محمود الصباغ *
نُشر المقال المعنون أعلاه باللغة الإنكليزية في صحيفة (ذا غارديان “The Guardian”) للكاتب (كريس ماك غريل “Chris McGreal”)(**) ونقله إلى اللغة العربية “محمود الصباغ” الكاتب والمترجم السوري- الفلسطيني في الشأن الإسرائيلي وعلم الآثار وتاريخ فلسطين القديم، المولود في مخيم اليرموك بدمشق. ننقله فيما يلي:
أستطيع القول، بثقة ومن خلال تغطيتي السابقة لأحداث الإبادة الجماعية في رواندا، أن ما نسمعه من لغة، ترشح من الأوساط الإسرائيلية إثر هجمات حماس الدموية، تثير الكثير من المخاوف، فقد حدد إسحاق هرتسوغ، الرئيس الإسرائيلي، نبرة هذه اللغة عندما تحدث عن مدى تحميل مسؤولية [غزة وسكانها] لما اعتبره أسوأ الفظائع المرتكبة ضد اليهود في تاريخ بلاده: “هناك أمة بأكملها تتحمل المسؤولية. ليس صحيحاً بالمطلق القول بعدم ضلوع المدنيين في الأمر. كان بإمكانهم الانتفاض ومحاربة هذا النظام الشرير”.
ويتردد صدى هذا الشعور إلى ما هو أبعد من حدود إسرائيل، وإن بطرق مختلفة، حول المسؤولية الجماعية للفلسطينيين عن أفعال حماس التي أدت إلى مقتل نحو 1300 إسرائيلي واختطاف 199 شخصاً -مما يوحي، عرضاً، استحقاقهم، أي الفلسطينيين، لما هو قادم-، وليس أدل من هذه التداعيات، في الولايات المتحدة على وجه الخصوص، دعوة السيناتور ليندسي غراهام على محطة فوكس نيوز إلى تدمير غزة بالكامل: “نحن في حرب دينية هنا. [ أقولها بلا مواربة- دون خجل أو عذر] أنا مع إسرائيل. افعلوا ما تحتاجون فعله للدفاع عن نفسكم. دمروا المكان.. امسحوه من الأرض”.
أما في المملكة المتحدة، فقد تبنى جاك واليس سيمونز، محرر صحيفة “جويش كرونيكل Jewish Chronicle”، مساراً مختلفاً في تعميم الشعور بالذنب حين غرد: يقع الكثير من إرث الثقافة الإسلامية “رهينة عبادة ثقافة متعطشة للموت تقدّس إراقة الدماء” ثم عاد وحذف تغريدته بعد تعرضه لانتقادات حادّة. وفي إسرائيل ظهرت ردود أفعال من نوع آخر، وهذه المرة على لسان أرييل كالنر، عضو الكنيست عن حزب الليكود (الذي يتزعمه بنيامين نتنياهو)، حين طالب بتكرار طرد العرب الجماعي كما حصل في “نكبة” العام 1948: ” أمامنا الآن هدف واحد لا ثانٍ له: نكبة! نكبة [جديدة] ستلقي بظلالها على نكبة 1948″.
ما زالت الأمور غير واضحة، ويبقى علينا الانتظار لنرَ ما إذا كانت هذه هي خطة إسرائيل، بعد الطلب من مليون شخص أو أكثر بالخروج من شمال غزة حيث يستعد الجيش لمزيد من الهجمات بالإضافة إلى القصف الذي أسفر بالفعل عن مقتل 2,700 فلسطيني، من بينهم 700 طفل [حتى لحظة كتابة هذا المقال]. لكن لغة الخطاب في إسرائيل وبعض مؤيديها في الخارج، التي تقلل من قيمة الإنسان وتجرده من “إنسانيته”، تكاد تكون ذات اللغة التي يمكن سماعها في أوقات أخرى وأماكن أخرى حين ساعدت على تهيئة مناخ مناسب لارتكاب جرائم فظيعة.
أعادتني أفعال حماس المروعة التي [ذبحت بها] المدنيين الإسرائيليين، بمن فيهم الأطفال الصغار (تم اثبات كذب هذه الإدعاءات واعتذرت مذيعة CNN عن نقلها الخبر الكاذب، ايضا البيت الابيض الامريكي أكد في تصريح له انه لم ير اي صور تثبت الإدعاءات الاسرائيلية- محرر “فيجن”)، ثم الاحتفال بهذه المذبحة، إلى تغطيتي لأحداث الإبادة الجماعية في رواندا قبل ثلاثة عقود؛ وكيف ابتهج رجال ميليشيات الهوتو بقتلهم حوالي 800 ألف شخصي من التوتسي. بمن فيهم الجيران والأطفال، بطرق أقل ما يقال عنها إنها فوق أي تصوّر. ولم تراودهم مشاعر الندم عن فعلتهم، فيما بعد، حتى بعد أن قضى العديد منهم سنوات في السجن. وتبدو الآن اللغة السائدة بعد هجوم حماس مشابهة لتلك التي سادت أثناء أحداث رواندا 1994 ليس فقط بشأن القتلة ولكن أيضاً بشأن الفلسطينيين عموماً، وإن لم تكن هذه هي المرة الأولى؛ فقد تكرر بالفعل هذا الموضوع في فترات سابقة .
وكثيراً ما عبّر عن ذلك من قادوا عمليات الإبادة الجماعية باستخدامهم لغة اعتبرت التوتسي مجرد غرباء ومتطفلين، وصوروا هجماتهم القاتلة كنوع من الدفاع عن النفس، بمعنى “إن لم نفعل بهم ذلك فسوف يفعلوه بنا”. كان الوصف الشائع المهين للتوتسي اعتبارهم “صراصير”، وهي ذات الكلمة التي استخدمها أيضاً رئيس أركان الجيش الإسرائيلي آنذاك لوصف الفلسطينيين [لعله يقصد مقولة رفائيل إيتان الشهيرة بأن الفلسطينيين “صراصير مخدرة في قنينة” والتي قالها في العام 1983؛ أي قبل عناصر الهوتو بنحو عقد من الزمن؛ فإذا كان هذا ما يقصده الكاتب فعليه تصحيح معلوماته إذن؛ واعتبار الإسرائيليين هم أصحاب الفضل في هذه النزعة اللاإنسانية وأن الهوتو تعلموا منهم- المترجم]. وفي أوقات مختلفة، وصف قادة سياسيون وعسكريون ودينيون إسرائيليون آخرون الفلسطينيين بأنهم “سرطان” و “حشرات” ودعوا إلى “إبادتهم”. وكثيراً ما يتم تصويرهم على أنهم متخلفون ويشكلون عبئاً على البلد.
وفي حين لم تكشف إسرائيل عن خططها حول غزة [حتى الساعة]، يخشى الفلسطينيون، بطبيعة الحال، حدوث تطهير قومي آخر كما يدعو “كالنر” نظراً إلى [تجربتهم] التاريخية مع هذه الحالة. وكان رياض منصور، المبعوث الفلسطيني لدى الأمم المتحدة، قد اتهم إسرائيل بالعمل على نزع الطابع الإنساني عن غزة واعتبر سلوك إسرائيل هناك ليس أقل من “إبادة جماعية”.
ما بيننا وبين ما حدث في رواندا طريق طويل، وأي مقارنات ستبدو شائنة للبعض ومثيرة للجدل. ولكن مع مراعاة أن الذين يدفعون ويضغطون على المؤسسات الإخبارية لوصف حماس بالإرهابيين، يعترفون ضمنياً بأهمية اللغة. دعا دافيد مزراحي فيرثايم، الصحفي ومقدم البرامج الإذاعية الإسرائيلي البارز، إلى تنفيذ إبادة جماعية و “حمام دم” بكل معنى الكلمة؛ وغرد على موقع X “نحن بحاجة إلى رد مفرط في القوة… إذا لم يتم إرجاع جميع الأسرى على الفور، فقوموا بتحويل الشريط إلى مسلخ. إذا سقط شعرة من رؤوسهم [أي الأسرى]- اعدموا السجناء الأمنيين، في الطريق إلى النصر يمكن انتهاك أي قاعدة”.
وظهرت لغة البعض الآخر أكثر مرونة في لغتهم.
عندما أمر وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، بفرض “حصار كامل” على قطاع غزة “لا كهرباء ولا طعام ولا وقود، كل شيء مغلق قال معقباً “نحن نحارب حيوانات بشرية ونتصرف وفقاً لذلك”. ربما كان غالانت يقصد حماس فقط، لكنه لم يقل ذلك؛ وهذا ما ترك مجال رحب لأولئك الذين يرغبون في المضي أبعد من ذلك. وكإعادة صدى لما بعد أحداث 11/9 في الولايات المتحدة، نشر جيش الدفاع الإسرائيلي على موقع X: “إما أن تقفوا مع إسرائيل أو تقفوا مع الإرهاب”. وغردت مارغوري تايلور غرين، عضوة الكونغرس من الحزب الجمهوري: “أي شخص مؤيد للفلسطينيين هو مؤيد لحماس”. مثل هذه المشاعر قادت الولايات المتحدة فيما مضى إلى شن حروب ما زال يندم عليها معظم الأمريكيين الآن، لكنها كانت أيضاً عقلية دفعت الجنود الأمريكيين إلى ارتكاب جرائم حرب.
قد لا تكون بعض هذه التصريحات أكثر من مجرد انتقاداً عابراً أتى في سياق لحظة غضب كرد فعل طبيعي على جريمة بشعة. قد يكون هذا، أو بعضه، صحيحاً بالتأكيد. لكنهم في إسرائيل، غالباً يتداولون مثل هذه التصريحات وتلك اللغة استناداً إلى أرضية خطاب باتت خصبة معدة منذ عقود يجرد الفلسطينيين من إنسانيتهم. وكان القادة الإسرائيليون يدعون، لسنوات، إلى تنفيذ سياسة التطهير القومي، الذي يطلق عليه مجازاً “الترانسفير”، في إطار خطاب يصور الفلسطينيين كشعب غير حقيقي لا تاريخ مهم له. وكان نتنياهو قد أعرب، في العام 1989، عن أسفه لإضاعة إسرائيل فرصة “تنفيذ عمليات طرد جماعي لعرب الأراضي (المحتلة)” التي أتاحها لها الاهتمام العالمي لقمع الصين الاحتجاجات المؤيدة للديمقراطية في ميدان تيانانمين. وتظهر استطلاعات الرأي مدى اتساع نظرة الأعداد الكبيرة من الإسرائيليين نحو العرب بصفتهم “قذرين” و “بدائيين” ولا يقدّرون الحياة الإنسانية.
لقد تشبعت عقول أجيال من أطفال المدارس الإسرائيلية بفكرة أن العرب متطفلون ويتم التسامح معهم فقط بفضل كرم إسرائيل. وأظهرت دراسة أجرتها الجامعة العبرية في القدس في العام 2003 عن الكتب المدرسية الإسرائيلية كيف تظهر صورة العرب، بشكل أساسي رفقة “جمل، ويرتدون ملابس مثل علي بابا”. وكيف يصفون العرب بأنهم “حقيرون ومنحرفون ومجرمون، ولا يدفعون الضرائب، ويعيشون على كاهل الدولة، ولا يريدون التطور. التمثيل الوحيد لهم هو اعتبارهم لاجئين ومزارعين بدائيين وإرهابيين. ليس فيهم شخص عصري؛ سواء كان طفلاً أو طبيباً أو معلماً أو مهندساً أو مزارعاً”.
نشرت صحفة يديعوت أحرونوت، خلال الانتفاضة الثانية في العام 2002، رسالة من أطفال إسرائيليين بعنوان: “أيها الجنود الأعزاء، أرجوكم اقتلوا الكثير من العرب”. وقالت الصحيفة إن العشرات من هذه الرسائل أرسلها تلاميذ المدارس. وبعض هؤلاء الأطفال أنفسهم هم من يفرضون الآن الاحتلال في الضفة الغربية حيث يتمتع المستوطنون الإسرائيليون بحرية كبيرة في طرد الفلسطينيين من أراضيهم ومن قراهم، وأحيانا ضربهم وقتلهم. ومن هؤلاء الأطفال أصحاب الرسائل من سيتوجه الآن إلى غزة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(**) كاتب في صحيفة الغارديان الأمريكية وهو مراسل سابق لها في واشنطن وجوهانسبرغ والقدس. ومؤلف كتاب الجرعة الزائدة الأمريكية، مأساة المواد الأفيونية في ثلاثة فصول.
(*) كاتب ومترجم في الشأن الإسرائيلي وعلم الآثار وتاريخ فلسطين القديم، ولد في مخيم اليرموك عام 1962 ونشأ فيه، وحصل على دبلوم دراسات عليا من الجزائر في تخصص الكيمياء. اضطر أواخر عام 2013 إلى النزوح مع أسرته إلى السويد، مع بدايات الثورة السورية وهجوم النظام السوري على المخيم. له عدد من المقالات المنشورة في الشأن السياسي الفلسطيني والإسرائيلي، وهو عضو مشارك ومؤسس في “مركز الجرمق للدراسات”، الذي تأسس بدايات عام 2021. من كتبه المترجمة في الشأن الإسرائيلي، “فلسطين في الفضاء الصهيوني”، إضافة إلى كتب قيد النشر، منها “البحث عن إسرائيل التاريخية: السجال الآثاري وتاريخ إسرائيل القديمة”، وكتاب “علم الآثار السياسي والنزعة القومية المقدسة”. عن مخيم اليرموك، ودوره في الثورة السورية، وحول الثورة السورية، وتجربة اللجوء للمرة الثانية بالنسبة إلى الفلسطيني السوري، وحول أعماله في الترجمة في الفكر الصهيوني والدراسات الإسرائيلية.
المصدر: مركز فيجن للدراسات الاستراتيجية