عقيل عباس *
في الأيام الأخيرة، اندلعت أزمة عراقية جديدة، في مدينة كركوك الشمالية هذه المرة، عندما قُتل 4 أكراد وجُرح نحو 16 آخرين في سياق اشتراكهم بمظاهرة احتجاجية نُظمت رداً على اعتصام تواصل على مدى أيام وقطع الطريق الرابط بين محافظتي كركوك وأربيل وتسبب في اعاقة حياتهم اليومية.
هذا الاعتصام نظمه عرب وتركمان في المدينة رداً على قرار الحكومة العراقية تسليم مقر قيادة العمليات المشتركة، وهي أعلى تشكيل اتحادي عسكري في المحافظة يتولى مهام الأمن فيها، إلى الحزب الديموقراطي الكردستاني الذي يهيمن على حكومة إقليم كردستان، وكان قد اضطر لترك هذا المقر في عام 2017 بعد فشل استفتاء الاستقلال الذي نظمه الحزب وسيطرة القوات الاتحادية على المدينة. اعتبر المعتصمون العرب والتركمان إعادة المقر تمهيداً لعودة قوات البيشمركة الكردية التابعة للحزب إلى كركوك، وهو ما يرفضونه بشدة.
كالعادة بعد أي اضطرابات في كركوك، خصوصاً تلك التي تقود لسفك الدم – كما هو الحال تقريباً في كل الاضطرابات الشبيهة التي تحصل في البلد وهي كثيرة ومتواصلة دون توقف منذ 2003 – تتعالى الأصوات والإدانات في تكرار ممل وعقيم للمقولات المعتادة والبائسة بخصوص عدم تسييس هذا الملف، أو ذاك، وضرورة الاحتكام للدستور والإنصات لصوت العقل وتغليب المصلحة الوطنية ووأد الفتنة الخ الخ، وسواه من الكلام العمومي الذي لا يقول شيئاً جديداً أو مفيداً.
أيضاً كغيرها من الأحداث العراقية الكثيرة المُقلقة، لا يؤدي تدقيق صحة الادعاءات المتناقضة التي أطلقتها أطراف مختلفة بخصوص أحداث كركوك الأخيرة ومن هم المتسببون الحقيقيون بها وتصنيف الكاذب من الصحيح فيها، إلى الوصول إلى أي حقيقة مهمة أو جوهرية تُشكل نقطة تحول عامة في فهم جذر المشكلة لتقود تالياً إلى حلها. ما حصل في كركوك، كغيرها من الوقائع العراقية الشبيهة، هو مظهر يتكرر بتنويعات مختلفة كثيرة لمشكلة أساسية واحدة، وهي هيمنة حكم الأحزاب بدلاً من “حكم القانون”.
عندما ظهر مصطلح “حكم القانون” وبدأ بالترسخ في القرن السابع عشر فصعوداً، كان الهدف منه هو استبدال “حكم الملك” الذي كثيراً ما كان يقرر الأمور، بضمنها الحياة والموت، على أساس انحيازاته الشخصية والمصلحية وتقلب مزاجه وامتلاكه أدوات القوة المطلقة التي يُنفذ عبرها إرادته. على نحو تدريجي ومتصاعد قَيَّدَ “حكمُ القانون” حكمَ الملك وصولاً إلى تشكيل الملكية الدستورية التي فقد فيها الملك، ومعه النظام الملكي، كل امتيازات القوة السابقة، باستثناء بعض الأدوار الرمزية، ليخضع هو نفسه لحكم القانون كبقية المواطنين. كانت هذه خطوة هائلة نحو تشكيل الدولة الحديثة، وتأسيس مفهوم المواطنة وترسيخه عبر المعاملة المتساوية أمام القانون.
في عراق ما بعد 2003 الذي يُفترض أن يكون ديموقراطياً، برز “حكم القانون” أخيراً، على مستوى الوثائق التأسيسية فقط، كالدستور، فيما غاب عن الواقع، إذ هيمنت الأحزاب ومصالحها والصفقات المرتبطة بها على القانون ومعناه وحكمه، بحيث حلَّ “حكم الأحزاب” محل “حكم القانون”. كان هذا الأمر واضحاً في أحداث كركوك الأخيرة. عندما احتاج الإطار التنسيقي، الائتلاف البرلماني الشيعي الحاكم، في نهاية العام الماضي إلى أن يشكل تحالفاً مع الحزب الديموقراطي الكردستاني لإمرار تشكيل الحكومة عبر البرلمان، عَقدَ صفقة حزبية معه تضمنت نقاطاً عديدة تتعلق بالميزانية الاتحادية والنفط وقضايا أخرى. شملت واحدة من هذه النقاط إعادة المقر الذي كان يشغله الحزب الديموقراطي في كركوك إليه.
عندما جاء وقت تنفيذ هذه النقطة وقررت الحكومة إعادة المقر، وتعقّد الأمر سريعاً من خلال احتجاجات واحتجاجات مضادة، جاء سؤال القانون أخيراً، ليُثار عبر وسائل الإعلام وليس الأحزاب السياسية التي عقدت الصفقة. تعلق السؤال بملكية هذا المقر أو عائديته. فطبقاً لمصادر مختلفة، تعود ملكية المقر لوزارة المالية الاتحادية، أي أنه ملك للدولة، وليس ملكاً شخصياً أو حزبياً. ليس واضحاً على نحو قاطع لحد الآن ملكية المبنى المتنازع عليه، لكن أياً تكن ملكيته، ثمة خرق فاضح للقانون في الحالين سببه الرئيسي إهمال “حكم القانون” لصالح الصفقات الحزبية وسياسة الأمر الواقع. إذا كانت ملكية المبنى تعود للحزب الديموقراطي الكردستاني، فسيطرة “العمليات المشتركة” عليه واستخدامها له على مدى سنوات ليسا قانونيين. وإذا كان المقر يعود فعلاً للدولة وبالتالي استخدام “العمليات المشتركة” له قانوني وصحيح، فليس قانونياً أن تقرر الحكومة منحه لحزب سياسي في إطار صفقة حزبية وكأنه ملكية خاصة لها تقرر منحه واسترجاعه بعيداً عن القانون العراقي النافذ الذي ينظم مثل هذه الأنشطة والإجراءات.
الاضطرابات الأخيرة هي التي كشفت هذا الجانب من الصفقة السياسية بخصوص المقر، وليس إطار قانوني يلزم الأحزاب بنشر اتفاقاتها المتعلقة بالصالح العام.
موضوع المبنى في كركوك مجرد مثال صغير من آلاف الأمثلة التي سادت في “العراق الديموقراطي” حيث الصفقات الحزبية هي الحاكمة وليس حكم القانون. تمتد هذه الأمثلة لتغطي قضايا أساسية وكبرى في البلد حيث الصفقات أعلى وأهم من القانون، كما في الاتفاقات النفطية بين بغداد وأربيل والاتفاقات السنوية بخصوص إمرار الميزانية ومنح عقود الدولة لواجهات اقتصادية تعمل لأحزاب سياسية والسماح بوجود بنادق متعددة ومتنافسة في دولة تمجد السيادة لكنها تفشل في احتكار السلاح، وغيرها كثير. النتيجة المنطقية لهذا السلوك الزبائني، حيث مصالح الأحزاب أهم من مصالح البلاد، هو التقويض المستمر والمنهجي لحكم القانون، وفقدان الجمهور للثقة بهذا القانون وتطبيقه، وبالتالي انفصال الجمهور عن النظام السياسي، ومعاداته لهذا النظام الذي لا يحمي مصالح الجمهور.
يُروى أن رئيس السلطة القضائية السابق، القاضي مدحت المحمود، قال لبعض كبار الساسة العراقيين في أثناء الأزمة الشديدة لتشكيل الحكومة في 2011، وخرق الإجراءات والمدد الدستورية الذي رافقها (وهو السلوك الذي أصبح معتاداً بعدها) ما معناه “حلوا المشكلة سياسياً بينكم وأخبرونا، وسنقوم نحن بإيجاد التكييف القانوني اللازم لهذا الحل”. مثل هذا الكلام كارثي فعلاً إذا صح أن الرجل قاله، لأنه يعني أن السياسة هي التي تتحكم بالقانون وليس العكس. لكن بعيداً عن صحة نسب الكلام إليه أم لا، تشير الوقائع الى أن ما يحصل فعلاً في البلاد مصداق لجملة الرجل، سواء كان قالها أم لم يقلها.
لا يمكن حل مشكلة كركوك في ظل النظام السياسي الحالي، إلا إذا تغير هذا النظام جوهرياً في سلوكه وتخلى عن منطق الصفقات والغلبة وتكييف القانون كي يتسق مع رغبات أحزابه وحاجاته. لا توجد مشكلة عراقية عامة واحدة حُلت في ظل هذا النظام، لا مشكلة كركوك ولا غيرها، بل بالعكس ازدادت هذه المشاكل وتعقدت. لا مشكلة كركوك ولا غيرها من المشاكل العراقية الكثيرة، مستعصية على الحل، بل النظام السياسي، عبر الطبقة الحزبية الحاكمة التي تديره، هو الذي يستعصي عليه إيجاد الحلول المؤسساتية الرصينة. تكمن المعضلة هنا في أن هذه الطبقة الحزبية الحاكمة غير مهتمة بإيجاد مثل هذه الحلول، بل هي غير مستعدة لها أصلاً، لأن هذه الحلول تناقض مصالحها وتهدد بقاءها في الحكم وفي مواقع السيطرة والنفوذ. لهذا السبب، سيبقى العراق على درب دائم من الاضطرابات وغياب الاستقرار.
هذا هو باختصار درس العشرين عاماً الماضية.
* أكاديمي وصحافي عراقي
المصدر: النهار العربي