نشر موقع (“بروجيكت سينديكيت” Project Syndicate) مقالا للكاتب (جوزيف ناي JOSEPH S. NYE, JR)، ينفي فيه حتمية الصراع بين الولايات المتحدة والصين نتيجة المنافسة الدائرة بينهما، ويرى الكاتب أنه من الأفضل الحفاظ على هذه المنافسة في إطار تعاوني، نظراً للمصالح الاقتصادية والسياسية المتبادلة بين الطرفين. إذ يصعب على أي منهما مواجهة تحدٍ خطر تغير المناخ أو تهديدات الأوبئة المرضية أو المشكلات العابرة للحدود الوطنية وحده. لذا من مصلحة الطرفين تجنب الصراع والتصعيد، وأن تصبح “المنافسة التعاونية” هدفاً مستداماً، حيث لا تشكل الصين أو أمريكا تهديدا لوجود الأخرى ما دام لم تتورط في حرب كبرى، وقد نقله إلى اللغة العربية الكاتب والمترجم “إبراهيم محمد علي”.. نعرض هذا المقال أدناه:
تُـعَـد منافسة القوى العظمى الدائرة بين الولايات المتحدة والصين الـسِـمة المميزة للقسم الأول من هذا القرن، ولكن لا يتفق كثيرون حول الكيفية التي ينبغي لنا أن نصف بها هذه المنافسة. يعتبرها بعض المراقبين “منافسة دائمة“، أشبه بتلك التي كانت بين ألمانيا وبريطانيا قبل الحربين العالميتين اللتين شهدهما القرن الماضي. ويخشى آخرون أن تكون أميركا والصين أقرب إلى إسبرطة (القوة المهيمنة) وأثينا (القوة الصاعدة) في القرن الخامس قبل الميلاد: “مصيرهما الحرب”. المشكلة بطبيعة الحال هي أن الاعتقاد بحتمية الصراع من الممكن أن يتحول إلى نبوءة تحقق ذاتها بذاتها.
الواقع أن مصطلح “المنافسة الدائمة” في حد ذاته مضلل. ما علينا إلا أن نتأمل في كل المراحل التي مرت بها العلاقة الصينية الأميركية منذ وصل الحرب الشيوعي الصيني إلى السلطة في عام 1949. في خمسينيات القرن العشرين كان الجنود الأميركيون والصينيون يقتلون بعضهم بعضاً على شبه الجزيرة الكورية. وفي السبعينيات، بعد الزيارة التاريخية التي قام به الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون إلى الصين، تعاون البلدان بشكل وثيق لموازنة ثِـقَـل الاتحاد السوفييتي. وفي التسعينيات، تزايدت المشاركة الاقتصادية، ودعمت الولايات المتحدة التحاق الصين بعضوية منظمة التجارة العالمية. ولم ندخل المرحلة الحالية من المنافسة بين القوى العظمى إلا في عام 2016، حيث وَصَف أحد المسؤولين الأميركيين الصين بأنها “تهديد متسارع الوتيرة”- بمعنى أنها “الدولة الوحيدة التي قد تشكل تحدياً جهازياً” لأميركا “اقتصادياً، وتكنولوجياً، وسياسياً، وعسكرياً”.
ولكن حتى لو كانت المنافسة الدائمة لا تعني ضمناً الصراع العنيف، فماذا عن “الحرب الباردة”؟ إذا كان هذا المصطلح يشير إلى منافسة محتدمة مطولة، فإننا بهذا نخوض حرباً باردة بالفعل؟ ولكن إذا كان الأمر مجرد قياس تاريخي، فإن المقارنة تصبح في غير محلها، وتهدد بتضليلنا بشأن التحديات الحقيقية التي تواجهها الولايات المتحدة من جانب الصين. كانت الاتكالية المتبادلة العالمية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي عالية المستوى على الصعيد العسكري، لكنها على الصعيد الاقتصادي أو الاجتماعي أو البيئي كانت غائبة تماماً تقريباً. اليوم، تختلف العلاقات الصينية الأميركية في كل هذه الأبعاد.
بادئ ذي بدء، لا تستطيع أميركا فصل تجارتها واستثماراتها بشكل كامل عن الصين دون أن تُـلـحِـق بذاتها والاقتصاد العالمي أضراراً جسيمة. علاوة على ذلك، لا يهدد انتشار الإيديولوجية الشيوعية الولايات المتحدة وحلفاءها، بل يأتي التهديد من نظام الاتكالية المتبادلة على المستويين الاقتصادي والسياسي والذي يتلاعب به الجانبان على نحو روتيني. الحق أن الانفصال الجزئي أو “إزالة المخاطر” في ما يتصل بالقضايا الأمنية أمر ضروري، لكن الانفصال الاقتصادي الكامل سيكون باهظ التكلفة، ولن يحذو حذو الولايات المتحدة إلا قِـلة من حلفائها. ذلك أن مجموعة متزايدة من البلدان تعتبر الصين وليس الولايات المتحدة، شريكها التجاري الرئيسي.
ثم هناك الجوانب البيئية للاتكالية المتبادلة، والتي تجعل الانفصال مستحيلاً. فلا قِـبَـل لأي دولة بالتصدي وحدها لتحدي تغير المناخ، أو التهديد الذي تفرضه الجوائح الـمَـرَضية، أو غير ذلك من المشكلات العابرة للحدود الوطنية. فنحن، في السراء والضراء، عالقون في “منافسة تعاونية” مع الصين، وفي احتياج إلى استراتيجية قادرة على تحقيق أهدف متناقضة. لا شك أن الوضع لا يشبه على الإطلاق محاولات الاحتواء أثناء الحرب الباردة.
إن تلبية تحدي الصين يتطلب اتباع نهج يستفيد من التحالفات والنظام القائم على القواعد الذي أنشأته الولايات المتحدة. ويُـعَـد حلفاء مثل اليابان، وشركاء مثل الهند، أصولاً تفتقر إليها الصين. فرغم أن مركز الـثِـقِـل الاقتصادي العالمي تحول من أوروبا إلى آسيا على مدار القرن الماضي، فإن الهند، وهي الدولة الأكثر اكتظاظاً بالسكان في العالَـم، تُـعَـد واحدة من أقدم منافسي الصين. الواقع أن العبارات المبتذلة حول “الجنوب العالمي” أو التضامن بين أعضاء مجموعة البريكس (البرازيل، وروسيا، والهند، والصين، وجنوب أفريقيا) مضللة إلى حد بعيد، لأنها تتجاهل الخصومات الداخلية ضمن هذه الفئات. علاوة على ذلك، سوف تظل ثروات الحلفاء الديمقراطيين الغربيين مجتمعة متفوقة على ثروة الصين (بالإضافة إلى روسيا) لعقود طويلة في قرننا هذا.
لكي تحرز الاستراتيجية الأميركية النجاح في التعامل مع الصين فلا بد وأن تحدد أهدافاً واقعية. إذا كانت الولايات المتحدة تُـعَــرِّف النجاح الاستراتيجي على أنه النجاح في تحويل الصين إلى ديمقراطية غربية، فمن المرجح أن تفشل. ذلك أن الحزب الشيوعي الصيني يخشى التحرير على طريقة الغرب، والصين أكبر من أن يتسنى غزوها أو تغييرها جوهرياً بأساليب قسرية. وتنطبق هذه الحقيقة على الجانبين: فالولايات المتحدة لديها مشاكل داخلية، لكن من المؤكد أن هذه المشاكل لا تدين بأي شيء لجاذبية الشيوعية الصينية. في هذا الجانب المهم، لا تشكل الصين ولا الولايات المتحدة تهديداً لوجود الأخرى- ما لم تتورط في حرب كبرى.
لا يتمثل أفضل تشبيه تاريخي هنا في أوروبا ما بعد 1945 أثناء الحرب الباردة بل أوروبا ما قبل الحرب العالمية الأولى في عام 1914. لقد رحب قادة أوروبا بما تصوروا أنه سيكون صراعاً قصير الأمد في البلقان، لكنهم حصلوا بدلاً من ذلك على سنوات الحرب العالمية الأولى الأربع الرهيبة. الآن، يتنبأ بعض المراقبين بأن تنزلق الولايات المتحدة والصين إلى حرب مماثلة حول تايوان، التي تعتبرها الصين إقليماً متمرداً. عندما التقى نيكسون وماو تسي تونج في عام 1972، لم يتمكنا من الاتفاق على هذه القضية، لكنهما ابتكرا صيغة تقريبية لإدارتها والتي دامت نصف قرن من الزمن: لا استقلال لتايوان بحكم القانون، ولا استخدام للقوة ضد الجزيرة من جانب الصين. ويتطلب الحفاظ على الوضع الراهن ردع بكين وفي الوقت ذاته تجنب أي استفزاز قد يتمثل في دعم استقلال تايوان بشكل قانوني. الحرب مجازفة، لكنها ليست مجازفة حتمية.
ينبغي للولايات المتحدة أن تتوقع صراعات اقتصادية منخفضة الحدة مع الصين، لكن هدفها الاستراتيجي يجب أن يكون تجنب التصعيد- وهو ما أطلقَ عليه وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكين مؤخرا وصف “التعايش السلمي”. هذا يعني استخدام الردع لتجنب اندلاع حرب ساخنة، والتعاون كلما أمكن، والاستفادة من القوة الأميركية الصارمة والناعمة لاجتذاب الحلفاء، وحشد الأصول المحلية اللازمة للمنافسة بنجاح. يجب أن يكون الهدف تشكيل سلوك الصين الخارجي من خلال تعزيز تحالفات أميركا ومؤسساتها الدولية.
على سبيل المثال، يتمثل المفتاح إلى تعزيز المصالح الأميركية في بحر الصين الجنوبي في اليابان، الحليفة الوثيقة التي تستضيف قوات أميركية. ولكن لأن الولايات المتحدة تحتاج أيضاً إلى تعزيز مزاياها الاقتصادية والتكنولوجية، فمن الحكمة أن تتبنى سياسة تجارية آسيوية أكثر نشاطا، وأن تقدم المساعدة إلى البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل التي تتودد إليها الصين. تشير استطلاعات الرأي العالمية إلى أن الولايات المتحدة قادرة، إذا حافظت على انفتاحها الداخلي وقيمها الديمقراطية، على اكتساب قدر أعظم كثيراً من القوة الناعمة مقارنة بالصين.
الواقع أن الاستثمار في قوة الردع العسكرية الأميركية يلاقي ترحيباً من قِـبَـل بلدان عديدة راغبة في الحفاظ على العلاقات التجارية مع الصين لكنها لا تريد الخضوع لهيمنتها. وإذا حافظت الولايات المتحدة على تحالفاتها وتجنبت شيطنة الآخرين واللجوء إلى قياسات تاريخية مضللة، فسوف تصبح “المنافسة التعاونية” هدفاً مستداماً.
……………
ــــــــــــــــــ
المصدر: الشروق