سمير العيطة *
بعد ساعات قليلة من عملية «طوفان غزة»، لافت أن تحشد الدول «الغربية» جهودها الدبلوماسية والإعلامية وصولاً إلى العسكرية وراء القيادة الإسرائيلية. وكأنها هي أيضاً ذاهبة مجتمعة إلى حرب بحجم الحرب في أوكرانيا. لكن غزة ليست روسيا، وليست «حماس» سوى تنظيم سياسي في سجنٍ كبير وليس دولة.
هكذا «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة».. القادمة من «الغرب». وكل السبل معبأة لحشد الجهود. وهكذا صرح رئيس الولايات المتحدة الأمريكية بايدن أنه شاهدَ صور أطفال إسرائيليين مذبوحين لتبرير إرسال حاملات طائرات أمريكية.. شطحة كبيرة خفّف الناطق باسم البيت الأبيض من فداحتها لاحقاً.
الحجة المتكررة هي أن حماس تنظيم متطرّف وإرهابي يريد إزالة إسرائيل في حين أن الحكومة الإسرائيلية الحالية هي أيضاً متطرفة تدعم إرهاب المستوطنين وتدعو صراحة لإزالة «العرب»، أي الشعب الفلسطيني. والقول إن حماس تنظيم ديني- سياسي وتجاهل أن إسرائيل ذاتها كيان ديني- سياسي يعتمد بعمق اليوم على الفصل العنصري.
الحجة المتكررة أيضاً أن انتهاكات إنسانية ارتُكبت خلال يوم «الطوفان» الأول سيحتاج العالم إلى جيل كامل للتحقق مما حدث فيها فعلاً، ومن خلال مؤرخين إسرائيليين بالتحديد.. وليس عرباً. إن الرواية التي يتم تسويقها اليوم هي تلك التي يكررها للجيش الإسرائيلي دون أي اعتبار للشهادات المناقضة. بالتأكيد حدثت تجاوزات، فالاحتقان كبير بين الطرفين، خاصّة بعد انهيار الجدار العازل لسجن غزة والجيش الإسرائيلي في المحيط بسرعة كبيرة. تجاوزات يُمكن وضعها في مقابل تجاوزات المستوطنين اليومية دون ردع من الجيش «المنظم» الإسرائيلي.
تكرار الحجة حول الرهائن الذين تم احتجازهم، الكثير منهم من جنسيات «غربية»، دون توضيح إن كان هؤلاء مزدوجي الجنسية ومجندين في الجيش الإسرائيلي أو في «الكيبوتزات»، والتي هي أيضاً كيانات استيطانية ومقاتلة في الوقت نفسه، أم أنهم فقط مدنيون. هذا دون احتساب أن معظم المحتجزين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية هم أيضاً «رهائن».. دون محاكمة.
منطق لا يأخذ في اعتباره تصريحات مسؤولين إسرائيليين أن الفلسطينيين والعرب «وحوش بشرية» ويعتمد ثنائية الحضارة مقابل الهمجية. وهو منطق يعود إلى الحقبة الاستعمارية، ليس غريباً أن تعتمده إسرائيل لأنها بطبيعتها.. «دولة استعمارية». ولكن اللافت هو أن يتحول اليوم إلى خطاب سائد في الولايات المتحدة وأكثر منه في أوروبا وبسرعة. والأغرب أن الأصوات النقدية لمثل هذا الخطاب الاستعماري متواجدة في إسرائيل نفسها وحتى في الولايات المتحدة.. أكثر من تواجدها في أوروبا.
- • •
هذا كله من أجل تبرير «الانتقام» الإسرائيلي من غزة وجرائم الحرب التي تُرتكب ضد أهلها بشكل غير مسبوق. وهذا لدرجة أن الصليب الأحمر الدولي اتخذ موقفاً أيضاً غير مسبوق يدين الانتهاكات الإسرائيلية. أم أن كل هذا تحضير للذهاب أبعد من ذلك؟
وما هو أبعد يُجسده واقع أن يوماً واحداً من عملية «طوفان الأقصى» شكلَ منعطفاً أساسياً في المنطقة برمتها. سواء إن تطابق ذلك مع خطط القائمين على العملية أم تجاوز توقعاتهم. لقد شكلت عملية «طوفان الأقصى» إهانة كبيرة للجيش الإسرائيلي، وانتقل الصراع المسلح إلى داخل أراضي 1948، وما لا يمكن لمنطق تفوق إسرائيل النووية بدعم من «الغرب» أن يتحمله. وما يعني أن الجمود والاستعصاء المسيطرين قد انكسرا ليس فقط بالنسبة للقضية الفلسطينية، بل أيضاً في لبنان وسوريا والعراق وإيران. واصطدم مسار التطبيع الإسرائيلي- العربي بإشكاليات مغزاه ومساره في ظل الاحتلال والغطرسة.
هذا الانعطاف يعني أن إسرائيل، بحكومة متطرفة أم ائتلافية، لن تقبل بالعودة إلى الوضع السابق في غزة ولا التفاوض، لا حول «الرهائن» ولا حول وضع جديد. وما يعني أن إسرائيل، ووراءها «الغرب» وحشوده العسكرية، سيذهبون جميعاً للقفز إلى إنهاء معضلة غزة من أساسها بعد الفشل في ضبط تدفق السلاح إليها على عكس الضفة الغربية. والأغلب أن الفكرة «الغربية» هي تهجير أهل غزة نحو مصر مقابل منح مصر مساعدات مالية تُخرجها من أزمتها الاقتصادية الحالية. وربما كان هذا الثمن أقل كلفة مما كان يقدم لغزة لاحتوائها خلال الفترة السابقة.
- • •
تكمن مخاطر هذه القفزة في إمكانية توسع الصراع إلى لبنان وسوريا والعراق وإيران. لأن هذا التهجير العنصري لا يمكن تقبُله مما بقي من رأي عام.. عربي. ولأنه يشكل توسعاً جديداً «للدولة العبرية» بعد قضم الضفة الغربية والجولان، الذي اعترف به «الغرب»، ويهدد بالتوسع الذي سيليه مع طموحات إسرائيل من الفرات إلى النيل، والتي باتت تترسخ منذ اغتيال إسحق رابين.. بيد متطرفين صهاينة.
على هذا الأساس، تأتي الحشود العسكرية الأمريكية والتي لحقتها تلك البريطانية ويأتي توحد الخطاب الأوروبي تهديداً صريحاً بالمشاركة في الحرب إن توسعت وتحدياً صريحاً لجميع مشاعر الضفة الأخرى من البحر المتوسط. وربما أيضاً تغطية على الفشل الحالي المشهود للهجوم المضاد الأوكراني الذي تم الحشد الكبير حوله.
وأبعد من ذلك. تلقي هذه القفزة إضاءة جديدة على السياسات الأمريكية والأوروبية منذ غزو العراق وانطلاقة «الربيع العربي». فهي تدخلت دبلوماسياً، بل اجتماعياً وميدانياً وعسكرياً، في انتفاضات شعوب عربية كانت تبحث عن حرية وكرامة ضد سلطات قائمة كان «الغرب» قد ساعد أصلاً في تثبيتها عقوداً. تدخل بحجة الدفع نحو الديموقراطية. في حين تم العمل على تقويض مؤسسات الدول التي جرى التدخل فيها والتي لا يمكن للديموقراطية أن تقوم دونها. وتم بث روح التفرقة الاجتماعية والطائفية والإثنية بحجة الدفاع عن «الأقليات» أو عن مشاريع تقسيم لم تسنح الفرصة بتحقيقها خلال الفترة الاستعمارية كما حصل للمشروع الصهيوني. وهي سياسات تدخلت عام 2016 لمنع صندوق النقد الدولي عن إيقاف التدهور المالي اللبناني كي يتمّ دفع البلد إلى الانهيار الذي يعيشه اليوم. فلا حريّة ولا كرامة، بل الدمار والجوع.
ليس بعيداً عن الحقيقة والواقع تماثل ما يجري اليوم مع الحقبة الاستعمارية في القرن التاسع عشر. وخيارات الشعوب العربية المطروحة تُماثل تلك التي يعيشها الشعب الفلسطيني.
لكن خيارات بعض الحكومات العربية، خاصة الخليجية منها، أكبر وأوسع. فهي تملك قوة حقيقية يمكن أن تشكل ورقة ضغط أو تفاوض. فقد أتاح لها «طوفان الأقصى» فرصة لكي تُبرز إن كان مسار «التطبيع» الذي قامت به حقاً وسيلة لكسب حقوق للشعب الفلسطيني ولترسيخ سلام تنمية في المنطقة، كما يتم الحديث.. أم سيترك الشعب الفلسطيني، والعرب الآخرون، وحدهم في مواجهة.. الاستعمار. إذ لم نعد حتى في الزمن الذي كانت فيه الولايات المتحدة نفسها تدعم حق الشعوب في التخلص من الاستعمار وفي مناهضة نظام «تمييز عنصري».
* كاتب وباحث سوري ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب
المصدر: الشروق