الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

كتاب «في الفكر السياسي»؛ (الجزء الأول).. الحلقة الحادية عشر

(الحرية أولاً) ينشر حصرياً الكتاب المفقود «في الفكر السياسي» بجزئيه، للمفكرين “الأربعة الكبار”، وهذه الحلقة الحادية عشر من الجزء الأول(4). واقع شعوب آسيا وأفريقيا.. بقلم الأستاذ “الياس مرقص”

 

(4). واقع شعوب آسيا وأفريقيا

ولكن الحال تصبح مؤسفة حقاً، إذا ما تخطينا حدود القارة الأوربية وانتقلنا إلى آسيا وأفريقيا.

لنأخذ الصين مثلاً. الصين جماعة ثابتة ذات كيان راسخ وعريق. ومع ذلك فهي تضم- إلى جانب شعب هان- أقليات قومية عديدة تؤلف ۱۰% من سكانها وتشغل أكثر من نصف أراضيها. بل أكثر من ذلك، فإن شعب هان۔ الذي يمثل ۹۰٪ من سكان الصين- بالرغم من أنه يكتب ويقرأ رموزاً واحدة في جميع مناطق الصين، إلا أنه لا يتكلم بألفاظ واحدة، فرموز اللغة الصينية- شعب هان- قد تطور لفظها خلال التاريخ وتبدل حسب المناطق المختلفة ومردّ هذا التبدل في النطق إلى أن اللغة الصينية لا تعتمد على أبجدية صوتية مجردة بل رموز تصويرية لها مدلولها ومعناها.

وقد أدى هذا التطور التاريخي إلى نشوء لغات- أو لهجات- عديدة متباينة أهمها لغة أهل الشمال (لغة بيكين)، وتليها لغة شانغهاي ولغة كانتون ولغة سوتشوان الخ..

ولكل من هذه اللهجات منطقتها الجغرافية المحددة. والتفاهم بالكلام بين أبناء المناطق المختلفة صعب جداً إن لم يكن مستحيلاً تماماً.

إن الامانة لتعريف ستالين كانت تقضي بالرضوخ للأمر الواقع واعتبار شعب هان أمما عديدة متمايزة.. ولكن قادة الصين اختاروا طريقا آخر. وهم يلجؤون الى تعميم احدى هذه اللهجات- لغة بيكين- واعتبارها لغة قومية للصين واتخاذها أساساً للكتابة الأبجدية الجديدة التي يجري إدخالها في جميع المناطق.

رغم هذه الفوارق الهائلة، التي ليست فواصل اقتصادية بل فوارق لغوية تستمد جذورها من تاريخ طويل، فالصين- وبالأخص شعب هان- أمة واحدة. ومن الخطأ اعتبارها أمماً عديدة. وماوتسي تونغ يعتبرها أمة واحدة لها أرض مشتركة وتاريخ مشترك وتكوين نفسي مشترك وحضارة مشتركة. (راجع كتاب «الثورة الصينية» ص۷ و۸- ترجمة الياس مرقص، دار دمشق).

ويجدر الانتباه إلى أن الصين الشعبية قد نظرت إلى أقلياتها القومية نظرة تختلف بعض الشيء عن نظرة لينين إلى شعوب وقوميات الاتحاد السوفياتي. فلم تقم الصين الشعبية على أساس اتحاد بين جمهوريات قومية متساوية في الحقوق بل قامت على أساس جمهورية صينية واحدة فيها مناطق وأقاليم تتمتع بالاستقلال الذاتي ولا تتمتع بحق الانفصال. وربما كان هذا الموقف السياسي نتيجة لاعتبار الأقليات القومية في الصين جزءاً من الأمة الصينية!.

ولكن يبقى شيءٌ أكيد لا يرقى إليه الشك، وهو أن الصين تشذ عن القالب الستاليني، وأن ماوتسي تونغ يتحدث في مطلع كتابه «الثورة الصينية» الصادر عام 1939 بشكل يناقض هذا القالب, دون الإشارة الصريحة إلى ذلك.

أما بالنسبة للهند، فالقضية أشد خطورة منها في الصين. إن شعب الهند يتكلم مئات اللغات، تختلف فيما بينها نطقاً ومعنى وكتابة. معظمها ينتمي إلى أسرة اللغات الهندية- الاوربية وبعضها ينتمي إلى أسرة اللغات الدرافيدية أو غيرها. فماذا يفيدنا تعريف ستالين في مثل هذا الحال، حال شعب يضم 400 مليون إنسان؟ هل نجزئ الشعب الهندي الواحد بكيانه وتاريخه وعقليته وحضارته إلى أمم و قوميات لا حصر لها؟

ذلك ليس رأي الشعب الهندي، كما هو معروف!

أما في أفريقيا السوداء فالمشكلة أكثر تعقيداً, ذلك بسبب تعدد اللغات وتنوع أساليب الإنتاج ونظم الحياة، وليس في استطاعتنا أن نحل هذه المسالة والأفريقيون أصحاب القضية هم أقدر الناس على حلها.

ولكن تلك لم تكن وجهة نظر الحزب الشيوعي الفرنسي في أعقاب الحرب العالمية الثانية. فقد رأى هذا الحزب أن من الضرورة بمكان إلغاء تعبير «حركة التحرر الوطني (القومي)»، بالنسبة لبلدان أفريقيا، واستبداله بتعبير «حركة التحرر الشعبي».

التزم الحزب الشيوعي الفرنسي هذا الموقف انسجاماً مع النظرية الستالينية التي «تقيم الدليل» على «عدم وجود الأمم والقوميات في أفريقيا». ووافق على هذه الآراء بعض زعماء حركة «التجمع الديمقراطي الأفريقي»(3) من المثقفين الزنوج .

وقد كان الحزب الشيوعي الفرنسي وأصدقاؤه الافريقيون يجدون في هذا الموقف النظري مبرراً لسياستهم العملية التي أعلنت وجوب بقاء افريقيا السوداء في إطار «الاتحاد الفرنسي» ونبذ مبدأ الاستقلال (1945-1950).

ومن المعروف أن بعضاً من هؤلاء الزعماء الأفريقيين قد انتقلوا فيما بعد إلى صف الجنرال ديغول. ونخص بالذكر فيليكس هوفويه- بوانيي الذي كان رئيساً للتجمع الديمقراطي الأفريقي وأصبح الآن رئيساً لدولة ساحل العاج الداخلة في المجموعة الفرنسية. بينما أعلن فرع غينيا للتجمع الديمقراطي الأفريقي (ويرأسه سيكوتوري) مبدأ الاستقلال الفكري عن وصاية الحزب الشيوعي الفرنسي، ومبدأ استقلال غينيا السياسي عن فرنسا والمجموعة الفرنسية.

وبعد، كيف يكون حكمنا على تعريف ستالين؟ ماذا نقول عن نظرية في المسألة القومية تُخرج سكان قارتين- والقارتين الأساسيتين بالنسبة لهذه المسألة- من عداد الأمم??

……………………….

(3). «التجمع الديمقراطي الأفريقي» حركة شعبية واسعة قامت في أعقاب الحرب العالمية الثانية في افريقيا السوداء الفرنسية وضمت مليون عضوا وكانت تؤيد رسميا مبادىء «المادية التاريخية» و قد تفككت و انهارت بعد سنوات.

ــــــــــــــــــــــــــــــ

 

 

 

 

يتبع.. الحلقة الثانية عشر بعنوان: (5). موقف لينين من كتاب ستالين؛ بقلم الأستاذ “الياس مرقص”

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.