صبري حافظ *
تبدو رواية رضوى عاشور الجميلة «الطنطورية» في إحدى قراءاتها وكأنها رواية الجغرافيا الفلسطينية التي جَهِد العدو الصهيوني في محوها، وإزالة معالمها من على وجه الخريطة، كي يفرض بدلاً منها خريطته الشوهاء ويشيدها على أنقاضها.
لذلك تبدأ الرواية بتأسيس علاقتها البدئية بالبحر، بحر القرية في بكارته، بحر فلسطين، لتكشف عن أن لجغرافيا الرواية بعداً أزلياً تطرحه في مواجهة التاريخ الألفي المدّعي للرواية الصهيونية.
ولا تنسى الرواية أن تربط الظهور الأول لليهود فيها بالعنف العدواني، إذ يظهرون كقطّاع طرق (ص 13) يقطعون على سكانها الآمنين الطريق. ثم تعمد الرواية منذ هذه البداية المؤتلقة إلى تأسيس جغرافيا فلسطين المستعادة من الذاكرة. وتطرح جغرافياها الممحوة في مواجهة هذه الجغرافيا الاستيطانية العدوانية الزائفة، الفاقدة للشرعية، وإن كانت لا تزال قائمة على أرض الواقع. ولا غرو فإن الكثيرين من سكان المستوطنات الجديدة، من شذاذ الآفاق الذين جلبتهم الأيديولوجية الصهيونية العنصرية من فجاج الأرض، يشعرون كثيراً بأن أشباح قتلاهم تُعمّر مدنهم (قل خرائبهم) الجديدة تلك.
فهناك أكثر من دراسة تؤكد أن الكثيرين من سكان المستوطنات يعانون من مطاردات أشباح سكانها القدامى لهم. وهي ليست مجرد أشباح متخيلة، فالرواية تكشف لنا عن كيف أن كثيراً من الفلسطينيين الذين سلبت أراضيهم، ومنهم العم «أبو الأمين»، يتسللون من جديد إليها على فترات منتظمة، فيبدون بالنسبة لمن استولى عليها بدون حق، وكأنهم أشباح تطاردهم. أو بالأحرى تزيل مستوطناتهم من على الخريطة، وتزرع بدلاً منها الأرض الممحوة.
وها هي الرواية من خلال سردها البديع تزيح تلك المستوطنات، وتعيد لفلسطين القديمة ألقها وجمالها عبر النص الروائي. تؤسس معالمها ومفرداتها من جديد وترسم خرائطها: فهناك جغرافيا فلسطين الطالعة من نوستالجيا الماضي الجميل: حيث تعيد الرواية خلق جغرافياها من الذاكرة، بكل قرى الساحل وبلدات الجليل، ببيارات البرتقال وأشجار الزيتون والتين، بكل أزهارها البرية ومحاصيلها. من الطنطورة إلى عين غزال، وإجزم وقيسارية، وفريديس وطربيخا، وعين حوض والشجرة، وصفورية والمطلة، وأم الشوف والطيرة، ووادي عارة والخالصة والناعمة.. وعشرات غيرها.
إنها في هذه القراءة رواية المكان بلا نزاع، وتحولات هذا المكان أو بالأحرى مسخ، بعدما يُطرد منه أهله، ويتحولون إلى لاجئين في مخيمات قميئة، لا تنسى الرواية أن تخلق لنا جغرافياها النقيض التي قُدر على المقتلعين من أرضهم العيش بين خرائبها.
جغرافيا الواقع الكئيب الذي جرى فيه مسخ الماضي الجميل، واقتلاع سكانه من دورهم وقراهم التي لم يتخلوا عنها أبداً، وبقيت مفاتيحها معلقة في رقابهم، وحشرهم في تلك المخيمات المترعة بالذل والهوان، وإملاءات المكتب الثانى اللبناني: من عين الحلوة إلى الـ”مية مية”، ومن ويفل وبرج الشمالي إلى نهر البارد، ومن صبرا وشاتيلا إلى برج البراجنة، وغيرها من مخيمات اللاجئين المنتشرة في أرجاء الخريطة العربية.
وإلى جانب الجغرافيا، تقدم الرواية في قراءة أخرى لها، التاريخ الفلسطيني وأوجاع الشتات والصمود، وكيف استحل الصهاينة القرى وانتهكوا كل الأعراف والمقدسات بالمجازر والتطهير العرقي الوحشية، من دير ياسين وقرى الساحل العديدة وحتى كفر قاسم وصبرا وشاتيلا.
وتضع على خريطة الوعي العربي بالمجازر الصهيونية الوحشية مجزرة أخرى هي مجزرة «الطنطورة»، فكم من مجزرة بشعة غير دير ياسين وكفر قاسم كشف عنها المؤرخون الجدد. وتعود بنا تاريخياً إلى البداية، وكيف افتقد الفلسطينيون السلاح للدفاع عن دورهم، وتطوع الكثيرون لمساعدتهم. وكيف جاء المجاهدون من كل فج لنصرتهم: لا من البلدان العربية وحدها، وإنما من الهند والسند، ومن يوغوسلافيا والأناضول وتركستان للدفاع عن فلسطين أمام الهجمة الاستعمارية الصهيونية الشرسة. هي رواية مؤامرات الاستعمار البريطاني عليهم وتشجيعه للصهاينة وتسليحه لهم، بينما كان يصادر كل سلاح قادم للفلسطينيين مهما كان بسيطاً وبدائياً. تكتب بؤس الجيوش العربية وهزيمتهم التعيسة أمام العصابات الصهيونية المسلحة منذ ذلك التاريخ البعيد وحتى اليوم، من الميتروبوليتان الاستعماري المركزي، سواء أكان بريطانيا عقب الحرب العالمية الثانية في أربعينيات القرن الماضي، أو الولايات المتحدة الأمريكية الآن.
وهي من هذه الناحية رواية الخذلان والمسؤولية العربية عن ضياع فلسطين. وكيف تعلق الفلسطينيون طويلاً بوهم أن تعيدهم الجيوش العربية لبلادهم، فتكشف الوهم عن سراب بلقع. بل عن هزيمة ثانية عام 1967 لا تقل ضراوة عن الهزيمة الأولى، ضاعت بها البقية الباقية من فلسطين. ثم تأخذنا الرواية إلى اكتشاف الجيل التالي من أبناء «الطنطورية» لأنفسهم في المقاومة الفلسطينية، بل اكتشاف «رُقية» نفسها لنفسها فيها من ناحية، ووعيهم جميعاً بضرورة توثيق الذاكرة الفلسطينية والإمساك بزمام كتابتها من ناحية أخرى. وهي في الوقت نفسه رواية مطاردة المشروع الصهيوني البشعة للفلسطينيين في بيروت وإلقائهم في البحر، فعلاً لا مجازاً، وهم الذين ملأوا العالم كذباً بأن العرب يريدون الإلقاء بهم في البحر.
ومع كتابة الرواية لهذا التاريخ المأساوي نكتشف معها تحولات جغرافيا الشتات الفلسطيني من صيدا إلى عمان وبيروت، ومن قبرص إلى أبوظبي وكندا. فإذا كان جيل «رُقية» قد ولد في فلسطين، فإن جيل أبنائها قد ولد في لبنان، أما الأحفاد فقد ولد بعضهم في أبى ظبى، والبعض الآخر في كندا، أما الحفيدة «رُقية» التي تغلق بها الرواية الدائرة، فقد ولدت في «اللد» في قلب فلسطين كجدتها من جديد. في فعل رمزي دال، يجذر الأمل، ويؤكد حتمية عودة الفلسطينيين من جديد إلى أرضهم. فهي من هذه الناحية رواية هذه الفسيفساء الغنية التي اشتبك فيها مصير فلسطينيي الشتات، بفلسطينيي الاحتلال، وفلسطينيي الأسر من ناحية؛ ومصير الفلسطينيين بمصير بقية الشعوب العربية من ناحية أخرى: في لبنان خاصة ومصر والأردن، وإلى حد قليل لدلالة المفارقة سورياً، بالرغم من أن أغلب أهل الطنطورة هجّروا إليها.
لكن همّ الرواية الأول، وسر نجاحها في أن تكون بحق من روايات فلسطين الكبرى، هو أنها استطاعت أن تضفر لنا الألم بالأمل في ثنايا حكاية تلك المرأة الفلسطينية «الطنطورية» الآسرة. وأن تقدم عبرها جينيولوجيا الحكاية الفلسطينية الأشمل، وتواريخ الدم الفلسطيني والعربي، وتفاصيل حكايات الفلسطينيين المتعددة، من لجأ منهم ومن بقي في الأسر، ومن وقع تحت وطأة الاحتلال بعد 1967. أو بالأحرى حكايات الذين كُتب عليهم الشتات في مخيمات اللاجئين حيث تدخلنا الرواية إلى عدد كبير من تلك المخيمات، وتسجل بعض ما تعرض له الفلسطينيون فيها من هوان وتقتيل. وحكايات الذين وقعوا تحت الاحتلال الثاني بعد النكسة كرفيقة صباحها وتشردها «وصال».
فلو تتبعنا كيف قُتِل الفلسطينيون في هذه الرواية لخرجنا منها أيضاً بجنيولوجيا الدم الفلسطيني الذي تأسس عليه المشروع الصهيوني البغيض. بدءاً من الأب والأخوين وعشرات غيرهم من أهالي الطنطورة في عملية التطهير العرقي البشعة عام 1948، مروراً باغتيالات: غسان كنفاني وكمال ناصر وأبو يوسف النجار وكمال عدوان، ومحاولة اغتيال أنيس صايغ، وليس انتهاء باغتيال أبي نضال وأبي إياد ومجازر اجتياح بيروت وتل الزعتر وصبرا وشاتيلا.
وإلى جانب هذه القراءات المتعددة والمتكاملة والمتفاعلة تخلق لنا الرواية مفرداتها الخاصة، ولغتها المتفردة، ورموزها الثرية الدالة التي تدخلها إلى وعي القارئ، وتدخل معها فلسطين في عالمه وتكوينه. ذلك لأن رضوى عاشور تدرك أهمية العلاقة الوثيقة بين الشخصية ولغتها، وتعي أهمية تلك المفردات الخاصة إلى الحد الذي تزود معه القارئ في نهاية الرواية بثبت من المفردات والعبارات الواردة بالدارجة الفلسطينية فيها.
ولا يقتصر اهتمامها باللغة على تلك المفردات التي تمنح الشخصيات والأحداث نكهتها المتميزة، ولكنها تعمد إلى المزج بين اللغة السردية واللغة التحليلية واللغة التأملية في أكثر من موضع (راجع على سبيل المثال الفصل 13 المعنون “مقال عن الانتظار”).
كما تستخدم إلى جانب هذه اللغات مجتمعة الكثير من الأغاني والأهازيج الشعبية الفلسطينية، وأهم من هذا كله الرموز الفلسطينية الثرية والدالة التي تتجذر بها القضية في حياة أبنائها، رموز دالة وثرية: مثل رمز مفاتيح الدور التي تعلقها النسوة في رقابهن، ويتوارثنها بنتاً عن أم، قد تكون هذه الدُور قد تهدمت، أو مُحيت من على وجه الخريطة، ولكن أصحابها لا يزالون يتشبثون بها ويصرون على حقهم فيها، برغم الشتات والألم.
بهذا الثراء السردي وتراكب اللغات وتعدد المستويات تكتب لنا رضوى عاشور رواية إعادة استنقاذ فلسطين من المحو والنسيان. وتضعها في مركز الوعي العربي. ولهذا طالبت بأن تدرّس حكومة الثورة هذه الرواية على طلبة المدارس، فهذا الفعل أجدى لفلسطين مئات المرات من المطالبة الآن، وقبل أن تتجذر الثورة وتنجز مهامها الأساسية، بطرد السفير أو إلغاء معاهدة كامب ديفيد.
* كاتب وناقد أدبي مصري
المصدر: الشروق في الجمعة 10 حزيران/ يونيو 2011