الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

“ياسر عودة”.. يصدّح بصوت وحناجر المظلومين

نصري الصايغ *                                    

من عادتي، أن لا أكتب عن الأديان. هي مصانة جداً ومحمية بثكنات فكرية وفقهية وتأثيمية. أتعامل مع النص الديني بحذر شديد. الابتعاد منجاة، والتقارب محفوف بالندم.

الكذب ملح النجاة. عفوت نفسي من كل مراودة. “المؤمنون” (ودائماً بين مزدوجين)، مزوّدون بحتميات وعقوبات، وعليه، لم أكن أفكر بصوتٍ عالٍ أبداً. في ظني أن الأقوال مقدسة والأفعال لا تُطابق الأقوال.

حدث مؤخراً أن أقدم مجلس مذهبي، على معاقبة شيخ تبوّأ مرتبة غير مسبوقة. الشيخ ياسر عودة الذي تجرأ على سدنة الهيكل السياسي-الطائفي، وأزاح كل ستر يحتمون به، وكشف عن المسافة الضوئية بين الدين كمرجع، وبين المراجع المذهبية السياسية.

جرأته غير مسبوقة. قرّر تسمية الأشياء بأسمائها. كشفَ المستور وأزال الستارة. لم يُشر إلى الفساد. كشفه وسمَّاه وحمَّل “مرجعيات” المذهب ومراجع المواقع، ما بلغناه من جحيم حياة في لبنان. لم يُوفّر أحداً. لم يتجرأ أحد من أصحاب المراتب والمواقع والمنافع والمزارع اللبنانية أن ينبس بحرف واحد. سيادة الولاءات سائدة. التسمية والإشارة والبرهنة أيقظت غضب “القيادات الدينو- سياسية”، فأقدمت على معاقبته عقوبة قصوى: “أنت لم تعد مُعمّماً”. عُدْ إلى فصيلة المُطيعين، أو انسحب إلى ما يحفظ حياتك.

من يكون الشيخ ياسر عودة؟ كيف بدأ؟ من هي مرجعيته؟ وأسئلة أخرى لا تنفعني أبداً. عرفته صوتاً صارخاً في برية. فوجئت. أنا معتاد على جبن جماهيري، وتنصل نُخب، واحتكام إلى العنف، سراً أم علناً. ثم إن رجال الدين يتشابهون، باستثناء ياسر عودة. كان صوتاً مضاداً.

خفتُ عليه. لمتهُ قليلاً. قلت: “صوتٌ صارخٌ في البرية”. هذا مسلك محفوف بالدم. العقاب وتنفيذ العقوبة سهل جداً. لبنان ملغَّم طائفياً. المتاريس مشروعة ومُشرّعة. “ما في حدا أحسن من حدا”.

كان قرار الهيئة الدينية (التبليغية) المعنية، في تجريده وتأثيمه، بطاقة عبور إلى تطبيق العقوبة. والعقوبات الدينية مخيفة، ولها من يحميها ويصونها..

لنعد إلى تبسيط الأمور أكثر، ونسأل: هل الصراع والخلاف، بين الشيخ والمرجعيات السياسو- طائفية، يُشكل خطراً على هذا الأخير أم لا؟

لا أعرف. أجزم أن الهياكل المذهبية أو السياسوـ طائفية منيعة ومتماسكة وتتجرأ على الإيذاء. والإيذاء أنواع: أذى خفيف وإيذاء أبدي. العبور إلى القتل هذه المرة، وقعه وخيم. والسبب أن الشيخ عودة، ليس وحيداً. هو ظاهرة حقاً، وغير مسبوقة. لم يخترع شيئاً من عنده. فقط تجرّأ. ما قاله بصوت عال، والتزام دائم، ونبرة فعالة، و.. و.. وصل إلى قلوب وعقول الذين نزلوا إلى الشارع مراراً، ليطالبوا بالخبز والكرامة والحرية والعدل والشفافية. هو تجرّأ على أسهل التهم وأكثرها وضوحاً. الفساد في لبنان، صناعة فاسدين يحتمون بالدين والطائفة والمذهب، أو يصمتون على الفجور.. لعلهم هم أهل الفجور السياسي، الذي يطمئن إلى الأضغان المذهبية.

قال بصوت عال وانفعالي وحقيقي، ما تقوله الأكثرية المظلومة والمألومة.

لم يخترع قضية. القضايا الإنسانية في لبنان، شرشحة. لغة ونبرة الشيخ عودة الخطابية، ليست مقنعة فقط، بل تحريضية. الذين كانوا معه، قلة جريئة. الذين ضده، أكثرية الخراف المطيعة. وعليه، فإن من كانوا معه، لم يكونوا من دينه وطائفته فقط، على جاري الاصطفافات الانتفاعية والعصبية والذيلية. حوله ومعه جمهور غير معدود، من أطياف المجتمع اللبناني. ظاهرة غير مسبوقة أبداً. التكتلات الطائفية مزمنة في لبنان. تاريخها ليس نظيفاً. لقد استولدت قتلاها بإشراف “القضايا النبيلة” وترهات الوطنية، وزعبرات التوازن، وتشبيح المشاريع، في كل ما له علاقة بحرمان الناس.

الشيخ ياسر عودة، ليس هو ولا “جماعته”، وراء افلاس البلد ونهبه. المنظومة الطوائفية، ذات باع مجرم في قتل لبنان. لبنان اليوم بلا أمل. بلا غد. تاريخه اسطبل سياسي ورائحة أمواله من روث الحثالات. لا أعرف إن كانوا من جنس بني آدم، أم من جنس إبليس. لقد أبلسوا أمة وحوّلوها إلى مصارع ثيران ووحوش. اللبنانيون، ليسوا كلهم نعاجاً. يساقون من قرونهم إلى حتفهم الحياتي. هؤلاء، سمعوا الشيخ ياسر عودة، وقارنوه بمن أسقط كل لبنان في اليأس الأبدي. ولبنان، ليس مُفلساً، برغم الحرب. أكلوا سلطة الدولة وما هو من ميراثها. الشيخ عودة، صدّح بصوت حناجر المظلومين والمجوَّعين والمهانين. كنا، كأننا محكومون بالعجز، والعجز ليس وراثياً. هو مصنوع بصفقات السرقة والاستباحة. التعدد الطائفي، هو حصانة وصيانة للجشع “المالو- سياسي”. لقد قامت هذه التعددية الطائفية بتصفية لبنان، وتنصيب دولة لبنان، كمتسولة عاهرة، لاجتذاب المال الحرام، لمزيد من الزنى السياسي.

نعود الى السؤال: هل خلاف المرجعيات مع الشيخ عودة، ديني أم سياسي؟

أسارع إلى القول: إنه سياسي بحت. ليس دينياً بالمرة، ولا هو فقهياً، ولا هو خروج عن الصراط الديني العقائدي. إنه صراع سياسي تام ومبرم. وهذا ليس جديداً. تاريخ الطوائف في الأديان كلها، هو تاريخ صراع نفوذ ومصالح بين المذاهب. تذكّروا كيف تعاملت طغمة الفساد الفرنسي مع أب الفقراء الأب بيار. اجتماع المسلمين في سقيفة بني ساعدة، بعد وفاة النبي محمد، كان تعبيراً عن الصراع على السلطة. الخلفاء كلهم، تصارعوا وتذابحوا على السلطة. الله والنص الديني بريئان كلياً، من دم “الشهداء”. يجب ألا ننسى، أن كل الصراعات المذهبية، في “الأديان السماوية” هي صراعات سلطوية. والانشقاقات وتأليف المذاهب، ليست لمصالح سماوية، بل لمصالح مادية، ونهم سلطوي.

الشيخ ياسر عودة، ليس مارقاً دينياً، ولا خارجاً عن النص، وليس صاحب بدعة، ولا هو صاحب نهج خاص. هو إنسان لبناني، يرى أن أعداء لبنان الحقيقيين، هم لبنانيون، ذوو أهواء ومصالح سياسو- مذهبية. والمذاهب في لبنان، قشرتها دينية، ومضمونها مالي.

هل تريدون براهين؟

من يمنع القضاء في أن يقيم العدالة؟

من سرق لبنان؟

من دمَّر المؤسسات.. كل المؤسسات؟

من جوَّع الناس وهجَّرهم؟

من هرَّب أمواله واعتقل أموال المودعين؟

من حمل السلاح وقاتل بالسلاح الطائفي، أخاه اللبناني؟

الإله الأوحد في لبنان هو الفساد. لا أحد اقوى منه.

إذاً؛

يا أصحاب الحل والنهب: الله بخير. نصه الديني بخير. لا يأتيه انكار من أي جهة.. ما ليس بخير، هو البلد الذي حكمته شياطين السياسة، والأوثان المالية، بعقيدة مهينة: “إننا محكومون بالموت”، ولا علاقة لله بذلك، لا من قريب ولا من بعيد.

التاريخ بحاجة إلى أصوات حقيقية وصادقة ومرتفعة. بئس السياسة التي دفعتنا لنعيش كأشقياء بلا أمل.

ترى، هل ننتظر المستقبل؟ أم أننا منذورون لنكون ضحية أمركة وأسرلة وترهات طائفية تفوح منها رائحة الموت، خصوصاً أن الموت لا يموت.

للشيخ ياسر عودة نقول: ستكون “صوتاً صارخاً في البرية”. إنك في مواجهة طغمة الأقوياء الأذكياء الذين يتقنون الإقامة في كل الكيان. لبنان ليس دولة، ولن.. قوة هؤلاء من ضعف الكيان.

أحزن عليك. سينتصرون عليك، ولو ظلّ صوتك يجول ويصول. إسأل عن الذين تصدوا لهذه الطبقة المتوارثة، البائعة والمباعة. كلهم هزموا.

يا سيدي، الطائفية والمذهبية، أفدح وأقوى “السياسات” في بلد الجشاعات والصفقات والاستباحات.

أتمنى أن لا..

لكن، ما كل ما يتمنى المرء يدركه.

* مثقف وكاتب لبناني

المصدر: 180 بوست

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.