الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

مقابلة مع رئيس الاستخبارات العسكرية خلال حرب يوم الغفران “إيلي زعيرا”: “لم يجنّدوا الاحتياطيين في الوقت المطلوب واخترعوا قصة أننا تفاجأنا”

يروي الجنرال “إيلي زعيرا” رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية “أمان” في حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973 أو ما يسمونها حرب “يوم الغفران” للكاتبين في “يديعوت أحرونوت” (رونين بيرغمان) و(يغآل كيفنس) بعض أسرار تلك الحرب في هذا النص الذي ترجمته مؤسسة الدراسات الفلسطينية من العبرية إلى العربية.

  • يروي رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية في حرب “يوم الغفران” الجنرال إيلي زعيرا أنه خلال أسابيع الترقب التي سُمعت فيها الشهادات أمام لجنة أغرانات- بدأت تتسرب المحادثات السرية، وضمنها الأحاديث الخاصة بين القضاة، إلى ديوان وزير الدفاع، حينها، موشيه ديان. زعيرا الذي مثل عشرات المرات أمام أعضاء اللجنة الحكومية التي كان من المفترض بها أن تحقق في “الإخفاق”، لديه مشتبه فيه أيضاً بالتسريب. في رأيه، فإن أحد مساعدي اللجنة هو مَن سرّب المعلومات. صحيح أنه لا يملك دليلاً قاطعاً، لكنه يقول إنه “لا يوجد تفسير آخر لقيام موشيه ديان بدعوتي إليه وقوله: أريد الآن تعيينك في منصب قائد المنطقة الوسطى”.

بما معناه، ألا تترك الجيش؟

  • “هذا بالضبط ما أراده. يبدو أنه كان يعلم مسبقاً بقرارات اللجنة، ولذلك، دعاني إلى منزله وقال لي: أريدك أن تتولى منصب قائد المنطقة الوسطى، اليوم”.
  • بتاريخ 1 نيسان/ أبريل 1974، أصدرت اللجنة التقرير الموقت الذي حمّل المستوى العسكري المسؤولية الكاملة، في الوقت الذي لم يلحق الأذى كلياً بموشيه ديان، أو غولدا مئير. أما زعيرا، فاعتُبر أحد المتهمين المركزيين المسؤولين عن الفشل، وأوصت اللجنة بعزله عن منصبه كرئيس شعبة الاستخبارات العسكرية، لكنها لم توصِ بعزله عن الجيش، أو منعه من تولّي أي منصب عسكري آخر، من دون علاقة لأهمية المنصب. أما ديان الذي كان لديه قدرة تنبؤ عالية ودقيقة، أو أنه استند إلى معلومات من داخل الغرف المغلقة-فلم ينجح في الإبقاء على زعيرا داخل الجيش. ويبدو أن قلق المسؤولين على رفاهية رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية المستقيل لم تتوقف، حتى بعد خروجه من مكاتب الجيش.
  • وبحسب زعيرا، “دعاني بنحاس سابير إلى لقاء قبل أن تمرّ 24 ساعة على نشر تقرير أغرانات، ولأنني أحترمه بسبب منصبه كوزير المالية، حضرت. تحدث بصورة مباشرة، وقال حرفياً: وجدنا لك عملاً.”

هل استطاع ترتيب كل شيء خلال يوم واحد؟ أو أنه جهّز لذلك مسبقاً، في رأيك؟

  • “أتود معرفة أكثر من ذلك؟ بحسب ذاكرتي، انضم إليه أيضاً يعاكوف ليفنسون الذي كان يشغل، حينها، منصب مدير عام بنك هبوعاليم. وقالا لي: ستكون مدير بنك، لا أذكر الاسم بالتحديد، لكنه كان كونتيننتال، أو شيئاً كذلك، وهو بنك كان يملكه بنك هبوعاليم. هكذا، كالسحر-خلال ساعات معدودة، تركت الجيش وأصبحت مديراً لبنك. هل تفهم الآن كيف كانت تُدار الدولة؟ جرى هذا كله كي لا أترك المعسكر، وكي لا أطالب بالتحقيق فيما حدث فعلاً.”

هل يمكن أن يكون هدفهم تسهيل دخولك إلى الحياة المدنية، وتسهيل الأمور عليك؟

  • “هذا يمكن أن يكون نكتة. فعلاً، كانوا قلقين عليّ. أنا أرى الأمور بصورة مختلفة. كانوا سياسيين، وما اهتموا به فعلاً كان حُكم حزب “مباي”. لقد قاموا بكل ما هو ممكن كي يحافظوا على الأشخاص داخل المعسكر، وألا ينتقلوا إلى المعسكر المعارض، حيث يمكن من هناك أن يخلقوا لهم المشاكل. وحتى مع دادو (دافيد إليعازر رئيس هيئة الأركان حينها، تصرّفوا بالمنطق نفسه، وبعد خروجه من الجيش، منحوه منصب مدير شركة السفن تسيم.”
  • لم يتولّ زعيرا منصب قائد المنطقة الوسطى، ولا إدارة البنك-وقرر الصمت. الآن يقول “كان لديّ مشاكل شخصية أُخرى، والحرب من أجل الحقيقة ونقلها إلى الجمهور لم تكن الأولوية بالنسبة إليّ، لذلك، قررت الانعزال.”
  • لكن صمت زعيرا، وكذلك أيضاً صمت رئيس هيئة الأركان الذي مات بعد وقت قصير بسبب أزمة قلبية حادة، لم يساعدا ديان وغولدا في نهاية المطاف. صحيح أنهما انتصرا في الانتخابات التي تأجلت بسبب الحرب، لكن الاحتجاجات دفعتهما إلى الاستقالة بعد يومين من نشر استخلاصات اللجنة.
  • جميع أعضاء هيئة الأركان من سنة 1973 ماتوا، وكذلك الأمر بالنسبة إلى متّخذي القرار في المستوى السياسي. وعلى الرغم من ذلك، فإن زعيرا وافق خلال الأسابيع الماضية، قبل وقت قصير من مرور 50 عاماً على “يوم الغفران” الذي لا يُنسى-على إجراء سلسلة من المقابلات-بعضها وجهاً لوجه، وبعضها الآخر عبر الهاتف. أخيراً، وافق الرجل الذي يعتقد الكثيرون أنه المسؤول الأساسي عن الفشل الاستخباراتي الأكبر في تاريخ دولة إسرائيل-على منحنا روايته لِما حدث.
  • عمره الآن 96 عاماً، لا يزال واعياً، وكلماته منظمة، موضوعي ويعي أهمية موافقته على الحديث، وأعلن مسبقاً أنه سيركز على الأيام الأخيرة قبل الحرب. وخرج بعض المرات عن هذا التركيز في تلك الأيام، لكنه لم يُجب عن أي سؤال له علاقة بالمشاعر. وقال “هذا هو الفرق بيني وبين الأجيال اللاحقة؛ في جيلنا، جيل البلماح وجيل حرب الـ 1948، لم يكن هناك مشاعر. ببساطة، لم يكن هناك معنى لها.”
  • قال رئيس هيئة الأركان ووزير الأمن سابقاً شاؤول موفاز إن “الصلاحية التي أُعطيت للّجنة كانت خطأ منذ البداية.” وشدد على أنه توصل إلى هذا الاستنتاج بعد أن قرأ كافة التوثيقات ذات الصلة، وضمنها تلك الممنوعة من النشر لمدة 90 عاماً. مضيفاً “كان لدى لجنة أغرانات هدف واحد، وهو تحميل رئيس هيئة الأركان كامل المسؤولية.” حتى أن رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية السابق الذي أصيب في الجبهة السورية، الجنرال أوري ساغي، أضاف إلى ذلك، قائلاً إن “اللحظة التي يتم فيها تقديم قراءة استخباراتية للمستوى السياسي، ويقرأها، فإن المسؤولية الكاملة تقع عليه.” زعيرا يوافق ويقول إنه “خلال عمل اللجنة، لم يكن لديّ، لا أنا ولا رئيس هيئة الأركان، أي فكرة عن القرار الذي سيصدر عنها، وأول ما خطر في بالي بعد نشر قراراتها كان ما قاله موفاز، إنهم يقومون بالتضحية برئيس هيئة الأركان.”

هل كان هذا شعورك؟

  • نعم.

وماذا بشأنك أنت؟

  • أنا قلت لنفسي كلمات أكثر حدةً، أو كما كُتب في أحد الأماكن “لن أسير مع جماعتهم”.
  • فشل الاستخبارات كان في تقييم احتمالات الحرب، إذ قالت شعبة الاستخبارات العسكرية برئاسة زعيرا، عشية اندلاعها، أنها “منخفضة”-واضح. إلا إن تفاصيل كثيرة أُخرى مرتبطة بالحرب لا تزال غير مكشوفه. فبعد ساعات على اندلاع المعارك، كشفت غولدا مئير للجمهور بأننا “لم نتفاجأ”. إذاً، ماذا حدث؟
  • بشكل مفاجئ، ومن دون شرح، لم يعرف أحد فعلاً ماذا حدث، ببساطة، لأن أحداً لم يبحث في الموضوع. لجنة أغرانات لم تفحص كيف توصلوا جميعاً إلى استنتاج خاطئ. الجميع تحدث عن تمويه مصري، لكن لم يبحث أحد في كيفية حدوث هذا التمويه؟ مَن شارك فيه؟ على مدار السنين، لم يتطرق أحد إلى الموضوع بجدية سوى شخص واحد، هو رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الذي تولى المنصب مدة 30 عاماً بعد زعيرا، الجنرال أهارون زئيفي-فركاش، الذي ادّعى منذ كان ضابطاً شاباً أن الحديث يدور عن منظومة جدية وذكية مركبة من عدة خطوات تمويه تكتيكية تم تفصيلها في تقرير أغرانات، مشروع تمويه كبير جداً على مستوى دولة، يستند إلى معرفة وتوجيه سوفياتي، زوّد إسرائيل بالكثير من المعلومات الدقيقة-لكنه زُيّف في اللحظة الحاسمة، وجعلنا نعتقد أن مصر لا تتجه إلى الحرب. إلا إن بحث فركاش الذي لا يمكن اتهامه بأن لديه دوافع شخصية-لم ينجح أيضاً في الدفع إلى بحث نتائج تحقيق اللجنة والرواية التي صدرت عنها من جديد.
  • وفي هذا السياق، يقول زعيرا “أنا أريد أن أعود إلى الأساسات”. ويضيف “نظرية الأمن تقول بشكل بسيط جداً: في اللحظة التي يوجد تهديد فوري لدولة إسرائيل-يجب تجنيد الاحتياط فوراً. هذا هو الوضع. يمكن أن نأخذ نموذجاً مما حدث في الحرب التي سبقت تلك الحرب.” ويعود إلى ما سبق حرب الأيام الستة، ويذكر أن أهارون ياريف، رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية، حينها، توقّع عدم اندلاع حرب بين إسرائيل ومصر في الأعوام المقبلة. وعلى الرغم من ذلك، خلال منتصف أيار/ مايو 1967، فإن إسرائيل وجدت نفسها محاطة بجيوش مصر وسورية والأردن، تتجهز على حدودها. النصر ضلّل خطأً شعبة الاستخبارات العسكرية. ويقول زعيرا إن “السؤال المهم الذي لم نسأله، حينها، لم يكن لماذا فشلت الاستخبارات؟ السؤال المهم الذي لم نسأله هو عن مكانة تقديرات الاستخبارات في مسار اتخاذ المستوى السياسي القرار.”
  • في المقابل، حينها، حدثت أزمة حادة في العلاقة بين الجيش ورئيس الحكومة ليفي إشكول، عندما طالبه أعضاء هيئة الأركان بالسماح للجيش بالمبادرة والهجوم. ويقول زعيرا أنه “مقارنةً بسنة 1967، يجب الإشارة إلى ملاحظة صغيرة. عندما حدثت هذه الأزمة، كان الجيش برمته مجنداً قبل أسبوعين تقريباً.”
  • يقول زعيرا هنا يكمن الفرق الأساسي. ويعود إلى الليلة المصيرية بين 4 و5 تشرين الأول/ أكتوبر، قبل يوم من اندلاع الحرب. ويضيف “وحدة تابعة للاستخبارات العسكرية تسمى اليوم 8200، اكتشفت خلال الليل، وعندما كانت تتنصت على مستشارين روس، أنه يوجد أزمة كبيرة تمتد من موسكو حتى دمشق، ويجري إجلاء عائلات المستشارين الروس إلى روسيا. وعندما اتصّل بي يوآل بن بورات الذي كان قائد الوحدة آنذاك، اعتقدت أن هذه المعلومات هي بمثابة تحذير من حرب. لذلك، اتصلت مباشرة برئيس الموساد، على الرغم من أن الساعة كانت الثانية ليلاً، وذلك لاعتقادي أن هذا التطور مهم جداً. “
  • ويتابع: “حينها، قال لي زامير أنه يتجهز للصعود إلى طائرة والسفر إلى لندن للقاء مَن تعرفونه.” يبدو أن زعيرا يرتدع حتى اليوم عن ذكر اسمه بوضوح، أشرف مروان، رئيس ديوان الرئيس المصري الذي يستطيع القيام بكل شيء، والذي كان يعمل لدى الموساد، وكان “لديه معلومات مهمة جداً عن تجهيزات عسكرية في مصر”.
  • وفي أعقاب هذه التطورات، عُقد اجتماع بعد عدة ساعات عند وزير الدفاع ديان. زعيرا وحده، وبفضل المحادثة الهاتفية، كان يعلم بسفر رئيس الموساد حينها، تسفي زامير، إلى لندن للقاء مروان. ويعلّق زعيرا قائلاً “هذا لم يكن مهماً جداً بالنسبة إليّ، ففي الاجتماع نفسه الذي عُقد قبل 30 ساعة من اندلاع الحرب، قلت لموشيه ديان: الروس في حالة هلع، يقومون بإجلاء عائلات المستشارين، والطائرات الروسية خرجت من أوديسيا في طريقها إلى دمشق. الخطوة رقم واحد.”

موشيه ديان، وبحق، يفسّر هذا كإنذار حرب. الخطوة رقم 2.

  • “ما الذي لم يقُم به؟ الخطوة رقم 3، الضرورية، وهي تجنيد جيش الاحتياط. ماذا فعل؟ اسمحوا لي بأن أقول لكم، لأنني كنت هناك. لقد قرأ لنا برقية يجهزها لإرسالها إلى كيسنجر. البند رقم واحد، العرب، سمّاهم العرب، يخططون لضربنا بشكل مفاجئ. البند الثاني: نحن نعلم بهذا، ولن نتفاجأ. البند الثالث: لن نضرب أولاً.”
  • ويتابع زعيرا “بعد انتهاء هذا الاجتماع، ذهب ديان مباشرة إلى ديوان غولدا. كانت هناك، وكان هناك أيضاً دادو، وكنت أنا، وأيضاً المستشار الخاص بها يسرائيل غاليلي. وفي تلك اللحظة، حصل ديان على مصادقة غولدا لإرسال البرقية إلى كيسنجر. ولم يكن هناك خلاف بين ديان وغولدا على أن المعلومة التي وصلت من شعبة الاستخبارات العسكرية كانت بمثابة تحذير من حرب. وأكثر من ذلك، فإن غاليلي الذي كان يتمتع بمعرفة وخبرة كبيرة، افتتح الحديث وقال، وأنا أستحضر من ذاكرتي: لأنه من الممكن أن تندلع الحرب غداً، وغداً هو يوم السبت، وأيضاً يوم الغفران، نحن نخوّل منذ الآن وزير الدفاع ورئيسة الحكومة إدارة هذه الحرب.”
  • زعيرا نبّهنا أيضاً إلى ما قاله رئيس هيئة الأركان في الجلسة نفسها، بحسب البروتوكول: لدى المصريين منظومة تملك كل المقومات اللازمة للهجوم. ولأنني لا أتطرق إلى التحليلات، يجب أن نبحث فيما إذا كنا نملك أي إثبات على أن هذه المنظومة لديهم ليست هجومية. عليّ أن أعترف بأن لديهم قدرات تقنية للهجوم في هذه البنية. ويلخّص دادو بأنه “أولاً، لا يوجد أي إثبات على أنهم لا يريدون الهجوم؛ وثانياً، لديهم القدرة على الهجوم.”
  • ويسترجع زعيرا، قائلاً “نحن هنا كنا على بُعد 30 ساعة قبل الحرب.” ويضيف “لو جندوا الاحتياطيين، بحسب النظرية الأمنية، بدلاً من الاكتفاء بإرسال برقية إلى كيسنجر، وأرسلوا البرقية إلى أنفسهم-لكان في إمكانهم البدء بعملية التجنيد قبل 24 ساعة. لكنهم بدأوا بالتجنيد قبل 6 ساعات من بدء الحرب. كان لديهم الإمكانية للقيام بذلك قبل 30 ساعة، وبدأوا قبل 6 ساعات. ومن هنا، بدأت القصة بأننا تفاجأنا.”

وعلى الرغم من هذا، فإنك أنت أيضاً لم تقل إن حرباً ستندلع؟

  • “تقديراتي ليست مهمة. المهم هي المعلومات التي مررتها لديان-مجرد خروج العائلات الروسية. هذه نقطة مفتاحية. الحقيقة أن ديان لم ينتظر تحليلاتي. كان لديه تحليلاته الخاصة، وهي أنهم سيهاجموننا بشكل مفاجئ. وكان يقرأ البرقية التي سيرسلها إلى كيسنجر.”

هل كان يضلل كيسنجر للوصول إلى شيء ما؟

  • “من غير الممكن ذلك. لقد كان يستطيع أن يلعب على العالم كله، ومن ضمنه ضباط الجيش وجميع مركّبات الحكومة. لكن، مع كيسنجر لا يستطيع.”

سيسأل القارئ، إذا كانت معلومات الـ 8200 بمثابة تحذير، فكيف استمر موقف وحدة الأبحاث في الاستخبارات العسكرية إزاء عدم اندلاع حرب، ومواصلة الحديث هناك عن “احتمال منخفض”؟

  • “وحدة واحدة داخل شعبة الاستخبارات جاءت بالتحذير، ووحدة أُخرى أخطأت في تقديراتها، وحدة الأبحاث. الأمران حدثا بالموازاة على مدار ساعات. إذاً، أولاً، إن أسباب الخطأ قابلة للبحث بحد ذاتها. أنا لم أقم بها. أنا لا أعرف لماذا توصلوا إلى الاستنتاج الخاطئ الذي كان من الواضح أنهم توصلوا إليه. ثانياً، أنا مسؤول أيضاً عن الاستنتاجات الخاطئة الخاصة بهم. رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية مسؤول عن كل شيء، عن نجاح الـ8200، وأيضاً خطأ وحدة الأبحاث.”

إذا كانت الأمور واضحة إلى هذا الحد، وكان يجب أن تكون واضحة لغولدا وأيضاً لديان، فكان عليك القول: أنا لا أقبل تقديرات وحدة الأبحاث.

  • “لقد أعطيت المعلومات لديان، نقطة. فسّرها بأنها تحذير من حرب، نقطة. هذا هو كل شيء، هذه هي القصة.”
  • مباشرةً بعد هذه الاجتماعات، ظهيرة يوم 5 تشرين الأول/ أكتوبر، تمت دعوته، بهلع، إلى اجتماع بمشاركة الوزراء في تل أبيب، كي يتم إعلامهم بإمكانية اندلاع حرب غداً. وفي الجلسة نفسها، تم الحديث أيضاً عن أن غولدا لن تسافر برفقة عائلتها إلى كيبوتس رافيفيم، إنما ستبقى في منزلها في رامات أفيف. ويضيف زعيرا “قالت: أطلب منكم جميعاً أن تتركوا رسائل تفيد بمكانكم غداً. هذا معناه عملياً أن الحديث يدور عن حرب غداً. وهو ما يعيدني إلى نقطة البداية نفسها: ماذا فعلوا، وماذا لم يفعلوا.”

إذاً، لماذا في رأيك، لم يجنّدوا الاحتياط؟ وبمَ فكرتم، أنت ومَن كانوا معك، هل قلتم أنهم لا يعملون، وفقاً للنظرية الأمنية؟

  • “أستطيع أن أظهر أمامكم على أنني الرجل الأكثر ذكاءً في العالم، وأن أقول لكم إنني رأيتهم يخطئون. لن تسمعوا مني كلمة واحدة عمّا فكرت فيه في تلك اللحظة. لا تصدقوا أيضاً مَن يخبركم بما دار في باله حينها. أنا أتحدث عن حقائق. والحقائق هي أنكم أنتم الوزراء، أنتم الحكومة، قلتم أنهم سيهاجموننا بشكل مفاجئ، وحتى أنكم أعلمتم الأميركيين بذلك، ولم تجنّدوا أي شخص؟”
  • أنهت الحرب مسيرة باهرة. فقد تولى زعيرا منصبه كرئيس للاستخبارات العسكرية عندما كان في الـ45 من عمره. وبعد خدمته في البلماح كقائد سرية في لواء يفتاح في حرب 1948، كان أول ضابط يذهب إلى الولايات المتحدة للدراسة في مدرسة قيادة الأركان الأميركية، بعدها أصبح رئيس فرع، ورئيس شعبة العمليات في قيادة الأركان العامة، وقائد فرقة المظليين، ورئيس شعبة جمع المعلومات في أمان، وملحقاً عسكرياً في واشنطن. كما تولى رئاسة مكتب موشيه ديان عندما كان هذا الأخير رئيساً للأركان، وكان ديان يقدّره كثيراً، وهو الذي دفع إلى تعيينه في منصب مستشار وطني.
  • زعيرا هو نموذج غير عادي من رؤية تجمع بين السيف والكتاب، مقاتل، لكنه ضليع بالفن والفلسفةـ وكان لديه حظوظ كبيرة كي يصبح رئيساً للأركان، وفق الذين عملوا معه آنذاك. كان رئيس أمان صارماً، مثقفاً، حازماً، ومختلفاً تماماً عن الصياغات الحذرة والغامضة المتوقعة من الذي يشغل هذا المنصب. وعندما رفض زعيرا التحذيرات السابقة التي وصلت إلى القيادة من أشرف مروان بشأن قيام سورية ومصر بهجوم في كانون الأول/ديسمبر 1972، وبعدها في أيار/مايو 1973، بدا أن الأمل الذي وضعه موشيه ديان في الضابط الكاريزماتي قد تحقق.
  • في تلك الفترة، وقع زعيرا في خضم صراع شرس كان يدور في داخل قيادة المؤسسة الأمنية بين مؤيدي رئيس الأركان السابق حاييم بار-ليف وخط التحصينات الذي يحمل اسمه، والذي أقيم على طول قناة السويس، وبين معسكر أريك شارون، قائد المنطقة الجنوبية، الذي كان مع الابتعاد عن القناة كي لا نكون مكشوفين أمام هجوم مفاجئ من العدو، وبناء خط دفاع أول بعيد في عمق سيناء.
  • كان زعيرا يعتقد أن شارون على حق: “حتى نائب رئيس الأركان اللواء طال كان مع ذلك، وحتى أنا، الأصغر رتبةً، قلت لضباط رئاسة الأركان، بصفتي رئيساً للاستخبارات العسكرية، أقول لكم إنه يوجد على الجانب المصري من القناة 100 ألف جندي، و1200 مدفع، و1000 راجمة صواريخ، وفي جانبنا، يوجد كحد أقصى 1000 جندي، ينتشرون على مسافة 120 كيلومتراً، ولا يستطيع الموقع رؤية الموقع الآخر. تحدثت مع ديان عن ضرورة إنشاء ساحة قتال، ليس على بُعد 100 متر من الجيش المصري، وإنما على رؤوس الجبال.”
  • قبيل الحرب، بدأ ديان بتغيير رأيه، يقول زعيرا: “بعد مرور عدة أشهر، وفجأة، أجرى ديان نقاشاً، وقال بصورة فجائية: اقترح التراجع 30 كيلومتراً. لم يذكر السبب، ولا كيف. لم يكن هذا جدياً، لكن حتى في ذهنه، لم يكن الجلوس على طول القناة منطقياً.”
  • إرث آخر ورثه زعيرا وشكّل نقطة الانطلاق في افتراض وحدة الأبحاث، وهي أنه كي يقرر السادات الذهاب إلى حرب، يجب أن تتوفر شروط مسبقة أساسية تتعلق بتسليح الجيش المصري بصواريخ بعيدة المدى وبطائرات متطورة، وهو ما يشكل نقطة ثقل مضادة في مواجهة قدرة سلاح الجو الإسرائيلي، كما ظهر في حرب الاستنزاف، وفي مهاجمة العمق المصري.
  • هذه الافتراضات الأساسية مع كلمات من نوع “معقولية ضئيلة”، كتبتها وحدة الأبحاث صباح يوم الجمعة، قبل الحرب، لا تزال ترافق زعيرا منذ ذلك الحين، وكذلك الجيش وشعب إسرائيل كله، بالإضافة إلى كلمة “النظرية”.
  • يقول زعيرا: عندما قدمت شهادتي أمام لجنة أغرانات، وسألني أعضاء اللجنة مختلف أنواع الأسئلة، رأيت أنهم لا يفهمون الموضوع، وليسوا ضليعين بما نتحدث عنه، وقررت أن أجد كلمة تتناسب مع عقيدة شعبة الأبحاث التي لم يُطلق عليها اسم حتى الآن، وجاء في ذهني كلمة “نظرية”. قلت لأعضاء اللجنة أنه كان لدينا قائمة شروط طويلة مع أدق التفاصيل، مثل عدد الصواريخ وعدد الأسراب والطائرات من الأنواع المختلفة، يجب أن تتحقق كي يشنّ السادات حرباً. وكان لدينا خبراء في الموضوع، مهمتهم فحص قدرات الجيش المصري طوال الوقت، والتحسينات، وهل وصلت إلى المستوى الذي وضعه السادات.”
  • “في الأشهر الأخيرة قبل الحرب، وبعد صفقة السلاح مع الاتحاد السوفياتي. حصل المصريون على شحنات كبيرة من العتاد، وجرى ردم جزء من الفجوات. كنا نتابع ما يحصلون عليه، واعتقدنا أنهم عندما سيحصلون على الطائرات، ستقع الحرب.”
  • لكن الصحيح هو أنه حتى تشرين الأول/أكتوبر 1973، لم يحصل المصريون على الطائرات، لذا، من وجهة نظر أمان، ليس هناك حرب. من جهته، السادات قرر كما أصبح معروفاً اليوم، الذهاب إلى الحرب بما هو موجود، من أجل التوصل إلى مفاوضات سياسية، والحصول من غولدا مئير وموشيه ديان على ما رفضا إعطاءه من دون حرب-استعادة سيناء.
  • والسؤال هو كيف لم تعرف إسرائيل بالتغيير الذي طرأ على تفكير السادات؟ يقول زعيرا إن الجواب الواضح أن مَن زرع في إسرائيل الثقة بالنظرية، هو أيضاً مَن لم يخبرنا بأنها باطلة، هو الجاسوس المصري أشرف مروان الذي كان أفضل جاسوس جنّدته إسرائيل وشغّلته أكثر من مرة، بحسب خلاصات أبحاث الموساد، لكن بحسب الأحاديث التي أجراها زعيرا على مرّ السنوات، وفي الكتاب الذي نشره، كان أشرف مروان في الواقع عميلاً مصرياً مزروعاً في العمق الداخلي للعدو الصهيوني، واللولب المركزي في خطة الخداع المصرية…
  • يقول زعيرا الآن أنه شكّ في مروان منذ اللحظة الأولى: “شخصان رفيعا المستوى في الموساد كنت أحترمهما جداً، قالا لي إن ثمة شيئاً مريباً مع هذا الجاسوس، لذلك، لم أوافق على ما كان يأتي به، إلا إذا كانت وثائق يمكن التأكد من أنها ليست مزورة، ولم أصدق ما كان ينقله إلينا شفهياً.”
  • في كانون الأول/ديسمبر 1972، قالت أمان التي كانت برئاسة زعيرا، إن التحذير الذي نقله مروان عن حرب وشيكة ليس صحيحاً. يقول زعيرا: “بعد التحذير الذي وصل من مروان عن الحرب في أيار/مايو، قلت لسلاح الجو: ما هي المطارات الأساسية لسلاح الجو المصري؟ فقالوا لي هذا وذاك. قلت لهم صوروها، وادرسوا النتائج. لماذا فعلت ذلك، لا أدري؟ مجرد حدس. رأيت في مطارين وثلاثة مطارات أن المصريين مشغولون بإصلاح وتزفيت مدارج الطائرات. وقلت لنفسي: لا يمكن أن يخوضوا حرباً والمطارات قيد التصليح. لاحقاً، تبين أن مصر لم يكن لديها القدرة بتاتاً في أيار/مايو على شن حرب.”
  • …. خلال الحديث معنا، روى لنا زعيرا كيف نقل أشرف مروان رسالة تهدئة في أيلول/سبتمبر بأن الحرب تأجلت حتى نهاية السنة، عندما كان العديد من المسؤولين الكبار في سورية ومصر يعرفون موعد الحرب الذي حُدّد عشية يوم الغفران. كثيرون ممن اعتمدوا على أن الأرشيف سيبقى سرياً إلى ما نهاية، ادّعوا أن زعيرا كاذب، لكن المواد التي جرى الكشف عنها تدل على أنه كان صادقاً.
  • في الأسابيع الماضية، بدا كما لو أن الحرب اشتعلت من جديد. ليس الحرب بين إسرائيل والجيشين السوري والمصري، بل الحرب بين الجيش الإسرائيلي والموساد، وبين المؤيدين للمعسكرين: أنصار رئيسة الحكومة غولدا مئير ورئيس الموساد زامير من جهة، ومن جهة ثانية، الذين يدافعون عن وزير الدفاع ديان ورئيس الأركان ورئيس أمان زعيرا وشعبة الاستخبارات.
  • 50 عاماً مرت، كأن شيئاً لم يكن، وكل شيء انفجر في الأسابيع الأخيرة… وعلت الأصوات العلنية، ومن وراء الكواليس، المطالِبة بفتح الكتب والصناديق التي لا تزال مغلقة، والطافحة بالمواد السرية التي لم يُسمح بنشرها حتى الآن.
  • يقول رجل استخبارات رفيع المستوى وضليع بالموضوع، وبما تحتوي عليه هذه الصناديق: “زعيرا هو المسؤول عن الإخفاق الكبير في تقديرات أمان بعدم توقُّع نشوب حرب. هو وموظفوه، كان عليهم شرح خطورة الوضع وإصدار تحذير من الحرب. كل هذا لا يمنعنا من أن نفحص فعلاً لماذا فوجئنا وكيف. يجب فحص حجج زعيرا بصورة جوهرية، بدلاً من رفضها لمجرد أنه طالب بها. وفي اليوم الذي نستطيع الوصول إلى الوثائق السرية، ستنتظرنا مفاجأة كبيرة.”
  • نعود الآن إلى تلك اللحظة، صباح يوم الجمعة، عندما أعلن زعيرا خبر مغادرة المستشارين الروس مصر، وادّعى أن مصر لا تسير نحو حرب، ولم يعرف تفسير هذه التطورات. الكل سمع، والكل تحدث عن الحرب، لكن لم يتخذ أحد الخطوة المطلوبة – الضغط على الزر الأحمر لتعبئة الاحتياطيين.

……

لماذا مع كل المعلومات التي تراكمت لديكم من كل وحدات جمع المعلومات، وكشف الوحدة 8200 عن إجلاء المستشارين الروس، لم تؤدّ إلى تعبئة الاحتياطيين، الأمر الذي جرى فقط عندما حذّر أشرف مروان قبل 12 ساعة فقط من بدء إطلاق النار؟ هل اعتقدوا أن لديهم أداة تنصُّت على دماغ السادات، وانتقلوا من تقدير قدرات العدو إلى تقدير نيات العدو، وربما هنا يمكن جذر الشر؟

  • زعيرا ليس مستعداً للاعتراف، لكنه مثل غولدا وديان ورئيس الأركان والموساد، لقد انتظروا سماع ما سيقوله الجاسوس أشرف مروان، وأن يعطي الإشارة – ودلائل إضافية حتى يعطوا الأوامر بتعبئة الاحتياطيين، وجرى هذا قبل 12 ساعة من بدء الحرب.
  • إذا كان صحيحاً أن مروان كان يعمل لمصلحة المصريين، كما تدّعي، لماذ جاء محذّراً؟
  • “لأن هذه المرة، كانت الصور الجوية مخيفة، تجمّعات للقوات بأعداد كبيرة، ومعلومات أُخرى، بحيث لم يعد في مقدور مروان عدم التطرق إلى ما أصبح الجميع يعرفه.”
  • يعترف زعيرا بأن الرابح الأكبر في هذه السنوات كان الرئيس المصري، ويقول: “في نظري هو من كبار السياسيين في جيله. كان عبقرياً إلى جانب أقزام في تلك الفترة. ومن المحتمل جداً أن السادات أراد المحافظة على مصدره مستقبلاً، وعدم حرقه لأنه لم يكن يعرف كيف ستنتهي الحرب، وما إذا كان سيحتاج إلى أشرف مروان مرة أُخرى.”

لقد حافظت على الصمت وقتاً طويلاً، وبعد الكثير من السنوات، قررت عرض وجهة نظرك من الأحداث، وكتبت كتاباً أثار ردات فعل قوية، جزء منها انتقاديّ جداً. ما تأثير ذلك فيك؟

  • “لقد قطعت عهداً أمام نفسي وأمام الناس. إذا كنتم تشعرون بهذا الشعور، أو بشعور آخر، فإن الأمر لا يهمني. لقد كتبت هذا الكتاب، وهذا كل شيء. تريدون قراءته فليكن، أو لا تريدون قراءته فليكن أيضاً.”
  • لكن على الرغم من هذا، فإن زعيرا لا يخفي رضاه وحتى حماسته إزاء اهتمام أحد الجماهير به. قبل شهرين، اجتمعت في القاعة المركزية للكلية العسكرية كل القيادة الكبيرة في أمان، من رتبة عميد فما فوق، برئاسة اللواء أهارون هاليفي، في أمسية خاصة هي سلسلة من أمسيات لإحياء ذكرى مرور 50 عاماً طافحة بالاستنتاجات والدروس مما يُعتبر أكبر صدمة في تاريخ أمان. وعلى المنبر، استضاف رئيس شعبة الأبحاث الحالي اللواء عميت ساعر رئيس الاستخبارات العسكرية آنذاك إيلي زعيرا.
  • أعدّ المنظمون أسئلة كثيرة واعتقدوا أن زعيرا المتقدم في السن سيلاقي صعوبة في الكلام، لكنه فاجأهم بخطاب بليغ ومنظم، حين قال: “النجاحات تعطونها دائماً لمرؤوسيكم والإخفاقات تتحملونها أنتم.” وتحدث عن مجموعة من الدروس والعمليات التي كان يجب أن ينفّذها بصورة مختلفة، مع إصرار حاد على ما كان يجب عدم تغييره. لم يوافق الجميع على كلامه، لكنهم كلهم أُعجبوا بقدرته وحدّة ذهنه، وتخيلوا ما كان عليه الوضع عندما كان يقف إلى الطاولة مع القائد.
  • غادر زعيرا اللقاء وهو مسرور للغاية، وقال: “نظرت إليهم طوال المساء، وكنت راضياً جداً. وعندما كانوا يتدخلون في النقاش ويطرحون الأسئلة، قلت في نفسي هذه المجموعة عالية الجودة، ليس لديها الغطرسة، وهي مستعدة لسماع الرأي الآخر. باختصار، كانت تجربة، ويمكنني القول أنا متفائل جداً.”
  • وعن رأيه في الأزمة التي يمرّ بها البلد والجيش الإسرائيلي، قال: “ألتقي هنا وهناك بكل أنواع الأبطال. ويخيّل إليّ أن أبطال اليوم، مقارنةً بالماضي، هم أكثر نضجاً في العمر وفي الشخصية، ولديهم تصوّر أكثر تماسكاً، وحريصون جداً على ألا يجعلوا منهم كبش فداء، أو فزاعات، أو شيئاً آخر. وهناك ضابط واحد في الجيش الإسرائيلي، أستطيع ان أقول عنه إنه لا يمكن إخضاعه ولا شراؤه، هو رئيس الأركان أهارون هاليفي الذي لديه الحقيقة، وليس لديّ شك في أنه سيتمسك بها.”

المصدر: (مؤسسة الدراسات الفلسطينية) العدد 4115 في 29 أيلول/ سبتمبر 2023

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.