د. جمال الشوفي *
رغم حجم الكارثة الكبرى التي حلت طوال الاثنا عشر عاماً عبر الحرب والاستعصاء السياسي في حل مسألتها التي بدت عقدة دولية متشابكة، لكنها لم تثنِ السوريون عن مثابرتهم وايمانهم بحقهم بالحياة الحرة والكريمة. ها هو طائر الفينيق السوري ينهض من تحت الرماد في موجة ثورية شعبية جديدة تطالب بالحرية والكرامة.
فمن مدينة السويداء في الجنوب، وللأسبوع السابع على التوالي، تستمر مظاهراتها الشعبية السلمية وبمشاركة متنوعة لكل أطياف الشعب السوري ممن تمكن من الوصول لساحاتها، وتتجاوب معها بعض من المدن السورية، معيدة إحياء مسيرة الثورة السورية التي انطلقت في أذار/ مارس 2011.
ساحة الكرامة في السويداء وساحات بلداتها وقراها أيضاً باتت ملتقىً وطنياً يومياً، لكل شرائح المجتمع تتقدمهم السيدات والشباب والشابات وفرق عمل مدنية، يتظاهرون مع رجال الدين والسياسة معارضين وموالاة وخلفهم كلمات الحق التي بثّها للعلن الشيخ “حكمت الهجري”، الرئيس الروحي للطائفة الدرزية ومطالبهم مطالب الحرية والكرامة والعيش الكريم في دولة المواطنة، وشعارهم التغيير السياسي كاستحقاق وطني طال انتظاره بمرجعية القرار الاممي 2254/2015.
في ساحات السويداء كرنفال احتفالي وطني، يكتنز حباً وكرامة وبحثاُ عن السلام والاستقرار والأمان والعيش الكريم، تزينها أغاني التراث الفني لجبل العرب، تسترجع ذاكرة السوريين في بدايات ثورتهم، فباتت عرساً وطنياً يمتد على مساحة وطن.
أبناء هذه المنطقة من الأقليات المعروفة بالموحدين “الدروز”، ذوي الطبيعة المدنية والدينية المعتدلة، العلمانيون بالفكر والممارسة، فتدينهم لا يُفرض على أبنائهم، ورجال دينهم لا يتعاطون السياسة ويكرهون الطائفية المقيتة.
شارك الدروز بالثورة السورية سلمياً منذ 2011، والتزموا الحياد الإيجابي من الحرب السورية وذلك مع انكشاف مدى التدخل الاقليمي والميليشوي الطائفي في سورية ونمو قوى التطرف والإرهاب وتغول سلطة النظام ضد الشعب بدءاً من 2013، فقاموا بسحب أبنائهم بنسبة عالية من الخدمة الإلزامية وصلت لعشرات الالاف، رافضين المشاركة في المقتلة السورية.
يرفضون الانعزال والمشاريع الانفصالية ووهم الإدارة الذاتية. كما رفضوا قتال السلطة وفصائل المعارضة ويكرهون الحرب إلا إذا فرضت عليهم. ملتزمون بحماية أنفسهم أهلياً ما لم تتحقق الدولة الوطنية السورية وتأخذ دورها بذلك. ومع هذا فقد تعرضوا لهجمات متطرفة متعددة كان أبرزها هجوم داعش تموز/ يوليو 2018. مؤخراً قناة الميادين التابعة للإعلام الإيراني نشرت مقطعاً يظهر لأول مرّة عن إحدى هذه الهجمات، في خطوة اعتبرت تهديداً من حزب الله للمظاهرات في السويداء.
تحول المسألة السورية من مسألة نضال محلي يستهدف التغيير السياسي من سلطة الاستبداد العسكرية إلى دولة الحق والقانون، إلى حرب إقليمية مفتوحة تتدخل فيها قوى متعددة بمقدمتها الميليشيات الإيرانية وجماعة حزب الله مقابل نمو قوى التطرف والإرهاب وعلى رأسها داعش بدءاً من العام 2013، لحين التدخل الروسي العسكري الفج فيها عام 2015؛ أتى على انهاك الشعب السوري وتحوله لسيل من المهجرين والنازحين، مع دمار معظم مدنه وبنيته التحتية واقتصاده وبقاء سكان الداخل أسرى بيد سلطة النظام القائم، يستنزف خيراتهم وحياتهم هم ويبيع مقدرات ما بقي من وطنهم دون أن يستجيب لأية مبادرة للحل السوري.
منذ العام 2018 لم يستجب النظام السوري لأي مبادرة سياسية من شأنها أن تفضي لحل للكارثة السورية وأزمتها السياسية. ولم تزل سورية غير آمنة للحياة فيها أو لعودة المهجرين، ومحكومة بعصابات وسُلطات الأمر الواقع. كما أن المجتمع الدولي مرهون بتوازنات القوة العالمية ومحاورها الجيوبوليتيكية، والتي باتت تحتدم صراعاتها بأكثر من مكان في العالم بدأت من سورية ووصلت لقلب أوروبا في أوكرانيا، الأمر الذي ينذر شراً بالعالم كافة.
اليوم، ومع تيقن الشارع الشعبي بعدم نية النظام السوري تقديم أي تنازل لمصلحة السوريين، بأي حل سياسي يفضي لحلول اقتصادية ومعاشية، بل بالعكس تمارس سلطته المزيد من التعنت والصلف في الحلول السورية، سواء:
- بادعائه الزائف أنه نفذ القرار 2254 بإجرائه انتخابات رئاسية وبلدية، هي عبارة عن تعيينات يقوم بها حزب البعث وأحزاب جبهته المُصنعة، لا تمت لنص القرار وروحه بشيء.
- تعطيله المستمر لأعمال اللجنة الدستورية.
- عدم استجابته الفعلية للمبادرة العربية الأخيرة.
- تحويل سورية والمنطقة الجنوبية ومنها مدينة السويداء لمعامل لصناعة وتجارة الكبتاغون إلى دول الجوار العربي والعالم كافة. فقد جندت اجهزته الأمنية عصابات الخطف والسلب والنهب برعاية جماعة حزب الله اللبناني لهذا الغرض، تلك التي كشفتها وقائع أحداث صيف تموز/ يوليو 2022 بالأدلة القاطعة حين داهم أهالي السويداء مقراً لتلك العصابات التابعة لأمنه العسكري.
إن السوريين ومنهم أبناء السويداء يدركون جيداً تفاصيل العملية السياسية الدولية، ويدركون صفات هذا النظام سيئة السمعة والصيت، ويدركون جيداً أن مصالح الدول المتحكمة في الملف السوري متعارضة ومتضاربة فيها، ويقومون بتصفية خلافاتهم على الأرض السورية مستفيدين من بقاء هذا النظام بوضعه الراهن، ما يفسر عدم الجدية بالتقدم بالحل السوري وتعقد وتداخل مساراته وغرقه بالتفاصيل، قبل الدخول الفعلي بالحل السياسي المستند للقرار الأممي 2254 القاضي بالبدء بمرحلة انتقالية تقودها حكومة وطنية لتأتي بعدها انتخاب هيئة تأسيسية تمثل كافة أطياف الشعب السوري، تشرف على صياغة دستور جديد وانتخابات ديموقراطية. فيما أن العملية السياسية وللعام الثامن، تراوح في مكانها بسبب البدء بمسار الحل السياسي بالعكس.
إن بدء الحل السياسي في سورية عبر تطبيق القرار 2254 ومقدمته إلزام النظام والمعارضة بالانتقال السياسي الفوري تقوده حكومة انتقالية، سيمثل:
- مصلحة عامة للسوريين ودول الجوار العربي وكافة دول الشرق الأوسط والعالم أجمع، لما له من تخفيف حدة الاحتقان العالمي والبدء بفك تشابكاته وصراعته الحادة.
- سيحقق السلام والاستقرار للسوريين، ولدول الجوار كافة، والعالم أيضاً.
- سيمنع تحويل سورية لبؤرة للمخدرات وتوزيعها عالمياً.
- ويمنع ويوقف الحركات الجهادية والمتطرفة التي نمت على حساب السوريين وثورتهم.
اليوم اذ يستعيد السوريون ثورتهم في السويداء فأنهم يؤكدون أن التغيير السياسي والسلمي بات ضرورة ملحة وعاجلة، لا مجال للتأخير والمماطلة فيها. هذا التغيير السياسي الذي تعطلَ مراراً وتكراراً منذ قرار جنيف 1/2012، وقرار 2254، ومفاوضات جنيف المتتالية، جميعها تشير بما لا يقطع الشك، أن الحل السوري الفعلي لم يبدأ بعد، وأن نتائجه الكارثية مستمرة لليوم بملايين اللاجئين والنازحين داخلاً وخارجاً واستمرار هجرة الشباب السوري لليوم، وأن مستويات خط الفقر تجاوزت 95% من عموم السوريين، وسورية دولة غير آمنة وفي أخر السلم العالمي للحريات والتعليم والصحة والحياة….
ورغم المصاعب التي يواجهونها يبقى السوريون مصرين بمظاهراتهم السلمية على ضرورة استحقاق التغير والانتقال السياسي، مطالبين بالسلام والاستقرار لسورية ودول الجوار العربي والشرق الأوسط والعالم.
* كاتب وباحث أكاديمي، السويداء/سورية
المصدر: (The Middle East Institute (MEI