الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

عملية “طوفان الأقصى”، تطوراتها، وأبعادها، وتداعياتها المحتملة

مقدمة:

في صبيحة اليوم التالي ليوم الغفران اليهودي، استفاقت إسرائيل على صدمة لم تكن تتوقعها، حيث اجتاحت السياجَ بين غزة وغلافها الذي يضم عشرات المستوطنات والكيبوتسات والقطع العسكرية، مجموعاتٌ مقاتلةٌ من حركة حماس قُدّر عددها بنحو 1000 مقاتل، عبروا السياج بطرق مختلفة، برًا وبحرًا وجوًا (منها الطيران الشراعي وربما منها الأنفاق)، وسيطروا على معظم هذه المستوطنات والقطع العسكرية، مستفيدين من أن جيش الاحتلال الاسرائيلي واستخباراته في حالة استرخاء بمناسبة العيد وأغلب الجنود في إجازات.

الصدمة التي لم يفق منها الإسرائيليون حتى اليوم الثاني أربكت الجيش الإسرائيلي واستخباراته وشرطته، حيث تمكن المقتحمون الفلسطينيون من قتل نحو 1200 إسرائيلي، بين مدني وعسكري، منهم 200 ضابط، فيهم 11 ضابطًا قائدًا برتب عالية، كما تمكنوا من أسر أكثر من مئة ونقلهم إلى داخل القطاع، ومن جرح نحو 2600، ولم تتمكن إسرائيل من استعادة السيطرة الكاملة حتى اليوم الثالث.

فاجأت تلك العملية كثيرًا من الأطراف المعنيّة بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي، سواء القريبة والبعيدة، من حيث النوع والحجم والتوقيت والنتائج، وفتحت باب تساؤل كبير حول قدرة المقاومة الفلسطينية في غزة على تهريب احتياجات هذه العملية، بالرغم من الحصار البري والبحري والجوي الخانق. وكانت قبل ذلك مفاجأةً كبيرة لإسرائيل، من حيث الخسائر، ومن حيث فشل أجهزتها الأمنية والعسكرية في اكتشاف التحضير للعملية، وفي الاستعداد لمواجهتها. وهذا ما سيدفع إسرائيل للانتقام من القطاع، ولا سيّما بعد أن حظيت بدعم القوى الغربية والولايات المتحدة، سياسيًا وعسكريًا، مستغلّة ما حدث من قتل لمدنيين وأسر لبعضهم.

السؤال الأساس الذي يطرحه الحدث يدور حول الردّ: هل سيبقى محصورًا في قطاع غزة، أم أن هناك احتمالًا لأن تدخل جبهات أخرى على خط الصراع، تُحدث تغييرًا في قواعد الاشتباك القائمة في المنطقة منذ حرب تموز 2006، على اعتبار أن ملفاتها مترابطة تحركها وتتحكّم فيها إيران؟ أو هل يدفع هذا الحدث الكبير قيادة إسرائيل إلى البحث عن حل “عادل” يقبل به الفلسطينيون، مثل قبول قيام دولة فلسطين المستقلة في الضفة والقطاع؟ أم أن مثل هذه الأفكار لا تزور العقول المتطرفة التي تتحكّم في إسرائيل، ولا سيّما أن سلوك إسرائيل وأفعالها على الأرض يدلّان على أنّ هدفها قتلُ فكرة الدولتين أو فكرة الدولة الواحدة للعرب واليهود.

ثانيًا: الاحتلال الإسرائيلي ونظام الأبارتايد أساس المشكلة

عمدت إسرائيل منذ توقيع اتفاق أوسلو (غزة أريحا أولًا) عام 1993، إلى محاولات التنصّل من الاتفاق، وزرع المزيد من المستوطنات على حساب الأراضي التي يُفترض أن تكون أراضي للدولة الفلسطينية الموعودة، وساهم في ذلك الصعود المتنامي لليمين الإسرائيلي وسيطرته التدريجية على الحقل السياسي الإسرائيلي، مع تراخي الضامن الأميركي في الضغط على إسرائيل لتنفيذ تعهداتها، ولعب الانقسام الفلسطيني ما بين سلطتي رام الله وغزة دورَه في تمييع الموقف الإسرائيلي والدولي، وقد عمدت حكومات إسرائيل إلى حصار غزة بشكل خانق ودائم، وشنت عدة حروب متواترة عليها منذ العام 2009، وزاد الطين بلة صعود اليمين المتطرف يتصدّره وزير الأمن الإسرائيلي الحالي إيتمار بن غفير، الذي يشارك في حكومة نتنياهو القائمة حاليًا، ويسعى لفرض أجندته المتطرفة على الفلسطينيين عبر استفزازهم الدائم باقتحامات المستوطنين المتكررة بمرافقته للمسجد الأقصى، بل إنه يسعى لفرض أجندته على الشارع الإسرائيلي أيضًا، بمحاولة تغيير الواقع القانوني الناظم لعمل الدولة الإسرائيلية منذ قيامها.

التطرّف والضغط الإسرائيلي، مع صمت العالم عن أفعال إسرائيل، زادا في التطرّف الفلسطيني، وخلقا واقعًا نشأت في مناخه مجموعات صغيرة غير مترابطة وانتحارية، راحت تعمل على طريقة الذئاب المنفردة، وقد واجهتها إسرائيل بمزيد من الاجتياحات والقتل، في جنين ونابلس وحوارة وغيرها من المدن الفلسطينية، وذلك بعد أن كان النضال الفلسطيني يأخذ منحًى مختلفًا وخلاقًا، وقد توّجته الانتفاضة الأولى كانون الأول/ ديسمبر 1987، ثم الانتفاضة الثانية التي بدأت في 28 كانون الثاني/ يناير 2000 وانتهت عمليًا في 8 شباط/ فبراير 2005، اللتان أكسبتا القضية الفلسطينية تأييدًا دوليًا واسعًا بخاصة عند الشعوب الأوروبية، وأشاعتا في المجتمع الإسرائيلي نقاشًا وانقسامًا حول وجوب الدخول في حل لقضية الشعب الفلسطيني، وحول حقّه في تقرير المصير، وبعد أن أفضت تلك النقاشات بعد أربع سنوات من الانتفاضة الأولى إلى وصول إسحاق رابين إلى السلطة وتوقيع اتفاق أوسلو، راح التطرف الإسرائيلي الصاعد يستدعي تطرّفًا فلسطينيًا مضادًا.

يكتب أحد الإسرائيليين (جدعون ليفي) في صحيفة (هآرتس) الإسرائيلية، في 8 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري: “يتحمّل بنيامين نتنياهو مسؤولية ثقيلة جدًا عمّا حدث، وعليه أن يدفع الثمن، لكن الأمر لم يبدأ معه ولن ينتهي بعد رحيله، وعلينا أن نبكي بمرارة على الضحايا الإسرائيليين، لكن علينا أيضًا أن نبكي على غزة، غزة التي معظم سكانها لاجئون خلقتهم أيدي إسرائيل، غزة التي لم تعرف يومًا واحدًا من الحرية”(1).

ثالثًا: رد الفعل الإسرائيلي

تلقّت إسرائيل ضربة قوية كسَرت هيبتها، وستكون لها تداعياتها في الداخل الإسرائيلي، بعد وقف القتال وبدء التحقيقات لتحديد المسؤولين عما حدث وعن الفشل الإسرائيلي الاستخباراتي والعملياتي، لذلك كما هو متوقعٌ من حكومة يمينية، فإن ردة الفعل الإسرائيلية الأولية تمثلت بشنّ عمليات قصف جوي عشوائي وكثيف على قطاع غزة، شمل حتى الآن أكثر من 2000 هدف، منها قصف معبر رفح بين القطاع وسيناء لتعطيل حركة النزوح، ومنع دخول المساعدات، وقد تسبب ذلك في قتل 560 وجرح 5000 من المدنيين الفلسطينيين حتى الآن، ونزوح 250 ألفًا من سكانها، لجأ أغلبهم إلى مدارس الأونروا، ولجأ قسم إلى الحدود مع رفح، وفرضت على القطاع حصارًا خانقًا، حيث قطعت إمدادات الماء والكهرباء والطعام، وفعّلت إسرائيل البند الثامن من قانون الدفاع الإسرائيلي، الذي يعطي الحكومة الحق في شن حرب شاملة، وهو البند الذي لم يُفعّل منذ حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، واستدعت 300 ألف من جنود الاحتياط، كذلك رحّب نتنياهو بدعوة زعيم المعارضة الإسرائيلية يائير ليبيد، بتشكيل حكومة وحدة وطنية لكن بدون شروط مسبقة(2)، وهو الخيار الذي تذهب إليه إسرائيل عادةً عند خوضها حروبًا شاملة، وأكثر نتنياهو من تصريحاته النارية التي تحاول تهدئة الداخل الإسرائيلي والحفاظ على تماسكه، بقوله إن إسرائيل تواجه حربًا وجودية، مهددًا بأن رد الفعل الإسرائيلي سوف يغير خريطة الشرق الأوسط. ولعله يقصد معادلات الصراع في الشرق الأوسط، التي تكون إسرائيل طرفًا فيها، لأن تعديل الخرائط ليس رهن رغبته، وهو خارج إمكاناته موضوعيًا.

رابعًا: في ردود الفعل الإقليمية والدولية

o  في ردود الفعل العربية والإقليمية:

أثار حجم الضحايا الإسرائيليين، وممارسات مقاتلي (حماس) بحقّ المدنيين وتوثيقها وبثّها، الهياجَ والعدوانية الإسرائيلية، وقد استعملتها إسرائيل لكسب التأييد لما تفعله. ومن جانب آخر، تسعى مصر- من دون جدوى- لأن توقف عجلة الصراع، وتتوسّط قطر لإجراء صفقة تبادل أسيرات بين حماس وإسرائيل، وكانت حماس قد هددت بأن تُعدم أسيرًا على الهواء، بعد كل هجوم إسرائيلي لا يسبقه إنذار، كعادة إسرائيل في الحروب السابقة، والسعودية من جهتها أصدرت خارجيتها بيانًا دعت فيه إلى وقف التصعيد، وتواصل اتصالاتها مع الدول الفاعلة للضغط على إسرائيل، من أجل وقف عدوانها على المدنيين الفلسطينيين، أما وزير خارجية لبنان، فقد صرّح بأن لبنان لا يريد أن يُجرّ إلى حرب لا يستطيع تحمل نتائجها، والمقصود بكلامه هنا “حزب الله”. ومن جهة ثانية حذّرت تركيا من اتساع رقعة الصراع في المنطقة، أما إيران فقد دعت إلى عقد جلسة لدول المؤتمر الإسلامي لبحث التطورات في غزة، وتنصّل المرشد الإيراني علي خامنئي من الاتهامات لإيران بأنها تقف خلف هجوم حماس، وادعى أنهم يدعمون قضية فلسطين، في حين أدانت أغلب الدول العربية القصف الإسرائيلي على غزة.

o  في ردود الفعل الدولية:

هذه هي المرة الأولى التي تحظى فيها إسرائيل بكلّ هذا الدعم والتعاطف الغربي، حيث سارعت كل الدول الغربية إلى إبداء تعاطفها مع إسرائيل، بصفتها ضحية “إرهاب حماس”، في حين ذهبت الولايات المتحدة إلى إعلانها تقديم مساعدات عسكرية وغير عسكرية على وجه السرعة، وأرسلت حاملة طائراتها جيرالد فورد إلى شرق المتوسط، وعززت طيرانها في قواعدها في المنطقة، وحذّر وزير خارجيتها أنطوني بلينكن الأطراف الأخرى من محاولة استغلال ما يجري في غزة والدخول على خطّ الصراع المستجد، والمقصود بالتحذير بداهة إيران وأذرعها في المنطقة، وفي مقدمتهم حزب الله اللبناني، والتحذير ذاته ورد على لسان مسؤول في البنتاغون مهددًا “حزب الله” من مغبة اتخاذ قرار خاطئ بفتح جبهة ثانية مع إسرائيل(3)، وعرضت على إسرائيل التعاون الاستخباراتي لتحرير الأسرى الإسرائيليين في القطاع، ويمكن التدليل على جدية الموقف الأميركي بتلك الجلسة التي عقدها مجلس الأمن الدولي في 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 لبحث التطورات على خلفية هجوم حماس، من دون أن يُصدر المجلس بيانًا رئاسيًا يدعو الأطراف لضبط النفس، مما يدلل على أن الولايات المتحدة قررت إعطاء إسرائيل الوقت الكافي لتصفية حساباتها مع حماس، كذلك صدر بيان مشترك عن الدول الخمس (أميركا، فرنسا، بريطانيا، ألمانيا، إيطاليا) يعلن استعدادها لمساعدة إسرائيل في الدفاع عن نفسها(4)، وأعلن الاتحاد الأوروبي وقف المساعدات التنموية إلى الفلسطينيين، وقدرها 691 مليون يورو سنويًا(5).

خامسًا: حول محور المقاومة وتوسّع دائرة الصراع

اتجهت بعض التوقعات إلى إمكانية دخول “حزب الله” على خط الصراع، لتخفيف العبء عن حماس، كونها أحد مكونات محور المقاومة الممولة والمدعومة من إيران، إلا أن الواقع لم يُظهر ما يوحي بأنّ حزب الله في هذا الوارد، وليس في حسابات إيران هذا الأمر، على الرغم من إطلاق بعض القذائف من جنوب لبنان باتجاه مزارع شبعا في اليوم الثاني للحرب، ومن محاولة تسلّل أربعة مقاتلين تابعين لمنظمة الجهاد الإسلامي في لبنان عبر الشريط الحدودي إلى داخل إسرائيل، حيث خاضوا اشتباكًا مع قوات إسرائيلية أدى إلى جرح ثلاثة جنود إسرائيليين وقتل اثنين من المقاتلين الأربعة، وقد تبع ذلك غارات إسرائيلية على موقع لحزب الله قتل فيها ثلاثة عناصر للحزب وجُرح أربعة، مع ذلك ليس من المرجح أن يُتخذ القرار بدخول الحزب على خط الصراع. وفي السياق، أطلقت قذائف هاون، أول أمس، من “سرية عابدين” في ريف درعا الغربي، باتجاه منطقة “تل الفرس” المحتلة في الجولان السوري، ولم تُطلق من لبنان كي تبقى جبهة لبنان محايدة، ذلك أن “محور المقاومة” ليس في حالة مريحة، ومشغلته إيران ليس من مصلحتها خوض حرب شاملة، فهي تجيد ممارسة حرب الوكالات عبر أذرعها في المنطقة، لكن المقام هنا مختلف، وتصريح نتنياهو بأن “أعداءنا يدركون معنى قدوم حاملة طائرات أميركية إلى السواحل الإسرائيلية”، ليس كلامًا في الفراغ.

سادسًا: استنتاجات

دخول حماس بهذا الشكل والتكلفة الكبيرة التي حمّلتها لإسرائيل، وكسرت هيبتها وقوة الردع الإسرائيلية المدعاة، وضعت إسرائيل أمام تحدٍّ غير مسبوق، سيكون له آثاره على المجتمع الإسرائيلي ذاته، وعلى اتجاهات قواه السياسية.

قياسًا على حجم الخسارة الإسرائيلية على المستويين البشري والمعنوي، وعلى العنف المفرط الذي مارسته إسرائيل على غزة حتى الآن؛ يُتوقع أن تتابع إسرائيل الحرب. وربما تذهب إلى خيارات متقدمة منها اجتياح القطاع، ولكن تكلفة هذا الخيار المميت ستكون دمار غزة وقتل أعداد كبيرة من الفلسطينيين، غير أن اجتياح غزة لن يكون نزهة للإسرائيليين، وسيكلفهم الكثير.

على الرغم من تصريح محمد الضيف، القائد العام لقوات القسّام، بأن “إسرائيل ستكون واهمة، إذا اعتقدت أن الصراع سيبقى محصورًا في غزة”، وعلى الرغم من تصريحات نتنياهو بأن إسرائيل مستعدة لكافة الخيارات، ومن استنفار جيشها على الحدود الشمالية، فإنه من المستبعد دخول “حزب الله” أو الميليشيات الإيرانية الحرب إلى جانب حماس، لا من جنوب لبنان ولا من جبهة الجولان، ولن تستعجل إيران التفريط بما أنجزته، ونظرية ترابط الساحات ليست سوى بروباغندا إيرانية سمجة. وبالمقابل ليس من مصلحة إسرائيل الحرب على أكثر من جبهة، ما لم تضطر إلى ذلك.

بغضّ النظر عن حسابات الربح والخسارة من عملية حماس، فإن أصل المشكلة يكمن في احتلال إسرائيل للأرض الفلسطينية وحصار غزة، والاعتداءات على الأقصى، والاستيطان والتمييز العنصري، ورفض حل الدولتين، ورفض حل الدولة الديمقراطية الواحدة على كامل أرض فلسطين التاريخية. والدعم الغربي الأميركي والأوروبي لإسرائيل، مع إغماض العين عن كلّ ما تفعله، يتحمّل مسؤولية كبيرة في مأساة الفلسطينيين في غزة وفي الضفة وفي الشتات.

…………………

المراجع:

1) موقع معًا الفلسطيني:

https://www.maannews.net/articles/2102416.html1

2) وكالة الأناضول تاريخ 8/10/ https://www.aa.com.tr /30108442

3) سكاي نيوز عربي: 2023https://www.aa.com.tr /30108442

4) سكاي نيوز عربي:

https://www.skynewsarabia.com/middle-east/1660439

5) موقع العربية:

https://www.alarabiya.net/arab-and-world/2023/10/10

ـــــــــــــــــــــــــ

المصدر: مركز حرمون

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.