجهات الدولية المعنية، ولا حتى الحكومية، وهو ما يخلف أمراضا ومشكلات صحية متعدّدة.

ثامناً: انتشار التوتر والإحباط بسبب عجز النساء، وخصوصا الأمهات، عن القيام بمسؤوليات وواجبات الأمومة الفطرية والطبيعية المسندة طبيعيا، إليها كتدبير الطعام وماء الشرب والعلاج والمطاعيم للأطفال، ما يضع النساء تحت طائلة العنف النفسي، ويلقي عليهن أعباء التوتر والإحباط والعنف النفسي وافتقاد القدرة على الدعم النفسي.

استخلاصات أولية:

أعادت الحرب المرأة الغزية الى ما قبل نصف قرن في مستوى المعيشة والمسؤوليات البيتية المطلوبة، علاوة على منعها من التواصل مع العالم من خلال وقف أدوات ووسائل الاتصال العادية والإلكترونية، من أجل عزلها وإشعارها بالخوف والوحدة، في ظل غياب الأمان واستمرار القتل والموت الذي يلاحقها في كل ساعة.

– تجريد النساء في غزّة من إنسانيتهن بشكل فعلي، من خلال افتقادهن كل الأدوات والوسائل العصرية أو الحديثة التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالطاقة والكهرباء، وبالتالي، إلقاء مزيد من الأعباء، من حيث الوقت وتلبية متطلبات العائلة، حيث عادت المرأة في غزّة إلى استخدام الحطب لطهو الطعام والغسيل اليدوي وشراء الأكل يوميا بسبب افتقادها الثلاجة، وغير ذلك من صعوبات يومية.

– تزايدت الأعباء النفسية على النساء، بسبب الهلع من القصف وغياب الأمان مع مشاهد الموت والتدمير والتحوّل إلى أشلاء، مع القلق على الأطفال والعائلة والزوج، إضافة إلى عدم القدرة على تفسير الحرب للأطفال، ما يرتّب على المرأة ضغوطا متزايدة، تتطلب توفير الدعم النفسي لهن في وقتٍ تحتاج فيه الأمهات إلى دعم نفسي أيضا ولا يجدنه، بسبب غياب خدمات الدعم والإرشاد وغياب القدرة على التواصل واضطراب الحياة والنظام الاجتماعي برمّته.

– ازدياد الأعباء الاقتصادية بشكل مرعب، في ظلّ التشرّد والفقر والدمار، وافتقاد الشريك أو قتله لجهة الحاجة إلى استئجار البيوت أو شراء الضروريات، بسبب توقف الأعمال مع الحرب، وخصوصا أن فقر النساء يعود إلى فترة سابقة للحرب، حيث أظهرت الاستطلاعات حاجة 40% من العائلات للمساعدات الغذائية بشكل عام، في وقتٍ توقفت فيه حتى المؤسّسات الدولية عن العمل.

– لقد بلغ عدد النساء المهجّرات ما يعادل ثمانمائة ألف امرأة وطفلة، قابل للزيادة، مع استمرار رفض إسرائيل لوقف إطلاق النار، وبالتالي، فإن لجوءهن إلى مدارس “أونروا” أو الشوارع والخيام في ظروف صحية وإنسانية صعبة، يؤدّي إلى حالة من الانكشاف الاجتماعي في البيئة المحافظة، وافتقادهن الحدّ الأدنى من الخصوصية لاحتياجات بيولوجية أكثر من غيرها، في واقع الملاجئ والخيام وظروفهما.

– قصف المدارس، بما أخرج أكثر من مائتي مدرسة من الخدمة، يؤكّد الهدف السياسي من الحرب وجعل غزّة غير صالحة لاستمرار الحياة الطبيعية التي سيطول أمر عودتها، فالمدارس بحاجة إلى تأهيل بعد إشغالها من اللاجئين، وسيؤثر في عودتها إلى عملها، كما يتوقف ذلك على إعادة بناء المدارس، ما يتسبب في تجهيل جيلٍ كاملٍ من الأبناء والبنات، وستكون الفتيات في مقدّمة المحرومين قسرا من التعليم كحقّ رئيسي من حقوق الإنسان.

بشكلٍ عام، أعادت الحرب المرأة الغزّية أكثر من نصف قرن من التنمية والبناء والحضارة، في مستوى المعيشة والمسؤوليات البيتية، إضافة إلى منعها من التواصل مع العالم من خلال وقف أدوات ووسائل الاتصال العادية والإلكترونية، ما يضاعف شعورها بالعزلة والخوف والوحدة في ظل عدم الأمان، والموت يلاحقها ويلاحق الجميع في كل ساعة.

* كاتبة وباحثة فلسطينية

المصدر: العربي الجديد

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.