الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

الذكاء الاصطناعي.. والنمو الاقتصادي

بسبب جائحة كوفيد-19، والتوترات الجيوسياسية، بالإضافة إلى التغير المناخي، يواجه الاقتصاد العالمي تباطؤاً ملحوظاً، وهذه المشكلة من المرجح لها أن تستمر في العقد المقبل، مما يعني زيادة التضخم وارتفاع تكاليف رأس المال. في ضوء ذلك، نشر موقع (بروجيكت سانديكيت Project Syndicate) مقالاً للكاتب (MICHAEL SPENCE مايكل سبنس) ترجمه إلى اللغة العربية إبراهيم محمد علي، يقول فيه إن الوضع الاقتصادي ليس بهذه القتامة، وأنه يمكن زيادة الإنتاجية العالمية باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي. هذه التكنولوجيا مدربة جيداً للتفاعل مع الجمهور، ومع ذلك ونظراً لأنها آلات ترتكب أخطاء، فمن المستبعد أن تستبدل البشر فى المستقبل القريب… نعرض المقال كما يلي:

في مختلف أنحاء العالم، يكافح الـعَرضْ لملاحقة الطلب، على الرغم من الزيادات الحادة التي طرأت على أسعار الفائدة. وتزداد شيخوخة القوة العاملة العالمية بسرعة. كما ينتشر نقص العمالة على نحو مستديم في كل مكان.

هذه ليست سوى بعض القوى الكامنة وراء تحدي الإنتاجية الذي يواجه الاقتصاد العالمي. وقد بات من الواضح على نحو متزايد أننا يجب أن نعمل على تسخير الذكاء الاصطناعي في التصدي لهذا التحدي.

على مدى العقود الأربعة الأخيرة، جلب نمو الاقتصادات الناشئة السريع زيادة كبيرة في القدرة الإنتاجية، التي عملت كقوة عاتية خافضة للتضخم على جانب العرض. وعملت الصين، على وجه الخصوص، كمحرك قوي للنمو. لكن محرك نمو الاقتصاد الناشئ هذا أصابه الضعف بشكل كبير في السنوات الأخيرة. فقد أصبح النمو بعد الجائحة في الصين أقل كثيراً من إمكاناته ولا يزال في تراجع مستمر.

علاوة على ذلك، تعمل التوترات الجيوسياسية، وصدمات عصر الجائحة، وتغير المناخ على تعطيل سلاسل التوريد العالمية، كما تعمل مجموعة من حوافز السوق وأولويات السياسات الجديدة. من ناحية أخرى، ارتفعت مستويات الديون السيادية ولا تزال في ارتفاع، مما يقلل من قدرة البلدان المالية على تنفيذ استثمارات عامة داعمة للنمو ويزعزع استقرار بعض الاقتصادات.

هذه اتجاهات مزّمنة، أي إنها من المحتمل أن تكون سمات ثابتة للاقتصاد العالمي في العقد المقبل. وسوف تتسبب قيود العرض والتكاليف المتزايدة الارتفاع في إعاقة النمو. كما سيظل التضخم يشكل تهديداً مستمراً، مما يتطلب زيادة أسعار الفائدة التي تتسبب في رفع تكاليف رأس المال. وسوف يكون من الصعب للغاية- اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً- ملاحقة الاستثمارات الضخمة المطلوبة على نحو متزايد الشدة؛ ولكن بدونها ستزداد الارتباكات المرتبطة بتغير المناخ سوءاً على سوء.

لكن الأمر لا يخلو من أخبار واعدة. ففي كتاب جديد لكاتب المقال، وجوردون براون، ومحمد العريان، بعنوان «أزمة دائمة: خطة لإصلاح عالَـم مُـمَـزَّق»، يزعمون فيه أنه مع التقدم السريع في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، لن يكون تحقيق هذا الهدف (زيادة الإنتاجية) مستحيلاً. يتلخص المفتاح في ضمان تركيز إبداع الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته بشكل محوري على نمو الإنتاجية في السنوات المقبلة.

حتى مع تقدم الذكاء الاصطناعي، من التعرف على خط اليد إلى التعرف على الكلام إلى التعرف على الصور والأشياء، كان الرأي الشائع هو أن هذه التكنولوجيا تعمل على أفضل وجه في مجالات جيدة التحديد. فهي لم تكن تملك قدرة البشر على اكتشاف المجال الذي يعملون فيه والتحول بين المجالات المختلفة حسب الحاجة.

تغير كل هذا مع ظهور النماذج اللغوية الضخمة والذكاء الاصطناعي التوليدي في عموم الأمر. النماذج اللغوية الضخمة قادرة على فهم اللغة، كما تبدو قادرة على اكتشاف المجالات والتحول بينها بشكل مستقل، وربما يقربها هذا خطوة أخرى أقرب إلى الذكاء الاصطناعي العام. ومن الواضح أن إمكانية تحسين الإنتاجية على نطاق واسع جديرة بالاعتبار في هذا الصدد.

تعمل النماذج اللغوية الضخمة كمنصات للأغراض العامة لبناء التطبيقات لاستخدامات محددة في مختلف قطاعات اقتصاد المعرفة. ولأنها تفهم وتنتج لغة عادية، فإن أي شخص يستطيع استخدامها. يُـقال إن تطبيق Chat GPT اجتذب 100 مليون مستخدم في أول شهرين تاليين لإصدارة للجمهور.

علاوة على ذلك، يجري تدريب النماذج اللغوية الضخمة على كمية هائلة من المواد الرقمية، وعلى هذا فإن نطاق الموضوعات التي يمكنها معالجتها هائل. وتعني هذه التركيبة التي تتألف من إمكانية الوصول والتغطية أن النماذج اللغوية الضخمة تنطوي على مجموعة أوسع كثيرا من التطبيقات المحتملة مقارنة بأي تكنولوجيا رقمية سابقة، بل وحتى الأدوات السابقة القائمة على الذكاء الاصطناعي.

لقد بدأ بالفعل سباق تطوير تطبيقات مرتبطة بمجموعة واسعة من القطاعات والفئات الوظيفية. فقد أنشأت شركة OpenAI، وهي الشركة التي طورت Chat GPT، واجهة تطبيق لبرمجة التطبيقات (API) والتي تسمح لآخرين ببناء حلول الذكاء الاصطناعي الخاصة بهم على قاعدة النماذج اللغوية الضخمة، وإضافة البيانات والتدريب المتخصص للاستخدام الذي يستهدفونه بعينه.

تقدم لنا دراسة حالة أجراها أخيراً الباحث الاقتصادي “إيريك برينجولفسون” وزملاؤه في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا إشارة مبكرة إلى الإمكانات المتاحة في ما يتصل بالإنتاجية. بفضل التوصل إلى إنشاء أداة قائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي مدربة على التسجيلات الصوتية للتفاعلات مع خدمة العملاء ومقاييس الأداء أصبح من الممكن زيادة الإنتاجية بنحو 14% في المتوسط، قياسا على عدد القضايا التي يتم حلها كل ساعة.

كان وكلاء خدمة العملاء الأقل خبرة هم الأكثر استفادة من هذه الأداة، وهذا يشير إلى أن الذكاء الاصطناعي من الممكن أن يساعد العمال على «التحرك مع منحني التجربة» بسرعة أكبر. وسوف يكون تأثير «التسوية» هذا في الأرجح سـمة شائعة لتطبيقات الذكاء الاصطناعي، وخاصة تلك التي تلائم «نموذج المساعد الرقمي».

يأتي هذا النموذج في نسخ عديدة، وقد يستفيد من قدرة أنظمة الذكاء الاصطناعي والذكاء المحيط على تتبع وتسجيل النتائج. في حالة الأطباء الذين يفحصون المرضى، أو يقومون بجولات في المستشفى، من الممكن أن تنتج أدوات الذكاء الاصطناعي مسودة أولى للتقارير المطلوبة، والتي لن يحتاج الأطباء بعد ذلك إلا إلى تحريرها. وتتفاوت تقديرات توفير الوقت، لكنها جميعها كبيرة للغاية.

من المؤكد أن الذكاء الاصطناعي قد يعمل أيضاً على تمكين أتمتة (تشغيلها آلياً) عدد كبير من المهام والحلول محل العمال البشريين. لكن أدوات الذكاء الاصطناعي هي في الأساس آلات تنبؤ؛ وهي ترتكب الأخطاء، وتختلق أشياء من الخيال، وتعمل على إدامة التحيزات التي تدربت عليها. وعلى هذا فمن غير المرجح أن تستبعد التطبيقات الحكيمة البشر في أي وقت قريب.

لتحقيق إمكانات الذكاء الاصطناعي في تعزيز الإنتاجية، يتعين على صناع السياسات أن يعملوا في مجالات عديدة. بادئ ذي بدء، يعتمد الإبداع، والتجريب، وتطوير التطبيقات على انتشار القدرة على الوصول إلى النماذج اللغوية الضخمة. وربما تنشأ المنافسة الكفيلة بضمان تمكين أكبر عدد ممكن من المستخدمين على الوصول إليها بتكلفة معقولة. ولكن بسبب قلة الشركات التي تمتلك القدرة الحاسوبية اللازمة لتدريب النماذج اللغوية الضخمة، يجب أن يظل القائمون على التنظيم يقظين على هذه الجبهة.

علاوة على ذلك، يجب أن تتعاون الحكومات مع الصناعة والأشخاص الباحثين لترسيخ مبادئ مقبولة على نطاق واسع للإدارة المسؤولة واستخدام البيانات، وتنفيذ الضوابط التنظيمية لدعم هذه المبادئ. ويُعد إيجاد التوازن الصحيح بين الأمن والانفتاح ضرورة أساسية؛ فلا يجوز أن تكون القواعد تقييدية إلى الحد الذي يجعلها تعيق التجريب والإبداع.

أخيراً، يحتاج الباحثون والباحثات في مجال الذكاء الاصطناعي إلى الوصول إلى قدرة حاسوبية كبيرة لاختبار وتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي الجديدة. سوف تؤدي الاستثمارات الحكومية في أنظمة الحوسبة السحابية إلى تحقيق تقدم طويل الأمد في مجالات الذكاء الاصطناعي والروبوتات، وسوف يصاحب ذلك فوائد اقتصادية بعيدة المدى. في الواقع، قد تكون الإدارة الفعالة المتطلعة إلى المستقبل لتطوير الذكاء الاصطناعي، إلى جانب الالتزام المتجدد بالتعاون العالمي، المفتاح إلى مستقبل أكثر ازدهاراً وشمولية واستدامة.

……………..

النص الأصلي 

ــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: “الشروق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.