راغب جابر *
يخطو الذكاء الاصطناعي بالبشرية إلى آفاق خارج التصور إلا لدى مخترعيه وأصحاب العقول الكبيرة والقدرات الاستشرافية الخارقة والمخططين الأذكياء وأصحاب الرؤية. غير هؤلاء هم على الغالب ضحايا، وفي أحسن الأحوال صمٌ بكمٌ عميٌ.
ثورة الذكاء الاصطناعي ليست حدثاً عادياً في التاريخ البشري، إنها انقلاب شامل في حياة البشر على الكوكب، صحيح أنها لم تأت فجأة ومن دون مقدمات، لكنها ستغير العالم بسرعة قياسية، قد لا ينافسها في الأثر الهائل إلا اختراع الكهرباء التي قلبت الحياة على الكوكب قبل قرن ونيف، ومهدت الطريق للاختراعات اللاحقة من الراديو والتلفزيون إلى الكومبيوتر والفضاء وثورة الاتصالات، وما بين كل ذلك من اختراعات في عالم الميكانيك والإليكترونيك والطاقة والذرة.
سيغير الذكاء الاصطناعي كل شيء، سنوات قليلة ولن يبقى كل شيء على ما هو عليه الآن، الصحة والغذاء والترفيه والعلاقات بين الناس والدول والسلاح والحروب والطاقة والسيارة والطائرة والصاروخ وجهاز الكومبيوتر والتلفزيون والهاتف والثياب، وحتى البيت والمكتب وشريك الحياة.
قد لا يعرف جميع الناس أن الغذاء الذي يتناولونه اليوم ليس نفسه الغذاء الذي خلقه الله، حبوب القمح والعدس واللوبياء والحمص وغيرها هي غلال ملعوب بتكوينها الجيني لتعطي كميات كبيرة وتقاوم الأمراض، والمواشي التي نأكل لحمها أيضاً ملعوب بجيناتها لتنتج أكثر. هل من داع للتذكير بالنعجة “دوللي” التي استنسخها الإنسان من خلية واحدة؟ ليس الكلام هنا عن قضايا أخلاقية وإيمانية غيبية فما لله لله، والواقع له ما له.
تعمل شركات فرنسية وأميركية حالياً على مشروع يعتمد تطبيقات الذكاء الاصطناعي لإنتاج مشتقات الحليب من النباتات. بعد قليل سنشتري جبنة الفيتا اليونانية الأصل وجبنة الروكفور الأرستقراطية الفرنسية الأصل مصنعة من العدس والشوفان ونباتات أخرى. ستكون قريبة جداً من مواصفات الجبن الحيواني ورويداً رويداً ستحل محله. حتى اللحم سينتج في المختبرات بعدما نجحت التجارب عليه وسيأتي الذكاء الاصطناعي ليسرّع العملية ويعطيها بعداً تجارياً واسعاً وسنكون مجبرين على أكله، ببساطة لأننا في العالم العربي لا ننتج غذاءنا بل نستورده، ومن ينتجه سيتحكم بعاداتنا الغذائية ومحتواها.
ستتغير الأفكار والفلسفة والأخلاق والقيم والتعليم، ستصبح الحياة أسرع بكثير، وربما أسهل بكثير، ولن تعود تشبه ما هو قائم حالياً، سيتلاشى الجهد المطلوب حالياً لإنتاج السلع من أكبرها إلى أصغرها، سيجمع الروبوت الواحد آلاف العقول ويملك آلاف الأيدي والأرجل. سيدير الآلات والسيارات والطائرات والقطارات ويلقي المحاضرات ويدير المصارف والسوبر ماركت ويجري كل الحسابات وينظف الطرق ويذهب إلى المريخ ويطبخ وينفخ.. ويمثل ويغني ويرقص ويعزف الموسيقى ويؤلف الألحان للأحياء والأموات. سيعيد أم كلثوم بموسيقى العصر ويعدل أغاني عبد الحليم حافظ وينبش التاريخ الفني والثقافي…
“الإنسان” الآلي سيضع الإنسان الحقيقي في شبه بطالة، ستختفي ملايين الوظائف والمهمات، سيصبح البشر بلا عمل، إلا المتعاملين مباشرة مع الذكاء الاصطناعي، سيتغير التقسيم الطبقي والاجتماعي في المجتمعات، وسيعم الكسل وما يرتبط به من أمراض وعاهات نفسية واجتماعية، أو لربما سيكون العكس فيرتفع الإنتاج العالمي ويخلد البشر إلى الراحة. من يدري ما ستحمله الأيام.
والعجيب في الذكاء الاصطناعي أنه لن يكون بلا عواطف. سيحب ويعشق ويواعد وينظم شعراً وغزلاً. سيكون هناك رجال ونساء بمواصفات خارقة وتحت الطلب، ستنشأ شركات تنتج شركاء أذكياء للمنزل وللسرير ولرفقة الطريق. شركاء غير مزعجين ربما وغير متطلبين، ستحل مشكلات المستوحدين والفاشلين في الحب والمنعزلين والخجولين والمثليين وأصحاب النزوات.
في ذروة هذا التطور الرهيب ما زال اللبنانيون يتقاتلون على مسألة من قبيل هل يسمح بعرض فيلم سينمائي أم لا لأن فيه إيحاءات جندرية، وكأن العالم واقف عند لعبة باربي وأفعالها. العالم فين ونحن فين!!
* كاتب لبناني أكاديمي وأستاذ محاضر بجامعة الإعلام اللبنانية
المصدر: النهار العربي