الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

كتاب «في الفكر السياسي»؛ (الجزء الأول).. الحلقة السادسة عشر

(الحرية أولاً) ينشر حصرياً الكتاب المفقود «في الفكر السياسي» بجزئيه، للمفكرين “الأربعة الكبار”، وهذه الحلقة السادسة عشر من الجزء الأول(8). الحركة القومية: طبيعتها ومحتواها الطبقي؛ بقلم الأستاذ “الياس مرقص”

 

                                                                         – 3 –

(8). الحركة القومية: طبيعتها ومحتواها الطبقي

1- موقف ستالين

إن خطأ تعریف ستالين للأمة ليس في كونه قد أكد أهمية «الروابط الاقتصادية» للأمة.

إن خطأ ستالين يكمن:

أولاً– في أنه لم يميز بين نوعين من التجزئة. وقد تناولنا هذه النقطة في الفقرة السابقة.

ثانياً– في أنه قد حصر عملياً مفهوم الروابط الاقتصادية في مفهوم «السوق الوطنية المشتركة»، واعتبر أن المصلحة القومية هي «مصلحة برجوازية أمة من الأمم في إبقاء احتكارها على سوقها القومية». واعتبر الشعور القومي «شعور جماعة انسانية متمركزة وموحدة حول هذه السوق القومية الرأسمالية».

والحال إن فكرة «الحياة الاقتصادية المشتركة» أوسع وأعمق من فكرة السوق القومية. فالمسألة ليست مسألة سوق فقط إنما هي مسألة إنتاج مشترك، وعلاقات إنتاج مشتركة، بلغت مستوى معيناً من التطور.

ولما كانت القضية، في نظر ستالين، قضية سوق تجاريه، كان من الطبيعي أن يعتبر المصلحة الوطنية (القومية) مصلحة بورجوازية، والنضال الوطني (القومي) نضالاً بورجوازياً.

لنرجع إلى الفصل الثاني من كتاب ستالين، وعنوانه «الحركة الوطنية (القومية)».

يصف ستالين الأمة بأنها «مقولة تاريخية لعهد الرأسمالية الصاعدة»، ثم يبين أن القاعدة العامة للتطور في غربي أوربا كانت تشكيل دول قومية مستقلة ذات سيادة ( وهذا ما تم فعلاً باستثناء إيرلندة ). أما في شرقي أوربا، فقد تكونت، في فترة ما قبل الرأسمالية وما قبل نشوء الأمم، وفي ظروف تاريخية خاصة (النضال ضد غزو التتر والمغول…)، دول كبرى متعددة القوميات- امبراطورية النمسا، امبراطورية روسيا-. ثم، في عهد نمو الرأسمالية، تكونت الأمم- البولونية، التشيكية، الأوكرينية الخ..- فأرادت تشكيل دول قومية مستقلة، إلا أنها وجدت نفسها مغلوبة على أمرها ترزح تحت نير الأمة الغالبة- الجرمان، الروس-. وهكذا نشأت الحركة القومية «ضد الاضطهاد».

والصراع في جوهره هو الصراع من أجل السوق بين طبقات برجوازية، أي بين الطبقة البرجوازية المغلوبة التي تريد السيطرة على ما تعتبره سوقها القومية. والطبقة البرجوازية للأمة الغالبة المسيطرة على هذه السوق. وتتخذ الحركة القومية أشكالاً مختلفة- قد تصل كما يقول ستالين بشيء من السخرية، إلى حد تحطيم لائحات الحوانيت المكتوبة بلغة الأمة المسيطرة-. ولكن مهما تنوعت الأشكال فإن الحركة تبقى في جوهرها ومضمونها الطبقي حركة برجوازية.

الصراع القومي صراع بين الطبقات البرجوازية. والطبقة العاملة غريبة- مبدئياً- عن هذا الصراع.

لماذا يهتم العمال بالصراع القومي!

ولكن- يتابع- ستالين:

أولاً- ثمة تضييقات تصيب العمال أيضاً ( قيود لغوية، ثقافية ..).

ثانياً- الجو القومي ( أي جو الصراع والمشاحنات بين الأمم ) من شأنه أن يحول انتباه العمال عن المشاكل الاجتماعية، عن الصراع الطبقي.

ثالثاً- الاضطهاد يؤدي إلى التحريض والإثارة وإلى المجازر والفتن، كما يؤدي إلى انقسام صفوف العمال والأضرار بالحركة الاشتراكية الديموقراطية.

ولهذه الأسباب فإن الحزب لا ينفض يده من المسألة القومية، بل يهتم بها، ويضع لها برنامجاً يقوم على مبدأ حق تقرير المصير ومبدأ الديموقراطية.

هكذا نرى، تفصيلياً ماذا كان يقصد ستالين بقوله: المصلحة القومية مصلحة برجوازية، والحركة القومية حركة برجوازية، والصراع القومي صراع برجوازي. إنه يقصد، على وجه التحديد، أن ليس للعمال أية مصلحة اقتصادية في الموضوع: سيان لهم أن تستثمرهم الطبقة البرجوازية القومية أو أن تستثمرهم طبقة برجوازية غريبة. إن كل مصلحتهم في الأمر تنحصر في التخلص من القيود اللغوية ووجوب تحقيق الابتعاد عن المشاحنات القومية والعنصرية. وليس لهم أن ينتظروا أية منفعة اقتصادية معيشية.

هذه النظرة حبلى بالنتائج العملية.

وقبل التحدث عن هذه النتائج البعيدة، يجدر بنا التساؤل عن صحة هذا الموقف من الناحية النظرية:

أفلم يرَ ستالين، مثلاً، أن الجماهير الكادحة في بلد مغلوب على أمره كبولونيا وتشيكوسلوفاكيا وأوکرینيا وفنلندة،.. عليها أن تتحمل استثمار برجوازيتين اثنتين، برجوازيتها الوطنية وبرجوازية الأمة الغالبة، بدلاً من استثمار برجوازية واحدة فقط؟.

أفلم يرَ أن سيطرة شعب على شعب تؤدي إلى تسخير اقتصاد الشعب المغلوب لصالح اقتصاد الشعب الغالب، مما يؤدي إلى إلحاق الضرر بمختلف الفعاليات الاقتصادية وإلى خسائر تصيب الأمة بأسرها?!

أفلم يرَ، فوق ذلك، أن المسألة القومية ليست فقط ( ولم تكن في يوم من الأيام ) مسألة عدد من الشعوب الصغيرة في أوربا، بل هي أيضاً مشكلة المستعمرات وأنصاف المستعمرات التي لم تكن نائمة أبداً، إن صوت مدافع الثورة الصينية قد وصل إلى أوربا، وسمعهُ لينين…

2 – موقف لينين

فماذا كان موقف لينين من الحركة القومية ومن النضال القومي? هل اعتبرها حركة برجوازية ونضالاً برجوازياً، كما فعل ستالين؟

النرويج وبولونيا

في كتابه المعروف «حق الأمم في تقرير مصيرها» الصادر في أوائل عام 1914، تطرق لينين إلى موضوع انفصال النرويج عن السويد (۱۹۰5)، فاعتبر الصراع القومي بين البلدين صراعاً بين الديمقراطية الفلاحية النرويجية وبين الارستقراطية السويدية، وأكد واجب البروليتاريا في أن تسير ضد هذه الأرستقراطية ومع الديمقراطية الفلاحية.

كما أشار إلى ما يصيب النزعة القومية من تحولات:

« من المفيد مثلاً أن نتتبع تحولات النزعة القومية في بولونيا، التي كانت  قومية نبلاء فأصبحت قومية برجوازية ثم قومية فلاحية.. لقد وحد النير الألماني بين البولونيين.. فأيقظ قومية الأشراف ثم قومية البرجوازية ثم قومية جمهور الفلاحين ». ( المؤلفات المختارة، الطبعة الفرنسية ۱۹5۳، الجزء الثاني من القسم الأول ص354، 358)

القومية الأيرلندية

ويعالج لينين مشاكل الثورة الأيرلندية في كتابه «حصيلة النقاش عن حق الأمم في تقرير مصيرها» الصادر عام 1916، فيحْمل على «الرأي المذهبي الفارغ والمدعي الفظ»، الذي يقلل من شأن الحركة القومية الأيرلندية معتبراً إياها «مجرد حركة برجوازية صغيرة قامت في المدن…»

«أما الحركة القومية الأيرلندية التي بلغت من العمر قروناً، ومرت بمراحل مختلفة واجتماعات مختلفة من المصالح الطبقية، فقد كشفت عن نفسها، في جملة الأشكال التي عبرت عنها في مؤتمر قومي أیرلندي انعقد في أميركا… وفي قتال الشوارع الذي خاضه قسم من البرجوازية الصغيرة في المدن وقسم من العمال (علامة التشديد من لينين) بعد فترة طويلة من التحريض الجماهيري والمظاهرات…». (حركة التحرر الوطني في الشرق، ص۱۱۳).

الحركة القومية الأيرلندية بلغت من العمر قروناً! وهذا القول يعني في جملة ما يعنيه أنها سبقت النظام الرأسمالي. وقد مرت بمراحل مختلفة واجتماعات مختلفة من المصالح الطبقية.. وكذلك- على حد قول لينين- ليس صحيحاً أن المسألة الزراعية تستنفذ كل محتواها.

هذا أيضاً يبعدنا عن القوالب الستالينية. من الواضح أن لينين يعطي للحركة القومية مدى أوسع وأشمل وأعمق.

إن الحركة القومية تسبق الرأسمالية. وهذا يعني أن الأمة- باعتبارها وحدة وجود شعبي- تستمد جذورها من أعماق التاريخ. وستالين لم يلحظ الجانب من الأمور، أو أنه، في أفضل الحالات، لم يعلق عليه أية أهمية.

دور الفلاح

يتطرق لينين إلى الثورة الديموقراطية في الصين وآسيا، في مقاله «الديموقراطية والنارودية في الصين» عام ۱۹۱۲، فيقول:

«وإن الممثل الرئيسي أو السند الاجتماعي الرئيسي لهذه البرجوازية التي ما تزال قادرة على النضال في سبيل قضية تاريخية تقدمية هو الفلاح». (المرجع نفسه، ص42).

لقد سمع لينين صوت مدافع الثورة القومية الديموقراطية في الصين وفي غيرها من بلدان الشرق: تركيا، إيران، اندونيسيا، الهند، ليبيا. وأكد دور الفلاحين في حركة التحرر القومي، وعقد الآمال الجسام على هذه الحركة، منذ ما قبل ثورة أكتوبر وما قبل الحرب العالمية الأولى.(4)

……………………

(4) راجع «حركة التحرر الوطني في الشرق » ص21-62.

ــــــــــــــــــــــــــــــ

يتبع.. الحلقة السابعة عشر بعنوان: (9). ستالين من عام 1913 إلى عام 1930؛ بقلم الأستاذ “الياس مرقص”

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.